لا أعرف لماذا يطفو على سطح الذاكرة تلك الاحداث شديدة الابتهاج أو التى اختنق فيها الصوت بحشرجة الدموع. وما ان يطل الخريف حتى تدور كاميرا الذاكرة على فرح حضور المحاضرة الاولى لسيد دراسة الانثروبولجيا علم سلوك الإنسان فى المجتمع؛ وهو د.أحمد ابوزيد وكان يحدثنا عن ضرورة تكوين فرق شبابية تدرس سلوكيات كل قرية فى ربوع المحروسة وتجمع تلك الفرق عادات وتقاليد كل بقعة فى بلادنا؛ فنحن فى حاجة لمعرفة انفسنا كمجتمع متجانس وإن اختلفت التقاليد والعادات من محافظة إلى اخري؛ فرغم فخر الشراقوة مثلا بجذورهم العربية نجد اهل قنا فخورين ايضا بان جذورهم عربية؛ لكن عادات الزواج وتقاليد الحياة الاجتماعية تختلف بين الشراقوة وبين اهل الصعيد فى قنا فهوس الثأر حاد فى الصعيد عنه فى الشرقية؛ وكلتا المحافظتين تختلفان فى التقاليد عن اهل مرسى مطروح. وكنت اول من سأله فى اول محاضرة عن فائدة هذا العلم لنا نحن طلبة تدرس الفلسفة وعلم النفس والاجتماع بآداب الإسكندرية؛ فأجاب: لا يمكن أن نظل معتمدين على ما درسه الإنجليز فى نواحى مصر المختلفة، ولن ننتظر إلى ما سوف تنتهى إليه الدراسات التى تجريها الجامعات الامريكية عندنا؛ بل علينا ان ندرس أنفسنا بأنفسنا فنرى صورتنا بعيوننا نحن. وعلى الرغم من تأسيس مركز للعلوم الاجتماعية فإن هذا المركز القومى لم يقدم لنا صورة السلوك والعادات فى عموم الخريطة المصرية. ولا أنسى كيف حلم شعراوى جمعة آخر وزير للداخلية فى عصر عبد الناصر إن يجد تنظيما سياسيا يمكن أن يقدم خريطة اجتماعية للسلوك الاجتماعى فى أنحاء محافظات مصر؛ وحاول أن يدخل علم دراسة السلوك الاجتماعى لضباط الشرطة لأن من يتخرج فى اكاديمية الشرطة ويتسلم عملا فى سيناء لابد له من دليل لقبائلها وعاداتها، ومن يعمل فى اسيوط لابد له من معرفة خريطة العادات والتقاليد؛ لكن الظروف الخاصة بكل من الشخصيتين, أحمد ابو زيد وشعراوى جمعة, لم تتح لهما تطبيق ما حلما به؛ وهى دراسة السلوك الاجتماعى والعادات والتقاليد من محافظة إلى أخري. ولن أنسى أنه فى أول سبتمبر من عام 1962 أن شعراوى جمعة أسس إبان توليه منصب محافظ السويس فرقا شبابية تجمع له الخريطة الاجتماعية لأهالى السويس الذين تنتمى كثرة منهم إلى الصعيد وجاءوا إلى السويس طلبا للرزق وبعضهم نزل من سيناء ليؤسس حياة اجتماعية فى ميناء يربط قارة آسيا بقارة إفريقيا؛ ورغم وقوع السويس لسنوات تحت نير الاحتلال الإنجليزى بمعسكراته المنتشرة من بورسعيد حتى السويس مرورا بالإسماعيلية فإن هناك فارقا فى المزاج واللهجة والسلوك بين كل محافظة وأخري. وحين دهم الموت جبل الكرامة المصرى العربى المسمى جمال عبد الناصر؛ كان اللقاء مع شعراوى جمعة المختنق بدموع افتقاد أستاذه جمال عبد الناصر ولم يخف تقديره لاختفاء حوادث السرقة والقتل وحتى جرائم الثأر فى الصعيد؛ وتوحدت سيناء التى كانت محتلة بغمامة الدموع مع بقية أنحاء الخريطة المصرية. وتمر الايام وقد تسلم حلم التحرير الرئيس السادات بعد أن خطا الجيش المصرى خطوات عبوره الذى ظنه الغير, عدوا ام صديقا, أنه المستحيل لأسمع من يوسف صبرى ابو طالب وكان من كبار ضباط المدفعية آن ذاك المقاتل أنه مستعد لدفع حياته للدفاع عن وطن؛ ويصون فى وعيه قداسة كل قائد منح كل جهده لصالح هذا الوطن. وبهذه العقيدة حاول يوسف صبرى ابو طالب إبان توليه منصب محافظ سيناء الشمالية فهم عادات وتقاليد أهل سيناء التى عاشت سنوات تحت الاحتلال الإسرائيلي، ولعله كان من أنجح المحافظين بتلك المنطقة لكن رحلة تنميتها لم تتم كما كان يحلم؛ إلى أن استيقظ حلم تنميتها حاليا بعد تولى عبد الفتاح السيسى أمر قيادة هذا الوطن فراح يزيل من سيناء رطانة التجسس برداء التأسلم. ولن أنسى يوما من أيام الخريف حين كنت أعمل بعض الوقت مستشارا لمنصور حسن وزير الدولة لرئاسة الجمهورية؛ وهو المصرى الفذ المتسم بالخلق والفهم؛ وجاء من الولاياتالمتحدة أستاذ قانون محترف هو شريف بسيونى وكان عميدا لكلية القانون بجامعة دى بول. حدثنى منصور حسن بالتليفون ليدعونى على العشاء مع شريف بسيونى الذى بدأ حديثه مع منصور حسن قائلا: انه ينوى السفر لطهران ليمارس دوره كمحام عن الرهائن الامريكيين هناك؛ وأنه اتفق مع الإخوان المسلمين على أن يقوموا بمظاهرة بميدان عابدين فى يوم الجمعة التالى تنديدا لاعتقال الأمريكيين بطهران؛ فسأله منصور حسن: بأى جواز سفر تتحدث معي؟ بجواز السفر المصرى الاخضر الذى منحه لك الرئيس السادات بعد احتفال البيت الابيض بتوقيع معاهدة كامب دافيد ام تتكلم معى بالجواز الامريكى الاحمر؛ وطبعا أنت تعلم ان لقاءنا يتم بناء على طلبك ودعوتك على العشاء بحكم معرفتى بمدى حبك للوطن الأم. هنا اجاب شريف بسيوني: طبعا اتحدث معك بصفتى الامريكية. فقال منصور حسن بحسم: إن خرجت مظاهرة من الإخوان المسلمين فى ميدان عابدين فلهم أن يعضوا اصابع الندم؛ لاتصالهم وتنفيذهم لرجاء قادم من خارج الحدود. وعبر التليفون تحدث منصور حسن مع مرشدهم فى ذلك الوقت عمر التلمسانى قائلا له: إن خرجت مظاهرة واحدة فى ميدان عابدين باسم أى جماعة إسلامية مهما تكن فلا تلومن إلا نفسك لقبولك دعوة الامريكيين لك بالتظاهر. صحيح ان موقف مصر رافض اعتقال رهائن ورافض أيضا أن يتم استنكار ذلك بواسطة تنظيم غير مسموح له بالعمل؛ فما بالك بالعمل استجابة لدعوة من الخارج؟. طبعا انتهى عشاء شريف بسيونى مع منصور حسن بسلام مثلج؛ ولكن السؤال الباقى فى الرأس: هل كان المتأسلمون يتعاملون من وراء ظهر هذه الدولة مع الامريكيين وينفذون لهم الرجاء وكأنه أمر؟ . سألت منصور حسن هذا السؤال فاجاب: هم يمسكون بذيل جلباب اى قوة ليظهروا على الساحة. ترى بأى ذيل جلباب يمسكون الآن؟. لمزيد من مقالات ◀ منير عامر