«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بريد الجمعة يكتبه: أحمد البرى..
الضمير الميّت !
نشر في الأهرام اليومي يوم 10 - 08 - 2018

كم فى الدنيا من عجائب وغرائب بعض البشر، إذ تعتقد عندما تقابلهم لأول وهلة أنهم أهل للثقة والراحة والسكينة، ولكن الأيام تثبت عكس ما تصورته، وربما تجدهم أشد قسوة من الخيال، فأنا سيدة أقترب من سن الخمسين، نشأت فى أسرة متحابة، ومترابطة لأبوين كرسا حياتهما لتربيتنا، وقد تزوّج أخوتى بعد إتمام تعليمهم، وهاجروا إلى الخارج، وبقيت أنا وشقيق لى فى مصر، وبعد تخرجنا فى الجامعة التحق هو بوظيفة كبرى فى إحدى الجهات، أما أنا فتنقلت بين أكثر من وظيفة، واستقررت فى هيئة حكومية، وتعرفت خلال عملى على زميل، حاول التقرب لى كثيرا، ولكنى لم أعره اهتماما، فطوال دراستى لم ألتفت إلى العلاقات العاطفية التى تنشأ عادة بين زملاء الجامعة، وكنت دائما على يقين بأن نصيبى فى الدنيا سيأتينى فى الوقت المناسب، وتحريت أن أكون على بيّنة من أمر زوج المستقبل، وكل ما يخص أسرته من مختلف الجوانب، وبعد تدخل عدد من زملائنا، منحت نفسى فرصة للتعرف عليه، وحدّثنى وقتها عن أوضاع أسرته، قائلا إنه نشأ مع أبيه وأخوته، وإنه لا يعرف عن والدته شيئا، إذ حدثت فى صغره خلافات بينها وبين أبيه، فأخذه هو وأشقاءه إلى سكن آخر لا تعرف زوجته عنه شيئا، ثم طلقها وتزوّج بأخرى، وأنجب منها أخوة له، وأعجبتنى صراحته، فطلبت منه أن يبحث عن أمه ليجتمع شمل العائلة، وأثنت أسرتى على موقفى، وراق له كلامى، فسأل المعارف عن مكانها، وبذل جهدا مضنيا حتى وصل بالفعل إليها، وكان موقفه رائعا، مما جعلنى أتعلق به، وأحبه، وأتممنا زواجنا.
ومرت الأيام على ما يرام، وأنا سعيدة به، وبحياتى الجديدة، وأنجبت ولدا جميلا ملأ علىّ حياتى، وتزوّج شقيقى من إنسانة فاضلة، وتتابعت الأحداث فرحل والداى عن الحياة، ووضعت كل اهتمامى فى بيتى، وشيئا فشيئا لاحظت تغيرات طارئة على زوجى، إذ أصبح كثير الخروج لأسباب واهية، وتكرر غيابه عن المنزل بحجة السفر فى مهام لعمله، وكلما سألت عنه زملاؤه بعد سفره أجده غير صادق فى كلامه، وأنه غاب عن المنزل إلى مكان لا أعلمه، وفى كل مرة كنت أتغاضى عن كذبه إلى أن جاء يوم لم أتحمل فيه ممارساته الغامضة، إذ قال لى إنه سوف يسافر إلى الخارج للعمل، وإنه أخذ إجازة بدون راتب، ورفض أن يأخذنا معه، ومضى فى طريقه إلى المطار، وأنا أضرب كفا بكف، واختفى بعد ذلك تماما، وبدا لى أنه يكرر تجربة أبيه مع أمه، وسارعت إلى شقيقى، وشرحت له ما حدث، فهدّأ من روعى، ولم تتركنى زوجته لحظة واحدة، فصارت أختا لى أبثها همومى، وأستأنس برأيها، وأصبح ابنى فى رعاية خاله، فهو «أبوه» الذى رباه، وصار يناديه ب «بابا»، حيث إنه لم ير أباه الذى يحمل اسمه، ولا يعرف له أبا سوى «خاله»، وفى ظل هذا الوضع لم يكن ممكنا أن أظل على ذمة هذا الشخص الذى لم يقدر موافقتى عليه، برغم تحفظات أهلى، ولولا طيبتهم وصدق سريرتهم ما استجابوا لى بالزواج منه، فلقد أصررت على الطلاق، ولجأت إلى المحكمة التى أنصفتنى، ولم أبغ من الانفصال عنه الزواج بآخر، فهذا أمر لم يطرأ لى على بال، وأرفض مجرد التفكير فيه.
واستقلت من عملى، وتولى شقيقى رعايتنا من الألف إلى الياء، فكل كبيرة وصغيرة تخص ابنى وفّرها له، وألحقه بمدرسة لغات، ثم بكلية مرموقة، وصرف عليه أموالا طائلة.. كل هذا ونحن لا نعلم عن أبيه شيئا، كما أننى لم ألتق بأحد من أسرته سوى أخته الكبرى التى تتصل بى من حين إلى آخر، وهى بالطبع تفضى إليه بما تعرفه عنا، لكنه لم يسأل عن ابنه، ولم يرسل إليه مليما واحدا، ولم يساو بينه، وبين أبنائه من زوجته الثانية، وكنت كلما أثرت هذه المسألة، يربّت شقيقى على كتفى، ويقول لى «ابنك هو ابنى»، فأنخرط فى بكاء مرير، وأدعو الله أن ينعم عليه بالاطمئنان وراحة البال، وقد أنجب بنتين رائعتين، فصارتا أختين لابنى، وقد فعل أخى ما لا يمكن أن يفعله غيره، إذ كتب وصية فى جهة عمله بأن توزع مستحقاته فى حالة الوفاة بواقع الثلث لكل من البنتين، والثلث الثالث مناصفة بينى أنا وابنى.. نعم هذا ما حدث، وحاولت إثناءه عن تفكيره، لكنه نفّذ ما أراد، وفى يوم تخرج ابنى فى الجامعة أقام له حفلا كبيرا، دعا إليه الأهل والأصدقاء، ولم يأت بالطبع أحد من عائلة ابنى، وانسابت الدموع من عينىّ، وأنا أرى شقيقى يحتضن ابنى الذى عرّفه لزملائه ب «بابا»، ومر بخيالى شريط الذكريات المؤلمة لمشوار حياتى، وسرعان ما استعذت بالله من الشيطان الرجيم، وفى اليوم التالى للتخرج، طلب شقيقى من ابنى أن يجهز أوراقه لكى يقدمها إلى جهة مهمة للعمل فيها، وبالفعل اجتاز ابنى اختباراتها، وفرحنا به، وعرفت الراحة والاستقرار بعد سنوات طويلة من العذاب، وأصبحت أترقب وصوله كل يوم من عمله، وقد أعددت له الطعام ورتبت له حجرته، أما علاقتى بأسرة شقيقى فهى يومية، فإما أن نكون فى زيارتهم، وإما أن يكونوا فى زيارتنا، وعرضت على إبنى أن نخطب له فتاة من معارفنا، لكنه طلب إرجاء التفكير فى الزواج إلى أن تستتب أحواله فى العمل، وأن تتاح له فرصة اختيار الأنسب له عن قرب.
لقد كانت الأمور تسير هادئة، وليس فيها ما يعكر صفو الحياة، وفجأة هبت علينا الأعاصير من حيث لا ندرى، فلقد أصيب شقيقى بأزمة قلبية، واتصلت بى زوجته، فأسرعت أنا وابنى إليهم، ونقلناه إلى مستشفى كبير، وتبين أنه لابد من خضوعه لجراحة عاجلة، وطلبوا متبرعا بالدم، فتبرع ابنى له، وظللنا خارج غرفة العمليات إلى أن أجريت له الجراحة، وبعدها نقلوه إلى العناية المركزة، وكانت إرادة الله فوق كل شىء، إذ رحل شقيقى عن الحياة، ومات السند الوحيد لنا، وساءت حالة ابنى، فصار يبكيه ليلا ونهارا، ولم يعد لنا حديث مع أرملته وابنتيه سوى عنه، وتغير ابنى تماما، ووجدته يسألنى ذات يوم: «حتعملى إيه يا ماما لو سافرت»، فرددت عليه «أنا معاك»، فقال: «مش عايزك تزعلى»، فكررت عليه ردى «انت ابنى وماليش فى الدنيا غيرك»، وحاولت تغيير مجرى الحديث، وذهبت إلى المطبخ لإعداد بعض المشروبات، ولما عدت إليه وجدته مستلقيا على الأريكة فى الصالة، فظننت أن النوم غلبه، وحاولت إيقاظه، لكنى وجدته بلا حراك، فاستدعيت طبيبا قريبا منا، فجاء على عجل، ومن النظرة الأولى عليه، قال: «البقاء لله»، فلم أدر بنفسى ونقلونى إلى المستشفى، وأنا غائبة عن الوعى، وجاءتنى أرملة أخى وابنتاها، وظللن بجوارى، ولم يتركننى لحظة واحدة، وعرض علينا أحد معارفنا أن يساعدنا فى الحصول على مستحقات ابنى وأخى، ومع أول خطوة فى الإجراءات، عرفنا أن والد ابنى، استخرج له شهادة وفاة، وتسلّم مصاريف الجنازة!، والأدهى من ذلك أنه طالب بحقه فيما آل إلى ابنى من وصية خاله رحمه الله، باعتبار أنه رحل وابنى كان وقتها على قيد الحياة.. هكذا تقول اللوائح المعمول بها.. ولك أن تتخيل أن تصل قسوة إنسان وجبروته إلى هذا الحد.. فهو يملك المال الوفير، ولم يصرف على ابنه طول حياته، ومع ذلك أخذ مصاريف جنازته، ثم يريد أن يأخذ مال بنتين «قصّر»، وأرملة موجودة الآن بالمستشفى فى انتظار جراحة خطيرة.. لقد قالت لى أخته أنه سيأخذ نصيبه رغما عن الجميع، ولا أدرى ما الذى يمكن أن أصنعه مع هذا الشخص الذى لا ضمير له، ولا قلب، ولم يقدر ما فعله أخى من أجل ابنه، ولم يكفه ما حدث لى من جراح لكى يقضى على البقية الباقية من قواى.. إن الدموع لا تفارق عينىّ، والتفكير يقتلنى فى اليوم مائة مرة، وأقضى يومى كله فى المقابر، وأتحسر على حالى، وحال أرملة شقيقى، وابنتيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله الذى أتضرع إليه أن ينتشلنا مما نحن فيه من بلاء، إنه سميع مجيب الدعاء.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
حين تنعدم من القلوب الرحمة وتحل مكانها القسوة، فإنها تصبح مثل الحجارة أو أشد قسوة، لقوله تعالى: «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً» (البقرة 74)، وقسوة القلب تعنى البعد عن الله، وتؤدى إلى الشقاء، «فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» (الزمر22)، وقد قال رسول الله «لا تنزع الرحمة إلا من شقى»، والرحمة رقة وحنوّ يجده الإنسان فى نفسه عند رؤية مُبْتَلَى أو صغيرٍ أو ضعيف، يحمله على الإحسان إليه، واللطف والرفق به، والسعى فى كشف ما يعانيه، فمن خلق اللّه فى قلبه هذه الرحمة الحاملة على الرفق، وكشف ضرر المُبتلى، فقد رحمه اللّه فى المآل، أما من سلبه ذلك المعنى وابتلاه بنقيضه من القسوة والغلظة، ولم يلطف بضعيف، ولم يشفق على مُبتلى، فقد أشقاه الله، فما بالنا أن ما فعله والد ابنك، كان مع أقرب الناس إليه، فلم يهتم لأمر ابنه وترك مسئوليته لخاله، وانصرف إلى نفسه، وبلغت به القسوة إلى حد أنه يريد أخذ ما لا حق له فيه؟، وإذا كان شقيقك الراحل قد كتب وصية بجزء من مستحقاته فى جهة عمله لابنك، فإن ذلك لا يعنى أن هذا المال صار ملكا له، حتى لو أن الأوراق تقول ذلك، فمن يحكم فى الأمر له مستندات لا يستطيع تجاهلها، ولكن يجب على المرء أن يتحاشى الوقوع فى الزلل والمعاصى، وإنى أسأل والد ابنك: هل سيغنيك المبلغ الذى سيؤول إليك من وصية خاله ابنك شيئا؟، وهل يرضيك أن تكون أرملته بين الحياة والموت فى المستشفى، وتحتاج إلى مصاريف باهظة، وأنت تستقطع ما تسميه حقا لك، بدلا من أن تسارع إلى نجدتها ومساعدتها، فتسد ولو جزءا بسيطا من الأموال التى صرفها زوجها على إبنك؟.
إن الشفقة والرحمة بالآخرين أمران يحبهما الله، ويرضاهما لعباده، حيث يقول رسول الله: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء»، ولقد بكى صلى الله عليه وسلم عند موت طفله الصغير إبراهيم، حتى تعجب عبد الرحمن بن عوف من ذلك، فعن أنس بن مالك قال: «دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبى سيْفٍ القَيْنِ، وكان ظِئْرًا لإبراهيم عليه السلام، فأخذ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إبراهيمَ فقبَّلَهُ وشمَّهُ، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يَجُودُ بنفسه، فجعلتْ عَيْنَا رسول الله تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنتَ يا رسول الله؟، فقال: يا ابنَ عوف، إنَّها رحمة»(رواه البخارى).
ومن المواقف التى تعبر عن مدى رحمته بالخَلْقِ جميعاً «الإنسان والحيوان» ما رواه عبد الله بن مسعود، قال: كنا مع النبى فى سفر، فرأينا حُمَّرةً «طائر صغير» ومعها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش «تقترب» من الأرض، فجاء النبى فقال: من فجع هذه بولدها؟، ردوا ولدها إليها. فإذا كانت رحمة رسول الله بالطير قد بلغت هذا المبلغ، فما بالنا برحمة الإنسان لأقرب الناس إليه، «ابنه وأمه»، ومن أسدوا إليه معروفا وإحسانا.
لقد مات ضمير والد ابنك، ولم يعد لديه ذرة إحساس بما يفعله، فعندما يكون الضمير حياً يقظاً، فإنه ينبه صاحبه بعدم الإقدام على فعل الأخطاء والآثام حين يفكر فيها، وقد يكون الإنسان قادراً على الإيذاء، لكنه لا يُقدم بأى حال من الأحوال على هذا الفعل مما بلغت قدرته على ذلك حتى مع من أذاه يوماً؛ أما صاحب «الضمير الميت» فلا يستطيع التفرقة بين الحق والباطل، ولا بين الخير والشر، ولا يشعر بآلام الآخرين ممن حوله، ولا يسمع إلا صوت نفسه التى تتسم بالأنانية وحُب الذات، ولا يهتز له ساكن عند رؤية متاعب من حوله، ولا يشعر بهم، وكأنه لم يشاهد شيئاً، ومن هنا أدعو مطلقك إلى أن يعيد النظر فى موقفه، وأن يقارن بين صنيعه، وصنيع شقيقك الذى آثرك أنت وابنك على نفسه وبيته، وأدرك منذ البداية معنى الإيثار الذى قال عنه الحق تبارك وتعالى: «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة» (الحشر9)، فالخصاصة تعنى شدة الحاجة، وجاء فى سبب نزول هذه الآية: أن رجلا جائعا جاء إلى رسول الله، وهو فى المسجد، وطلب منه طعاما، فأرسل الرسول من يبحث عن طعام فى بيته، فلم يجد إلا الماء، فقال: «من يضيف هذا الليلة، رحمه الله»، فقال رجل من الأنصار، أنا يا رسول الله، وأخذ الضيف إلى بيته، ثم قال لامرأته: هل عندك شيء؟ فقالت: لا، إلا قوت صبياني، فلم يكن عندها إلا طعام يكفى أولادها الصغار، فأمرها أن تشغل أولادها عن الطعام وتنومهم، وعندما يدخل الضيف تطفئ السراج «المصباح»، وتقدم كل ما عندها من طعام له، ووضع الأنصارى الطعام للضيف، وجلس معه فى الظلام حتى يشعر بأنه يأكل معه، وأكل الضيف حتى شبع وبات الرجل وزوجته وأولادهما جائعين، وفى الصباح ذهب الرجل وضيفه إلى رسول الله، فقال للرجل «قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة»، ونزلت آية الإيثار فى سورة الحشر.
إن استمرار مطلقك فى ظلمه وجبروته، سوف ينعكس عليه إن عاجلا أو آجلا، فلا يغتر بما هو عليه الآن، فلقد قضى الله بإمهال الظالم وعدم تعجيل العقوبة؛ لحِكَم كثيرة، منها: استدراجه ليأخذه الله على أسوأ حالٍ وأشنع صورةٍ، وفى ذلك قال عز وجل: «إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ» (آل عمران178)، وقد يكون الإمهال فرصةً للتّوبة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، أما من يصر على الاستمرار فى الظلم، فليعلم أن الله توعّد الظالمين بتعجيل العقوبة لهم فى الدنيا؛ لسوء الظلم، وكثرة أضراره، حيث قال الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: «ليس شيءٌ أُطِيعَ اللهُ فيه أعجلَ ثواباً من صلَةِ الرحِمِ، وليس شيءٌ أعجلَ عقاباً من البغْيِ وقطيعةِ الرَّحم»، ولذلك فإنّ عقوبة الظالم فى الدنيا قد تظهر فى خاتمته، فتكون نهايته أليمةً شديدةً؛ انتقاماً للمظلوم، حيث قال الرّسول: «إن اللهَ ليُملى للظالمِ، حتّى إذا أخذه لم يفلتْهُ، ثمّ قرأ: «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» (هود102)، كما أنّ الله يخزى الظالم فى الدنيا، ويذيقه مرارة الحياة وذلّها، ثمّ يذيقه عذاب الآخرة يوم القيامة، ومن مظاهر العقوبة الدنيويّة للظالم الحرمان من البركة وزوال النِّعم، فقد قال تعالى عن أصحاب الجنّة الذين عزموا على عدم إعطاء الفقراء حقّهم منها: «إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلَا يَسْتَثْنُونَ، فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ، فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ، فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ، أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ، وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ، فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» (القلم17 26).
إن الله يضل الظالمين فى الحياة الدنيا، ولا يهديهم إلى الرُّشد والصلاح، بينما يثبت المؤمنين، لقوله تعالى: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الْآخِرَةِ، وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ» (إبراهيم 27)، ومن هنا أدعو والد ابنك إلى أن يراجع موقفه، وأن يتوب إلى الله عما فعله، وأن يترفع عن أى أموال ليست من حقه، بل الواجب عليه، أن يرد حقوق شقيقك الراحل، وأرجو أن تتماسكى، واعلمى أن ما أراده الله هو ما فيه الخير، أما أرملة شقيقك فسوف تتلقى العلاج اللازم لها، فلا تقلقى، وليدبر الله أمرا كان مفعولا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.