أكتب إليك عن حكاية أو قل مأساة واحدة من قريباتي بعد أن أعيتني الحيل لحل مشكلتها، فأنا سيدة علي المعاش، كنت أشغل وظيفة مهمة بجهة مرموقة، وكان زوجي رحمه الله مديرا لشركة كبري، وأنجبنا ثلاثة أبناء، تخرجوا في جامعاتهم، وتزوجوا، وصارت لهم أسر مستقرة، وتمضي حياتي بلا متاعب، ولا أعاني أي مضايقات، ويزورني أولادي بانتظام، ولي ابنة خال تعدت الخمسين من عمرها، وكانت قد تعرضت لحادث في صغرها أقعدها عن الحركة، وأصبحت أسيرة المنزل، وخرجت من المدرسة، بعد المرحلة الإعدادية، ومع أنها جميلة، فإن ظروفها الصحية حالت دون زواجها، وعاشت مع والديها، في حين تزوّج أشقاؤها، وهم رجلان، وثلاث سيدات، وأراد أبوها أن يمنحها ما يساوي المساعدة المالية التي أعطاها لكل واحد من إخوتها، فتكون سندا لها في الحياة بعد رحيله، فسجّل لها عدة قراريط من الأرض الزراعية التي يملكها في زمام قريتهم. وظلت أخواتها يتناوبن خدمتها، ويسهرن علي راحتها إلي أن رحل الوالدان عن الحياة، فتباعدت زيارتهن لها، مما أثّر كثيرا في نفسيتها، وعانت الأمرين في قضاء متطلباتها الشخصية، وإذا مرضت لا تجد من يعطيها الدواء، ولا من يعد لها الطعام، ولاحظت جارة لهم ما تعانيه، فأسرعت إليها، وساندتها، وخدمتها بإخلاص دون أن تنتظر مقابلا، وعرف إخوتها بصنيع هذه السيدة، فازدادوا بعدا عن أختهم، وكأنها عبء تخلّصوا منه، وصبرت المسكينة علي هذا الجفاء، وكتمت أحزانها في نفسها، وكنت كلما زرتها ألمح نظرة الانكسار في عينيها، فأفهم ما يدور بداخلها، وأتعجب من موقف أخوتها، وكم تمنيت أن أكون قريبة منها لأزورها كل أسبوع، وأقضي معها بعض الأيام، فهي نموذج لا يتكرر من صفاء القلب، وعزة النفس، ولا تحمل ضغينة لأحد، وحتي إخوتها الذين لا يهتمون لأمرها لم تذكرهم يوما بكلمة سوء، وكلما جاء ذكرهم في سياق أي حديث بيننا، أجدها تختلق المبررات لهم، وتقول: «ربنا يعينهم علي إللي هم فيه». واستمر هذا الوضع عدة سنوات، ثمّ رحل شقيقهم الأكبر عن الحياة بعد مرض استمر شهورا، وصارت شقيقاتها يتعاملن مع الشقيق الآخر بحساسية مفرطة، لدرجة أنه لم تجرؤ أي واحدة منهن علي مفاتحته في طلب ميراثهن من أبيهن، إذ استولي علي كل شىء، واستأثر لنفسه بالأرض كلها، حتي أبناء شقيقه الراحل لم يعطهم شيئا، ولم ينازعه أحد في المحاكم بدعوي الحفاظ علي صورة العائلة، وكنت أسمع هذا الكلام وأتعجب من سكوتهن، ف «الساكت عن الحق شيطان أخرس» كما يقولون ، وراح شقيقهم يفكّر في عمل مشروع صغير يدر عليه دخلا بجانب معاشه، وإيجار الأرض التي استولي عليها من إخوته، وعرض علي زوج الجارة التي تساعد أخته أن يشتري له سيارة أجرة يعمل عليها، علي أن يعطيه مبلغا ثابتا من عائدها، دون أن يتحمّل هو أي أعباء خاصة بالإصلاح والصيانة وغيرهما، فوافق الرجل، وبدأ العمل علي السيارة، لكن الوقت لم يطل، فلقد وقع حادث مؤلم تحطّمت فيه السيارة، وأصيب الرجل بإصابات بالغة نقل علي أثرها إلي المستشفي، وهناك لفظ أنفاسه الأخيرة، وبدلا من أن يتعظ قريبي ويعيد الحقوق التي سلبها من شقيقاته، وأبناء شقيقه الراحل، ويحمد الله علي إنه لم يصب بمكروه في الحادث، ويدرك أن الله رحيم به، وأنه عزّ وجل يعطيه فرصة جديدة للرجوع إليه.. أقول بدلا من أن يفعل ذلك، إذا به يحاول ملاحقة الجارة للحصول علي تعويض عن السيارة، وتربص أولاده بها، ومنعوها من التردد علي عمتهم، والأدهي أنهم سعوا إلي اغتصاب قطعة الأرض التي سجلها لها جدهم، وتجاهلوا أن لها حقوقا في الميراث الذي لم يتم توزيعه بعد مازالت بحوزة أبيهم، بل ومنعوا كل الجارات من زيارتها لأي سبب، فأصابها الاكتئاب، وضاقت الدنيا من حولها، فباعت جزءا من الأرض، وأدت فريضة الحج، وسهّل الله لها الأمور، فلم تتركها السيدات اللاتي كن يؤدين الفريضة معها لحظة واحدة، وبعد عودتها إلي منزلها، فوجئت بأن الحصار الذي نصبه أبناء شقيقها لها قد اكتمل، حيث بدأوا في مطالبتها بحقهم في بيت العائلة، أو التنازل عن قطعة الأرض التي تملكها لهم، وتجاهلوا أنهم وأباهم هم الذين اغتصبوا حقوق الجميع.. وعلمت بذلك في زيارتي إليها، وعند هذا الحد فاض بي الكيل، فقررت أن أخوض ضدهم «معركة عائلية»، فذهبت إلي واحد من كبار رجالها، فوجدته مطلعا علي مشكلة هذه السيدة، إذ قال لي إنه التقي شقيقاتها، وسألهن عن سبب قطيعتهن شقيقتهن، فقلن له: إنهن يخشين علي شقيقهن من أن يحدث له مكروه، إذا تواصلن معها، لأنها باعت عدة قراريط لأداء الحج، وأن شخصا غريبا دخل بينهم في ملكية الأرض، فقلت له: وهل يعقل ذلك؟، فأكد لي فشله في إقناعهن بالعدول عن موقفهن، وأن تحذيراته لهن من ظلم شقيقتهن التي تعاني ظروفا خاصة لم تجد صدي لديهن، وأنه عندما ذهب إلي شقيقهن لبحث الأمر معه منعه أبناؤه من الالتقاء به. إن قريبتي المسكينة توشك علي الجنون بعد أن كانت «ست العاقلين».. نعم يا سيدي، إذ كنا نحسدها علي جمالها، ورجاحة عقلها، ولو لم تتعرض لذلك الحادث القديم، لكان لها اليوم شأن آخر، وهي تمر الآن بحالة اكتئاب شديد، وأخشي أن تتدهور حالتها إلي ما هو أسوأ من ذلك، ولا يشغلني شئ سوي انتشالها من براثن الوحدة، وقد عرضت عليها أن تأتي للإقامة معي في القاهرة، لكنها اعتذرت، وقالت إنها تريد أن تموت في بيتها.. إنني أبكي ليلا ونهارا، وقد عجزت عن أن أقدم لها شيئا، وكل ما باستطاعتي أن أفعله هو أنني أتصل بها يوميا، وأزورها كل عدة أيام، كما تزورها بعض الجارات علي فترات متباعدة بعيدا عن أعين المتطفلين الذين ينقلون الأخبار إلي أبناء شقيقها، وأرجو منك أن توجه كلمة إلي الجميع بأن يتقوا الله فيها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول: أي صنف من البشر هؤلاء الحمقي؟.. إن الأحمق وماله سرعان ما يفترقان، وسوف يدركون جميعا ذلك بعد فوات الأوان بمن فيهم شقيقاتها اللاتي استجبن لضغوط أخيهم وأبنائه بعدم زيارة أختهن، وسكتن علي أكل ميراثهن بالباطل، وأذكرهم جميعا بما توعد الله به الظالمين من تعجيل العقوبة لهم في الدنيا؛ حيث قال الرّسول صلّي الله عليه وسلّم: «ليس شيءٌ أُطِيعَ اللهُ تعالي فيه أعجلَ ثواباً من صلَةِ الرحِمِ، وليس شيءٌ أعجلَ عقاباً من البغْيِ وقطيعةِ الرَّحم»، ولذلك فإنّ عقوبة الظالم قد تظهر في خاتمته، فتكون نهايته أليمةً شديدةً؛ وفي الحديث الشريف أيضا: «إن اللهَ ليُملي للظالمِ، حتّي إذا أخذه لم يفلتْه»، ويقول الله تعالي: «وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَي وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» (هود 102)، كما أنّه سبحانه وتعالي يخزيه في الدنيا، ويذيقه مرارة الحياة وذلّها، ثمّ يذيقه عذاب الآخرة يوم القيامة، ومن مظاهر العقوبة الدنيويّة حرمانه من البركة وزوال النِّعم، فقد قال تعالي في سورة القلم، عن أصحاب الجنّة الذين عزموا علي عدم إعطاء الفقراء حقّهم منها: «إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلَا يَسْتَثْنُونَ، فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ، فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلَي حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ، فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ، أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ، وَغَدَوْا عَلَي حَرْدٍ قَادِرِينَ، فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» (القلم27:17). أما دعوة أي مظلوم حتي غير المؤمن بالله، فإن أثرها عظيم، وقد ورد عنه صلّي الله عليه وسلّم أنه قال: «اتّقوا دعوة المظلوم، وإن كان كافراً، فإنّه ليس دونها حِجاب»، حيث جعل الله الدّعاء سلاحاً للمظلوم؛ ليرفع به الظلم عن نفسه، فينصره، وينتقم له مِمّن ظلمه، وقد جُعِل لدعاء المظلوم شأن عظيم في السماء، وفي الحديث الشريف: «دعوةُ المظلومِ تُحمَلُ علي الغَمامِ، وتُفتَحُ لها أبوابُ السَّمواتِ»، ويقولُ ربنا تبارَك وتعالي فى حديثه القدسى «وعِزَّتي لَأنصُرَنَّكِ ولو بعدَ حِينٍ»؛ والسّبب في ذلك أن المظلوم يكون منكسرا، ومحتاجاً، وضعيفا لا يملك نصرة نفسه، ولا الاستنصار بغيره من النّاس لدفع الظلم عنه. ألا يوقن شقيق هذه السيدة وأبناؤه أن دعوةَ أخته عليهم سهم لا يخطِئ، وسلاحٌ لا يُبقِي، وإن طالَ الدهرُ، وصدقَ القائلُ حين قال:
لا تظلِمنَّ إذا ما كنتَ مُقتدرًا فالظلمُ ترجِعُ عُقباهُ إلي النَّدَمِ تنامُ عيناك والمظلومُ مُنتبِهٌ يدعُو عليكَ وعينُ الله لم تنَمِ ومن أزجَرِ ما نُقِل في التاريخ، قصةٌ عن خالد بن عبد الله البَرمَكيِّ وولده في حوارٍ بينهما وهُما في السجنِ، فيقول له: «يا أبَتَاه: لقد صِرنا بعد العِزِّ والمُلكِ في القَيْدِ والحبس، فقال له: يا بُنيّ: دعوةُ مظلومٍ سَرَت بليلٍ غفَلنَا عنها والله لم يغفَل عنها»، وقد يكون الظلم بأخذ الأموال عن طريق سرقة أو إتلاف أو تحايل أو خداع أو غش، وهذا ظلم عظيم، وكم ترتب عليه من القطيعة بين الأقارب والجيران والإخوة، وهناك من استؤمن علي مال لحفظه، أو استثماره ثم خان، وتلاعب، وأهمل، وفرط، وخدع، وكذب، فالويل له من ذلك المنقلب والموعد عند الله.. قال أحدهم: «استدنت من رجل مبلغا، وعند حلول الأجل حضر للمطالبة بحقه، فطردته وأنكرت أنه أعطاني شيئًا، ولم يكن قد أخذ مني إثباتًا بذلك، وبعد ثلاثة أشهر خسرت أضعاف ما أخذته منه، ومنذ ذلك اليوم والخسارة تلازمني، وقد نصحتني زوجتي بإرجاع المبلغ لصاحبه؛ لأن ما عند الله من العقوبة شديد، ولم أستمع إليها وتماديت حتي خسرت أعز ما أملك وهم أبنائي الثلاثة في حادث سيارة واحدة، وأمام هذا الحدث الرهيب قررت إعادة الحق لصاحبه وطلبت المسامحة حتي لا يحرمني الله من زوجتي وابني الذي رزقني الله به بعد رحيلهم».. إنها تجارب الحياة التي تؤكد أن الاستيلاء علي أموال الناس وممتلكاتهم بالقوة ظلم عظيم، وقد حكت كتب التاريخ عن وزير ظلم امرأة، وأنه أخذ مزرعتها وبيتها فشكته إلي الله فأوصاها مستهترًا وقال: عليك بالدعاء في الثلث الأخير من الليل، فأخذت تدعو عليه شهرًا فابتلاه الله بمن قطع يده وعزله وأهانه، فمرت عليه وهو يجلد فقالت: إذا جار الوزير وكاتباه وقاضي الأرض أجحف في القضاء فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلُ لقاضي الأرض من قاضي السماء وأشد أنواع الظلم هو ما يقع من الأقارب، فيتجرع المرء مرارته علي أيديهم، وهم لا يبالون بسوء العاقبة، وفي ذلك يقول الشاعر: وظلم ذوي القربي أشد مضاضة علي النفس من وقع الحسام المهند إن عاقبة الظلم وخيمة، ونهاية الظالمين أليمة، والمتأمل في سيرهم يري في مصارعهم أعظم العظات والعبر، ففي أي واد يهلكون؟ وأي خزي يجللهم في الدنيا قبل الآخرة؟، فعلي الباغي تدور الدوائر، ويبوء بالخزي، ويتجرع مرارة الكارثة والعقوبة، وينقلب خاسئاً، فلقد اقتضت سنة الله إهلاك الظالمين، وقطع دابر المفسدين، والغالب أن الظالم يعجلَ الله له العقوبة وإن أمهله بعض الوقت، وتأكيد ذلك قوله تعالي: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ» (الفجر:14)، وقد انفعل أحد الشعراء بما يرتكبه الظالمون فأنشد قائلا: وكل نفس ستجزي بالذي عملت عواقب الظلم تخشي وهي تنتظرُ وأقول لهؤلاء: تذكَّروا موقِفَكم بين يدَي الله، واخشَوا علي أنفسِكَم من دعوةِ أختكم بليلٍ والناسُ نِيامٌ، فالظالم تدورُ عليه الدوائرُ، وتحُلُّ به المثُلاتُ وإن طالَ الدهرُ وامتدَّ الزمانُ، فلترجعوا عن ظلمكم أختكم، ولتصلوا رحمها ولتقدموا يد العون لها، فهي لم ترتكب ضدكم إثما ولا جريرة، كما تعاني مرارة العجز منذ الحادث المؤلم الذي تعرضت له في صغرها، وإن الله علي نصرها لقدير، وإنني أحييك يا سيدتي علي سعيك ومثابرتك في إزالة الغمة، ومحو الظلمة عن قريبتك المسكينة، وعلي شقيقاتها أن يتقين الله فيها، وأن يصلنها، أما تغاضيهن عن حقوقهن لدي شقيقهن، فليعلمن أنهن يبخسن بذلك حقوق أبنائهن، وعليهن أن يعدن النظر في الأمر برمته، ويبقي التحذير الأخير للشقيق الوحيد، وهو علي فراش المرض بأن يدرك أن ساعة النهاية تقترب، ولن يغنيه أولاده ولا أمواله شيئا، فعليه أن يغتنم الفرصة وأن يتوب إلي الله، ويسلم شقيقاته ميراثهن، وأن يبر شقيقته التي تعاني المرض والوحدة قبل فوات الأوان.