عانت مجالات الفنون لأجيال مضت حبس إبداعاتها داخل جدران القاعات، ليراها المبدعون أو دارسو الكليات الفنية أو القليل من شرائح المجتمع محبى اقتناء الأعمال الفنية ومتذوقى مجالات الفنون، وعندما سنحت الفرصة بمساحات أرحب من ميادين تطل على مبان وشوارع نظمت وخططت على طرز معمارية أوروبية، توجت القاهرة التاريخية منذ قرناً من الزمان عنوانا للجمال ليعلو الذوق العام وتتزين معظم الميادين بتماثيل وفنون كان لها إسهامات وتوجهات فى التعبير عن المجتمع وتشكيل الوجدان والعقل بمختلف شرائح الشعب، وهذا ما نشأ عليه أجدادنا وآباؤنا فى تلاحم الفن مع الشارع المصري. ومع تراكم رصيد المبادئ الجمالية والمبدعين لتلك الصروح الباقية ولعل أشهرها على الإطلاق تمثال نهضة مصر للمثال محمود مختار وتماثيل عديدة وضعت فى أشهر ميادين بلادنا تميزت ببصمات فكرية وثقافية وإبداعات التكوين والجمال، وهناك تماثيل أخرى مثل رياح الخماسين، المرأة المصرية وحورس وتمثال سعد زغلول، وميادين أخرى تزينت بأعمال الفنان منصور فرج، وميادين أبدعها فنانون أجانب فى مظلة راعية ومرحبة بكل ما هو جميل ومن بينهم أسدا قصر النيل وتمثال سيمون بوليفار، لتصبح أسماء وملامح تلك الشوارع والميادين عنوانها الفنون والتماثيل الميدانية. أما اليوم .. فقد تبدل الوضع نوعا ما لنرى مشاهد تسىء للفن الميدانى والساحات وكان آخرها تمثال الفنان الراحل فتحى محمود فى مدخل مدينة الحوامدية وكذلك فى محافظتى البحيرة والأسكندرية وتعرضهم للتشويه أخيرا، فى إهدار ليس فقط لعطاء فنانى مصر من المعاصرين، بل تمتد أيدى القبح إلى ما هو أبعد من ذلك للإضرار بفنوننا الفرعونية وأيضاً تراثنا الثقافى من فن قبطى وإسلامي، فى تيار هادم لكل أدوار الفن والثقافة من تحريك المياه الراكدة ودفع مستويات الوعى ونشر ثقافة الرؤية البصرية، وتشويه الصور الجمالية التى كان من الممكن أن تتيح لبعض شرائح المجتمع التفاعل مع لغة الإبداع بمنظومة تحرك روح الابتكار وتدفعنا نحو التطور الإيجابى بمجتمعاتنا التى تستحق أن يتوافر حولها تلك الرؤى بعيداً عن الفوضى,