قد يتقرر اليوم ما سيكون عليه العالم عام 2050، كما يجرى الإعداد لما سيكون عليه عام 2100. وبحسب النهج الذى سننهجه سيتحدد ما إذا كان أطفالنا وأحفادنا سيعيشون بعالم قابل للحياة أم سيعانون جحيماً مقيتاً. ولكى نترك لهم كوكبا يمكن الحياة فيه علينا أن نتحمل مشقة التفكير بالمستقبل، وأن نفهم ما مصادره وكيف نتعامل معه، وهذا أمر ميسور، فالتاريخ يخضع لقوانين تسمح بالتنبؤ به وتوجيهه. ........................ لقد أحكمت قوى السوق خناقها على الكوكب وأصبحت تعبيراً نهائياً لانتصار الفردية، وهذه المسيرة المظفرة للمال تفسر لنا جوهر القفزات الفجائية الأخيرة للتاريخ، سواء كانت من أجل تسريعها، أو رفضها، أو التحكم فيها. وإذا ما تراجعت الإنسانية أمام الولوج إلى هذا المستقبل، وقامت بقطع الطريق على العولمة بالعنف قبل أن تتحرر من استلاباتها السابقة، فسوف تهوى فى حروب بربرية رجعية متعاقبة، وتخوض معارك مدمرة، مستخدمة الأسلحة المستبعد استخدامها اليوم، علاوة على اتساع سطوة الكيانات الإرهابية والقراصنة. بوسعنا إذن أن نقص حكاية الخمسين عاماً المقبلة، فقبل عام 2025 ستنتهى هيمنة الإمبراطورية الأمريكية، وهى الهيمنة العارضة فى التاريخ شأنها شأن كل سابقاتها: ومن ثم سنشهد إقلاع وانتهاء كل من الموجات الثلاث للمستقبل، الواحدة تلو الأخري: أى الإمبراطورية الفائقة، والصراع الفائق، والديمقراطية الفائقة، وهما بالأحرى موجتان قاتلتان، والثالثة مستحيلة. بالطبع ستختلط هذه الموجات الثلاث للمستقبل معا؛ وهى الآن فى طور التجريب ويؤمن البعض من علماء المستقبل بانتصار الديمقراطية الفائقة فى حوالى عام 2060، باعتبارها تكويناً أعلى لنظام الإنسانية وتعبيراً نهائياً عن القوة المحركة للتاريخ، التى هى الحرية والعدالة.وإذا كان التاريخ يتأسس على انتصار الحرية الفردية، فإن هذه الغاية لن تجعله إذن قابلاً للتنبؤ. وهناك بعض الأمثلة للاقتناع بذلك. فلو لم يحدث فى العالم 1914 أن أخطأ إرهابى هدفه فى سراييفو، لما كانت الحرب العالمية الأولى قد اندلعت، او لم تكن قد حدثت على أية حال بهذا الشكل. ولو أن هتلر لم يقم بغزو روسيا عام 1941 لكان بوسعه أن يموت فى سريره وهو بالسلطة ِشأنه شأن الجنرال فرانكو، ولو أن اليابان فى العام نفسه هاجمت روسيا بدلاً من الولاياتالمتحدةالأمريكية لما كانت هذه الأخيرة قد دخلت الحرب، ولما قامت بتحرير أوروبا، مثلما لم تعمل أبداً على تحرير إسبانيا أو بولندا، ولكانت فرنسا وإيطاليا وبقية أوروبا قد ظلت تحت الحذاء الهتلرى على الاقل حتى نهاية أعوام السبعينيات. وأخيراً، لو لم يمت يورى أندروبوف السكرتير العام للحزب الشيوعى السوفيتى عام 1984 على نحو سابق لآوانه. ولو أن من خلفه هو جريجوى رومانوف، كما كان متوقعاً، بدلاً من ميكائيل جورباتشوف، لربما ظل الاتحاد السوفيتى موجوداً حتى الآن. ولو لم يتحرك يوسف صديق قبل موعد الثورة ليلة 23يوليوعام 1952ونجاحه فى انقاذها لربما ظل ورثة محمد على يحكمون مصر حتى الآن. من العبث أيضاً محاولة التنبؤ بالمستقبل، فالعالم الأفضل ليس من السهل بلوغه إلا من خلال غيبية كونية، وهؤلاء الذين فكروا بعد ذلك فى مستقبل الأرض (من فلاسفة وفنانين وقضاة ثم حكماء وعلماء اقتصاد واجتماع وروائيين ومستقبليين) مازالوا يصفونه بعد، كإطالة ساذجة لحاضرهم الخاص.لقد تنبأ الجميع فى نهاية القرن السادس عشر بأن ظهور حروف الطباعة المتحركة فى أوروبا لن يعمل إلا على تقوية السلطتين المهيمنتين حينئذ، وهما الكنيسة والإمبراطورية؛ وكذلك الحال فى نهاية القرن الثامن عشر، إذ لم تر غالبية المحليين فى آلة البخار إلا ألعوبة للتلهى لن تعمل على تغيير شيء فى الطابع الزراعى للاقتصاد، وأيضاً فى نهاية القرن التاسع عشر لم يكن للكهرباء بالنسبة لغالبية المراقبين إلا مستقبل واحد التمكين من إضاءة الشوارع بشكل مختلف. وعلى نفس المنوال فى مستهل القرن العشرين، حين تنبأ البعض بظهور الغواصة والطائرة والسينما والراديو والتليفزيون، ولم يعتقد أحد، بما فى ذلك جول فيرن، بأن هذه المخترعات بإمكانها أن تقوم بتعديل النظام السياسى الذى كانت تهيمن عليه الإمبراطورية البريطانية. كذلك مع نهاية القرن الماضى تعامل الكثيرون أيضاً مع الحاسب الشخصى والإنترنت باعتبارهما عوارض قليلة الأهمية. ونادرون هم من تخيلوا حدوث الزواج المثلى. وأخيراً، بل مؤخراً هناك قلة من المحللين من تنبأوا بعودة الإسلام إلى مسرح التاريخ. واليوم أيضاً، نجد أن غالبية الوصفات عن المستقبل ليست سوى تقديرات استقرائية للتوجهات الحادثة بالفعل، فقليلون هم الذين يخاطرون بتنبؤات خارجة عن السياق، أو يعلنون عن مفارق طرق، أو انقلابات، أو تغييرات للنموذج السائد، خصوصاً على صعيد الأخلاق، والثقافة أو الإيديولوجيا، أو على الأقل يتوقعون اختلاجات إيديولوجية بوسعها أن تبطئ أو حتى تعترض هذه الانقطاعات العميقة.ومع ذلك، ففى نصف القرن القادم سوف يتغير كل شىء فى اتجاهات متعددة. وهذا أمر ظاهر الوضوح كما يرى بعض علماء المستقبل.سوف يبدأ كل شىء بانقلاب سكانى. ففى عام 2050 سيصل تعداد سكان الأرض، إذا لم تحدث كارثة هائلة، الى تسعة مليارات ونصف المليار نسمة، أى بزيادة ثلاثة مليارات عن تعدادهم اليوم، كما سترتفع توقعات الأعمار بالنسبة للفرد فى البلدان الغنية بما يقارب المائة عام للفرد؛ وسوف تركد معدلات الولادة فى هذه البلدان إلى ما يقارب حدها الأدني؛ وبالنتيجة سوف تشيخ البشرية فى اوروبا. ويمكن أن نحصى زيادة ثلاثمائة وستين مليون نسمة إضافية بالصين، وستمائة مليون نسمة إضافية بالهند، وزيادة مائة مليون نسمة فى نيجيريا وكذلك ببنجلاديش، وزيادة ثمانين مليون نسمة بالولاياتالمتحدةالأمريكية، وزيادة تسعة ملايين نسمة بفرنسا ونقص عشرة ملايين عن الرقم الحالى بالمانيا، وربما نقص ثلاثين مليونا فى روسيا. وسوف يعيش ثلثا سكان الكوكب بالمدن التى سيتضاعف عدد سكانها، وسيتوجب مضاعفة كمية الطاقة والمنتجات الزراعية الاستهلاكية، كما سيتضاعف عدد الأفراد فى سن العمل؛ وسيوجد ثلثا الأطفال المولودين فى ذلك العام بالبلدان الأكثر فقراً.ومن الوارد ايضاً أن تحدث انقلابات أخرى يمكن أيضاً التنبؤ بها ببعض التحديد، ومراقبتها على المدى البعيد، لكن التاريخ سوف ينساب بالفعل فى اتجاه وحيد، عنيد وشديد الخصوصية، فلم تتمكن أى نكسات، مهما طالت، حتى الآن من أن تغير مساره على نحو دائم، فمن قرن إلى قرن، فرضت الإنسانية علو مقام الحرية الفردية على أى قيمة أخرى، أو بمعنى آخر أن التاريخ الإنسانى هو تاريخ بزوغ الفرد موضوعاً للحق، مسموحا له بالتفكير وبالتحكم فى مصيره، حراً من أية ضغوط، وإن لم يعن ذاك احترام حق الآخر فى الحريات نفسها. هذا التطور، الذى مازال حكراً للأكثر غنى، يقود إلى الاختصام الدائم مع الجموع،المهمشة ويولد قوى جديدة. وخلال أزمنة طويلة، تركت مسئولية السلطة المطلقة لقادة الحرب، والكهان، وأمراء الممالك والإمبراطوريات؛ وبعد ذلك إلى طبقة جديدة قائدة، أكثر اتساعاً وتحركاً، هى طبقة التجار وبظهورهم منذ ما يقرب من ثلاثين قرناً فرضوا أنفسهم تدريجيا، ومنذ ذلك الحين فصاعداً راحوا يصيغون قطاعا متنامياً من واقع العالم وتحكموا بالمستقبل تدريجياً، ورغم ردود الفعل التى ازدادت عنفاً، تغير وضع السوق. وجرى منح الخدمات الأساسية (المواد الغذائية، الملابس، الترفيه، الإسكان، المواصلات) أولاً: بشكل مجانى طوعاً أو تحت الضغوط لخدمة التجار؛ ثم بعد ذلك حولوها إلى بضائع مصنعة، ومنتجات غزيرة، وأدوات ضرورية للحرية الفردية. تدريجياً ايضاً أسهمت حرية السوق فى خلق الحرية السياسية؛ أولاً: لأقلية من الناس، وبعد ذلك للكثيرين، ليحلوا فى كل مكان محل السلطات الدينية والعسكرية. فتحرك قلب السلطة بمجموع ديمقراطيات السوق شيئاً فشيئاً نحو الغرب، منتقلاً منذ القرن الثانى عشر من الشرق الأدنى على البحر المتوسط إلى بحر الشمال، ثم إلى المحيط الأطلنطى، وأخيراً، اليوم، إلى الباسفيكى فى تسعة مراكز تعاقبت منذ ذلك الحين وهي: بروج،البندقية، أنفرس، جنوه، أمستردام، لندن، بوسطن، نيويورك، واليوم إلى لوس أنجلوس. وأصبح مجموع العالم، ما عدا الصين والشرق الأوسط، جزءاً لا يتجزأ من نظام السوق هذا. لقد، قادت المنافسة الاوضاع تدريجيا وباستمرار لمصلحة نخب جديدة متحركة هى نخب سادة المال والخبرة، التى عملت على إيجاد أشكال جديدة من اللامساواة. ولو أن هذا التاريخ الذى يعود لآلاف الاعوام تابع مسيرته خلال نصف القرن القادم فقد تنتشر الديمقراطيات ونظام السوق إلى كل مكان لم يصل إليه بعد وسيتسارع النمو ويرتفع مستوى المعيشة وتختفى الديكتاتوريات فى الدول التى لا تزال تسيطر عليها لكن الخداع والتهميش سيصبحان القواعد السائدة وستصبح المياه والطاقة أكثر ندرة وسيتعرض المناخ للاخطار وستتعاظم اللامساواة وتتفاقم أشكال الحرمان والنزاعات. ويرى بعض المستقبليين أن عام 2035 سوف يشهد هزيمة الولاياتالمتحدةالأمريكية فى نهاية معارك متوالية وفى قلب أزمة بيئية كبرى وذلك بواسطة عولمة السوق. وبإنهاكها مالياً وسياسياً شأنها شأن الامبراطوريات التى سبقتها ستتوقف الولاياتالمتحدة عندئذ عن إدارة العالم ولكنها ستظل هى القوى الرئيسة بالكوكب فلن تحل محلها امبراطورية أخرى ولا أمة مهيمنة أخرى وسيصبح العالم على نحو مؤقت يدار بواسطة عدة قوى إقليمية. كل هذا لن يحدث بالطبع بغير صدامات مخيفة؛ فقبل اختفاء الإمبراطورية الأمريكية وقبل أن يصبح المناخ فى وضع لا يطاق، ستقوم حروب لا تحصى بين الأمم، والقراصنة، والمرتزقة، وعصابات المافيا، والحركات الدينية المسلحة بأسلحة جديدة، وأدوات رقابة، وردع، وقتال تستخدم النوابض الإلكترونية، والمكتشفات الجينية، والنانوتكنولوجية. فضلاً عن أن قدوم الإمبراطورية الفائقة سيجعل من كل طرف خصما للجميع، فسوف تحارب الدول من أجل البترول، والمياه. وحوالى عام 2060، أو قبل ذلك إذا لم تختف البشرية تحت طوفان القنابل لن تكون الإمبراطورية الأمريكية، أو الإمبراطورية الفائقة، أو حقبة الصراعات الفائقة متسامحة؛ لذا ستتولى السلطة آنذاك على صعيد العالم قوى جديدة إيثارية وغيرية، وهى قوى ستتشكل من ضرورات بيئية وأخلاقية واقتصادية وثقافية وسياسية، وسوف يتمرد هؤلاء وسوف يقودون المسار تدريجياً نحو توازن جديد بين السوق والديمقراطية على صعيد كوكبى هذه المرة.عندئذ ستقوم المؤسسات العالمية والقارية، بفضل التقنيات الجديدة، بتنظيم الحياة الجماعية. وسوف تعلى من شأن المجانية، والمسئولية، والتمكن من المعرفة، وتجعل من الحاجة لذكاء عالمى أمرا من السهل بلوغه، جامعة بذلك الطاقات الإبداعية لكل البشر من أجل التقدم وسوف يقوم اقتصاد جديد، وسينمو هذا الاقتصاد بالمنافسة مع السوق قبل أن ينتهى هذا الأخير بتأثير هذه المنافسة، بالضبط كما وضع السوق منذ عدة قرون نهاية لعصر الإقطاع. فى هذه الأزمنة التى هى أقرب مما نتصور ستتحول الديمقراطية ويتحول السوق، بالمعانى التى نتداولها اليوم، إلى مفاهيم تم تجاوزها، وإلى ذكريات مبهمة، من الصعب فهمها كما هو الحال اليوم فى صعوبة تفهم أكل لحم البشر أو تقديم القرابين البشرية. إن كل شيء ينبئ عن تحول تدريجى للإنسان إلى سلعة، وعن توسع الظلم وعدم الاستقرار والعنف؛ وهناك ما يشير إلى دخولنا فى ظلام ما قبل الحرب، إذ ترد الدول الأكثر تقدماً على البربرية بمثلها وعلى الخوف بالأنانية وعلى الإرهاب بالقمع. لذا يبدو، أنه من العقل أن نسلم بأن عالمنا لن ينشئ ابداً ديمقراطية عالمية متسامحة وسليمة ومتنوعة وموحدة. ومع ذلك تبدو هذه الديناميكية آخذه فى التحرك، أى إلى الخير بعد السوق والحرب.