كتب الدكتور جابر عصفور مقالا ضافيا بعنوان لماذا التنوير وليس غيره يعقب فيه علي مقالة سابقة لي بجريدة الأهرام بعنوان إشراق أم تنوير, ولا أملك إزاء اللغة التي غلبت علي هذا المقال إلا الإشادة بما تتسم به من الأدب, والاحترام ولامرية في أن هذا من أدب الإسلام الذي تعلمناه من القرآن الكريم والسنة المطهرة, ومن تراث علماء المسلمين علي مدي الأجيال. بيد أن الكاتب الفاضل قد استهل مقاله باتهام صريح لمقالتي بالخلط بين المصطلحات, مع أن القضية برمتها كما أوضحت في مفتتح مقالتي بجلاء: ليست مطلقا: مقارنة بين مصطلح ومصطلح, ولا مفاضلة بين لفظ ولفظ, بل هي قضية أكثر عمقا من هذا التناول السطحي بكثير, إنها قضية اختلاف بين مفهومين متعاكسين بينهما من الافتراق ما بين الضدين, بل بين النقيضين!! وهما مفهوما الاشراق من جهة والتنوير من جهة أخري. فمفهوم الاشراق بمعناه المنهجي الذي يعرفه دارسو الفكر الإسلامي وكما يتمثل لدي رجالاته هو مفهوم خصب يجمع بين جوانب أربعة يضمها المسلم في إهابه, وهي العقل, والشرع, والقلب, والإرادة, فبالعقل الصحيح الرشيد يصل المسلم الي المعرفة بالله تعالي وصفاته وأفعاله, ثم إلي المعرفة بما يصلح حياته الدنيا, ويقيم العدل في جنباتها, ويدفعها الي التقدم والتحضر, وبالشرع يستقي المسلم المعرفة بمنهج حياته وسلوكه ومعاملاته القائمة علي العدل والانصاف, والحق والخير لنفسه ولمجتمعه وللبشرية بأسرها, وبالقلب تنفتح للمسلم النوافذ الرحبة علي نسائم الوجدان والمحبة والمرحمة السارية التي تتخلل الكون كله, وبالإرادة يتسلح المسلم بصلابة العزيمة التي تدفع به الي خضم الحياة: دفاعا عن الحق, ورفضا للجور والظلم, واستشرافا إلي مستقبل أخلاقي ينأي بالإنسانية عن الأنانية والجبروت. وبهذا الجمع الخصب الرباعي الأبعاد والذي تكفل المفكرون المسلمون كل علي طريقته بإفاضة القول فيه: يتشكل مفهوم الاشراق بأصوله الإسلامية الراسخة. علي الضفة المقابلة يقف مفهوم التنوير لكي يعلن علي لسان سدنته: تقديس العقل وحده, وإفراده بالفعالية, ذلك ان جناحيه, كما قال الكاتب الكريم في خاتمة مقاله المذكور هي العقلانية والتفكير العلمي من ناحية, والدولة المدنية الحديثة من ناحية أخري, واني لأتساءل: اين موقع الشرع من هذه المنظومة المبتورة؟ وأين موقع الوجدان والإرادة منها, وهل هذا إلا إقصاء لبعض المكونات الجوهرية للشخصية الإسلامية الفردية والجمعية؟ وأين موقع النور المنزل الذي قال الله تعالي عنه فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا؟ أما خلط المصطلحات الذي رماني به الكاتب الكريم فمبعثه عدم تنبهه إلي الفرق الدقيق الذي يعرفه دارسو الفلسفة الإسلامية بين الإشراق المنهجي ذلك الذي أدعو اليه وأستمسكك به, وبين الإشراق المذهبي الذي يضرب بجذوره إلي الأفلاطونية المحدثة, بل إلي الفلسفة الغوصية, وغيرها من التيارات الوافدة الغريبة عن الإسلام, وبين الأمرين بون بعيد!! وليت الأمر وقف عند هذا الحد بل تعداه إلي قول الكاتب الفاضل إن التنوير مصطلح إسلامي موجود في تراثنا العربي الإسلامي فهل هذا التنوير الذي يزعم التنويريون انه تقديس العقل, وانكار هيمنة النص, بما يتضمنه ذلك من اقصاء للأوامر والنواهي التي جاء بها الشرع: موجود في تراثنا الاسلامي العربي؟ ثم هل يصلح هذا المفهوم الشائه لأن يكون اسلاميا بعد انكاره لكل تلك القطعيات؟ وأية إسلامية قد أبقي عليها هذا التنوير بعد هذا الإنكار؟ وهل قال ابن رشد أو محمد عبده, أو المعتزلة بإنكار الشرع علي هذا النحو الجازم الصارم؟ ثم ان المرء لتعتريه الدهشة حين يفهم الكاتب الكريم وأضرابه, أن الدعوة الي التوازن بين العقل والشرع والجمع المتبصر بينهما دون الغاء أو اقصاء, أو الدعوة الي الالتزام بالأوامر والنواهي الشرعية: هي دعوة إلي الدولة الدينية!! مع أنا قد كررنا حتي مللنا من التكرار ان الدولة الدينية ميراث أووبي لا يعرفه الإسلام الذي لا يعرف الكهنوت, والذي لا قداسة فيه لبشر, ولا ادعاء فيه لحق الهي, حتي أصبحت هذه المفاهيم التي تفصل الاسلام عن جميع شوائب الدولة الدينية من أبجديات المعرفة بالإسلام ومن أوضح بدهياته, لكن هذا الاتهام المعلب لايزال يصك أسماعنا وأبصارنا وعقولنا, اصرارا عليه وتكرارا له, دون ملل أو كلل!! ويزداد المرء دهشة حين يذكر الكاتب الكريم في ثنايا مقاله: إن ابن سينا وابن طفيل وهما الفيلسوفان المسلمان المعروفان قد نظرا الي العقل علي انه النور الذي يهتدي به الانسان الي الحقائق, اهتداء الساري في الظلمة بالنور الذي يتولد داخل الانسان, ومصدر الدهشة في هذا الفهم ان الفيلسوفين المذكورين في روايتهما لقصة حي بن يقظان لم يقصدا مطلقا: إلي إحلال العقل محل الدين, أو الي ان العقل هو السبيل الأوحد إلي معرفة الحقائق كما فهم الكاتب الفاضل, بل قصدا إلي عكس ذلك تماما, وهو أن العقل حين يكون ناصعا متبصرا فإنه يهتدي الي نفس ما يهتدي اليه الدين في تآزر وائتلاف. فالقراءة الواعية لتلك القصة الذائعة الصيت ناطقة بهذا المفهوم في جلاء, بل إن النظرة الجامعة بين العقل والشرع هي نظرة الفلسفة الإسلامية بوجه عام الي علاقة الحكمة بالشريعة, سواء عند ابن سينا أو ابن طفيل, أو عند الغزالي وابن رشد دون تباين أو اختلاف. ثم ماذا أخيرا عن العنوان الذي اختاره الكاتب الكريم لمقاله المذكور لماذا التنوير وليس غيره؟ الا يعكس ضيقا بالاختلاف وتبرما بالتعددية؟ ثم أين يكون موقع الحوار حين يرفض المتحاورون منذ البدء في إصرار جازم واقصاء حاسم: وجهات النظر الأخري مع ان قبول التعدد والاختلاف من أهم شرائط الحوار, وألزم مقتضياته؟ المزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى