منحته دقات قلبها الحب والأمان والإحساس بالحياة، وعندما سكن هذا القلب وتوقفت دقاته، أدرك سر الروح وحكمة الحياة. إنه حى بن يقظان. هل تستطيع يا صديقى أن تتخيل طفلاً محروماً من شاشة التليفزيون ونور الكهرباء وأزرار الكمبيوتر، بل محروماً أيضا من جدران البيت وملامح البشر، وبرغم كل ذلك استطاع أن يكتشف أغلى نعمة منحها الخالقُ عز وجل للإنسان ووصل لقمة الحكمة والإيمان؟ حى بن يقظان.. طفلٌ صغيرٌ تفتحت عيناه ليجد نفسَه وحيداً بلا أب أو أم فى جزيرة صغيرة بعيدة ولكنه فى الوقت نفسه يجد قلباً يحتضنُه ويمنحه الأمان، قلب غزالة جميلة أرضعته من لبنها وسقته معه حنانها وحبها. هذه الأحداث لن تجدها يا صديقى على أسطوانة الDVD أو تشاهدها فى فيلم كارتون 3D ولكن يمكنك أن تعيش مع تفاصيلِها المليئةِ بالمغامرةِ والخيالِ والعلمِ والمعرفة وكأنك بطلها حى بن يقظان فى القصة التى يرجع تاريخُها للعصرِ الأندلسى منذ أكثرَ من ألفِ عام، كتبها الطبيبُ والفيلسوفُ العربى أبوبكر بن طفيل الذى ولد فى مدينة صغيرة بالأندلس عام 1105م ورحل فى مدينة مراكش بالمغرب عام 1185م. قصة حى بن يقظان التى تعرفها يا صديقى باسم «ماوكلى فتى الأدغال»، تعلمنا أعظمَ دروس الحياة وهى أنك مهما كنت وحيداً فى هذا العالم فلا بد أنك ستهتدى بالفطرة إلى الخالق العظيم. عاش حى بن يقظان فى جزيرة مهجورة من جزر الهند جنوب خط الاستواء بين أحضان الطبيعة وسط الطيور والحيوانات، كان يقلد أصواتها وحركاتها، غطى جسده بالجلد والريش مثلما أرضعته الغزالةُ.. كانت هى الأم والصديقة ترحل فيرحل معها، تجرى فيدب فيه النشاطُ ينبض قلبُها بالحياة فينبض قلبُه بالأمل. إلى أن استيقظ ذات يومٍ فوجد الغزالةَ ساكنةً لا تتحرك، شق صدرَها وعرف أن القلبَ الذى كان ينبض هو الذى كان يمنحها الحياةَ وهنا أدرك حى بن يقظان سرَ الروحِ، وظلت الطبيعةُ التى تحيطُ به فى الجزيرة تمنحه حلولاً لكل علاماتِ الاستفهامِ التى تحيره.. شاهد النارَ التى منحته الضوءَ والدفءَ والطعامَ الناضج، تأمل السماءَ والنجومَ والقمر، اهتدى لكروية الأرض عندما كان ينتظر شروق الشمس ليجدها دائما تشرق من جهة الشرق وتغرب جهة الغرب وأدرك النظامَ الذى يحكم الكون، وكما دهشته الطبيعة التى تحتضنه، اندهش أكثر من دقة ونظام الجسم البشرى، نظر لأعضاء جسده فرأى أنها كلها متصلة تماما كالآلات التى تعزف كلها لحناً واحداً لكل آلة دورها التى تؤديه ليكتمل اللحن فى تناسق وتناغم بديع.. كل هذه التأملات جعلت حى بن يقظان يشعر ويتأكد أنه لا بد من وجودِ خالق عظيم يغير ولا يتغير. مرت السنوات وكبر حى بن يقظان وفى يوم نزل إلى جزيرتِه رجلٌ يدعى (أبسال)، تعلم منه حى بن يقظان لغةَ البشرِ وبالمثل تعلم أبسال من بطلِ قصتنا كيف يهتدى إلى الله عز وجل بالفطرةِ السليمة.. قصة حى بن يقظان كان لها أثرٌ كبيرٌ تجاوز المحيطَ العربى والإسلامى وكانت أول عمل عربى تتم ترجمته إلى اللغة الإنجليزية عام 1708 ميلادية وبعدها ترجمت للغة الإسبانية والألمانية والفرنسية فى عام 1900م وامتد تأثيرها إلى العالم أجمع، فاقتبس منها الكاتب الإنجليزى (دانييل ديفوه) القصةَ الشهيرة (روبنسون كروزو) ومنها كان مسلسل الكارتون الشهير «ماوكلى فتى الأدغال». ولكن تظل قصةُ حى بن يقظان هى النبعُ الخالد الذى ينهل منه الجميعُ ويظل دائما الأصل العربى نابضاً بالحياة، محركاً للخيال، مهداً للإبداع مهما مر الزمان.