بعد أن ظن الغرب أن الحروب والمواجهة مع إسرائيل محفز رئيسى لمصر لتعزيز دورها الإقليمي، سعوا لإخراجها من محيطها العربى والإفريقى بالسلام مع اسرائيل وإسناد دور رئيسى لمصر فى مقاومة التغلغل الشيوعى فى أفغانستان، وكانت النتيجة أننا خرجنا حتى من قارتنا ثم اكتشفنا بعد ثلاثين سنة من السلام أن صورة عبد الناصر التى كانت تلهم المناضلين فى غاناوالكونغو وجنوب إفريقيا اختفت وحل محلها صورة نيتانياهو فى القارة السمراء، فبماذا ينصح الآن السيد أحمد أبو الغيط عضو السرية الصامته وأحد فريق عمل رجل الأمن القومى حافظ إسماعيل بعد أن عادت مصر من غيابها وصارت هذا العام رئيسا للاتحاد الإفريقى؟. كان هذا سؤالى البرىء الذى أنهيت به مقال الأسبوع الماضى تعليقا على كتاب «شاهد على الحرب والسلام» لمؤلفه الاستاذ أحمد أبو الغيط، فجاءتنى من سيادته إجابتان: الأولى فى شكل اتصال تليفونى طويل بدأه بمنحى شهادة ثناء ليست للنشر، والثانية معاهدة ألا أحكم على كتابه إلا بعد أن أنتهى تماما من قراءة كتابه الآخر «شهادتى» لأنى سأجد فيه ما يسر الخاطر وينصف الغائب ووقتها لكل حادث حديث!. وكان عنده الف حق، فلو تركت العنان لوجدتنى أتصل به عقب كل فصل وورقة وفقرة مستفسرا ومتسائلا ومستعجبا وشاكرا، لكنى أجدنى أعود للكتاب لأحيى من خلاله ذكرى مرور 41 سنة على استقالة محمد إبراهيم كامل وزير خارجية مصر قبل يوم واحد من توقيع اتفاق السلام فى كامب ديفيد فى مثل هذه الأيام من مارس عام 1978، وأيضا بالعيد ال 30 للمفاوض المصرى الذى خاض أعنف المعارك القانونية والسياسية لتأكيد السيادة المصرية على طابا فى مثل هذا اليوم عام 1989!. ولكن كيف أحيى ذكرى تحرير طابا برجل استقال, احتجاجا, قبل يوم واحد من توقيع اتفاق كامب ديفيد الذى ترتب عليه الانسحاب من كل سيناء! وإجابتى الخاصة أن الاستقالة حدث نادر فى تاريخ مصر وخصوصا هذا الرجل الوطنى الذى كان ضمن خطة الخداع الاستراتيجى فى معركة السلام، فالمعارض يشد أزر المفاوض، ولولا وجود محمد إبراهيم كامل وأمثاله فى وفد التفاوض ما شعرت إسرائيل أن مجرد السلام مع مصر كنز استراتيجي، وإبراهيم كامل كما يشهد أحمد ابو الغيط كان يجيد التفاوض والخروج من المواقف بدبلوماسية، ففى خلال زيارة إلى تل ابيب فوجئ فى حفل العشاء ببيجين رئيس الوزراء يتحدث عن معاناة اليهود وطردهم من مصر وحق إسرائيل فى الاحتفاظ بغنائم الحرب العدوانية التى فرضت عليها، كما انه لا يقدم شيئا مقابل لا شيء، فيجب ألا نترك سيناء دون بقشيش، فنظر ابو الغيط الى وجه إبراهيم كامل وكان قد أعد له كلمة مجاملة قصيرة تناسب العشاء، لكنه لم ينظر فيها وارتجل كلمة اتهم فيها بيجين بتسميم العشاء بقناعات فارغة ليس هذا الحفل هو المكان المناسب لها، وأن المبادئ التى حددتها مصر بشأن الانسحاب الكامل من كل الأراضى العربية هو الأساس الذى يبنى عليه السلام، وبهتت القاعة وتكهرب الموقف ولم يشرب ابراهيم كامل ووفد التفاوض المصرى اى نخب، وبعد الحفل تجمع الوفد لتحية الوزير الذى كان اداؤه قويا وحازما، وبفضل العشرات من هذه المواقف تمكن المفاوض المصرى من استرداد سيناء كاملة، «واستطاع السادات وضع الاسرائيليين فى مأزق كان باب الخروج الوحيد أمامه هو الانسحاب الكامل من كل سيناء» واكتمل الانتصار فى معركة طابا، وقال ابو الغيط أن السادات كان يعرف متى يحارب ومتى يتوقف القتال لتبدأ الدبلوماسية!.. وحول سؤالى لماذا خرجت مصر من إفريقيا بسبب السلام؟.. قال إننا لم نخرج من أفريقيا بعد السلام، لكننا خرجنا بعد 5 يونيو 1967لأن الهزيمة وضعتنا أمام خيارين إما أرضنا أو أفريقيا، فاختار عبد الناصر مصر أولا، وبعده السادات اختار مصر أولا! الآن المسرح اختلف وأصبح للقارة الإفريقية احتياجات أخرى لا تستطيع إمكانيات مصر إشباعها، تحتاج مدارس ومصانع ومستشفيات ومشاريع تجارية واستثمارات، وعتابى على الرأسمالية المصرية التى لا ترغب فى الخروج من السوق المصرية واختراق السوق الإفريقية، والحكومة تبنى مصر من جديد الآن لو خيرت بين كوبرى فى الكونغو وكوبرى على النيل لاخترت على الفور كوبرى على نيل أسوان، فلو قدمت مصر لإفريقيا 10 ملايين دولار قدمت الصين مشروعا بمقدار 10 مليارات دولار!. فهل تنجح الدبلوماسية الآن فى استعادة ماضاع من منطلق أن أمن مصر القومى يجعل كوبرى على النيل فى نفس أهمية قيام حكومتنا ببناء مصنع فى كينيا أو طريق فى تشاد، وأن تكون عودة مصر لرئاسة الاتحاد الإفريقى مؤشرا على الثقة ونقطة بداية لاستعادة المكانة وتعويض ما فات؟! لمزيد من مقالات أنور عبد اللطيف