«زي النهارده».. استقالة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري من مشيخة الأزهر 26 أبريل 1935    الزراعة: منافذ الوزارة تطرح السلع بأسعار أقل من السوق 30%    مع ارتفاع حراراة الجو.. كيف تحمي نفسك داخل سيارتك    علقة موت، تعرض محامية للضرب المبرح من زوج موكلتها وآخرين أمام محكمة بيروت (فيديو)    «زي النهارده».. انفجار المفاعل النووي تشرنوبل 26 أبريل 1986    "مواجهات مصرية".. ملوك اللعبة يسيطرون على نهائي بطولة الجونة للاسكواش رجال وسيدات    بعد تطبيق التوقيت الصيفي.. تعديل مباراة الأهلي ضد مازيمبى رسميا في نصف نهائى دورى الأبطال    سيد معوض يكشف عن رؤيته لمباراة الأهلي ومازيمبي الكونغولي.. ويتوقع تشكيلة كولر    رمضان صبحي يصدم بيراميدز ويستبعده من المنافسة على الدوري    نقابة محاميين شمال أسيوط تدين مقتل اثنين من أبنائها    ليلى زاهر: جالي تهديدات بسبب دوري في «أعلى نسبة مشاهدة» (فيديو)    عاجل - بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024 فعليًا.. انتبه هذه المواعيد يطرأ عليها التغيير    مواقيت الصلاة بالتوقيت الصيفي .. في القاهرة والإسكندرية وباقي محافظات مصر    ذكري تحرير سيناء..برلماني : بطولات سطرها شهدائنا وإعمار بإرادة المصريين    مفاجأه نارية.. الزمالك يكشف تطورات قضية خالد بوطيب    هاني حتحوت يكشف تشكيل الأهلي المتوقع أمام مازيمبي    هاني حتحوت يكشف كواليس أزمة خالد بوطيب وإيقاف قيد الزمالك    "حزب الله" يعلن ضرب قافلة إسرائيلية في كمين مركب    «عودة قوية للشتاء» .. بيان مهم بشأن الطقس اليوم الجمعة وخريطة سقوط الأمطار    عاجل - تطورات جديدة في بلاغ اتهام بيكا وشاكوش بالتحريض على الفسق والفجور (فيديو)    عيار 21 يسجل هذا الرقم.. أسعار الذهب اليوم الجمعة 26 أبريل بالصاغة بعد آخر انخفاض    فيلم «النداء الأخير- Last C all» يختتم حفل افتتاح مهرجان الإسكندرية القصير الدورة 10    أحمد كشك: اشتغلت 12 سنة في المسرح قبل شهرتي دراميا    عاجل - محمد موسى يهاجم "الموسيقيين" بسبب بيكا وشاكوش (فيديو)    القومي للأجور: قرار الحد الأدنى سيطبق على 95% من المنشآت في مصر    بقيمة 6 مليارات .. حزمة أسلحة أمريكية جديدة لأوكرانيا    بعد تطبيق التوقيت الصيفي.. تعرف على جدول مواعيد عمل محاكم مجلس الدولة    هل المقاطعة هي الحل؟ رئيس شعبة الأسماك في بورسعيد يرد    كل سنة وكل مصري بخير.. حمدي رزق يهنئ المصريين بمناسبة عيد تحرير سيناء    أحمد أبو مسلم: كولر تفكيره غريب وهذا تشكيل الأهلي المتوقع أمام مازيمبي    حلقات ذكر وإطعام، المئات من أتباع الطرق الصوفية يحتفلون برجبية السيد البدوي بطنطا (فيديو)    أنغام تبدأ حفل عيد تحرير سيناء بأغنية «بلدي التاريخ»    هل العمل في بيع مستحضرات التجميل والميك آب حرام؟.. الإفتاء تحسم الجدل    عاجل - "التنمية المحلية" تعلن موعد البت في طلبات التصالح على مخالفات البناء    رئيس الشيوخ العربية: السيسي نجح في تغيير جذري لسيناء بالتنمية الشاملة وانتهاء العزلة    سرقة أعضاء Live مقابل 5 ملايين جنيه.. تفاصيل مرعبة في جريمة قتل «طفل شبرا الخيمة»    استشاري: رش المخدرات بالكتامين يتلف خلايا المخ والأعصاب    الأقصر.. ضبط عاطل هارب من تنفيذ 35 سنة سجنًا في 19 قضية تبديد    حكايات..«جوناثان» أقدم سلحفاة في العالم وسر فقدانها حاستي الشم والنظر    قيادي بفتح: عدد شهداء العدوان على غزة يتراوح بين 50 إلى 60 ألفا    المحكمة العليا الأمريكية قد تمدد تعليق محاكمة ترامب    السعودية توجه نداء عاجلا للراغبين في أداء فريضة الحج.. ماذا قالت؟    الدفاع المدني في غزة: الاحتلال دفن جرحى أحياء في المقابر الجماعية في مستشفى ناصر بخان يونس    فيديو جراف| 42 عامًا على تحرير سيناء.. ملحمة العبور والتنمية على أرض الفيروز    حظك اليوم.. توقعات برج الميزان 26 ابريل 2024    لوحة مفقودة منذ 100 عام تباع ب 30 مليون يورو في مزاد بفيينا    مخرج «السرب»: «أحمد السقا قعد مع ضباط علشان يتعلم مسكة السلاح»    أنغام باحتفالية مجلس القبائل: كل سنة وأحنا احرار بفضل القيادة العظيمة الرئيس السيسى    «اللهم بشرى تشبه الغيث وسعادة تملأ القلب».. أفضل دعاء يوم الجمعة    خطبة الجمعة لوزارة الأوقاف مكتوبة 26-4-2024 (نص كامل)    طريقة عمل الكبسة السعودي بالدجاج.. طريقة سهلة واقتصادية    مواطنون: التأمين الصحي حقق «طفرة».. الجراحات أسرع والخدمات فندقية    يقتل طفلًا كل دقيقتين.. «الصحة» تُحذر من مرض خطير    مجلس جامعة الوادي الجديد يعتمد تعديل بعض اللوائح ويدرس الاستعداد لامتحانات الكليات    بالفيديو.. ما الحكم الشرعي حول الأحلام؟.. خالد الجندي يجيب    عالم أزهري: حب الوطن من الإيمان.. والشهداء أحياء    قبل تطبيق التوقيت الصيفي، وزارة الصحة تنصح بتجنب شرب المنبهات    6 نصائح لوقاية طفلك من حمو النيل.. أبرزها ارتداء ملابس قطنية فضفاضة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصص وحكايات مصرية من زمن جميل فات ( الجزء الأخير )
نشر في شباب مصر يوم 23 - 04 - 2014

كنت ألعب على الرصيف وقت الغروب. جاء والدي عائدا إلى البيت، فجريت نحوه أسأله: هل صحيح يا والدي الملك نزل من على كرسي العرش؟ أجاب مبتسما: نعم، نزل من على كرسي العرش وجلس على الأرض.
منذ شهور وأنا أسمع صدى الأخبار في الراديو. الناس تتجمع لسماع الأخبار الخاصة بتغيير الوزارات المتلاحقة باهتمام بالغ. ولمدة أيام عديدة، كنت أسمع، ولأول مرة، عبارات مثل أزمة نادي الضباط واللواء محمد نجيب والضباط الأحرار، وأنا في هذه السن، لا أفهم ماذا يدور في هذا البلد.
بعد ذلك، كان راديو دكان البقالة أمام منزلنا يذيع كل ليلة بعد نشرة الأخبار الأخيرة أغنية أم كلثوم من شعر حافظ إبراهيم: "مصر تتحدث عن نفسها" حتي حفظتها من كثرة تكرارها. خصوصا مقطعها الأخير الذي يناسب كل ثورة، وخصوصا ثورة 25 يناير العظيمة، الذي يقول:
قد وعدت العلا بكل أبي، من رجالي فانجزوا اليوم وعدي
وارفعوا دولتي على العلم والأخلاق، فالعلم وحده ليس يجدي
نحن نجتاز موقفاً تعثر الآراء، فيه وعثرة الرأي تردي
فقفوا فيه وقفة حزم، وارسوا جانبيه بعزمة المستعد
سعيد الوزيري كان زميلي في المدرسة الإبتدائية بمدينة فاقوس. يسكن بالقرب من منزلنا في منزل قديم أرضي، مع والدته ووالده وأخويه الكبار. يعمل والده في محل الصباغ التجاري.
في يومين أو ثلاثة من كل أسبوع، يأخذ والده، وكان نحيفا عجوزا، بقجته ويفرشها في الأسواق المجاورة لكي يبيع ما فيها من بضاعة تلزم الفلاحين.
الأخ الأكبر متزوج، كان يعمل مع والده في دكان الصباغ. يسكن مستقلا هو وزوجته، ثم استأجر محل خردوات في الشارع الرئيسي أمام محل الباشا بائع الطرابيش.
الأخ الثاني كان يكبرنا أيضا، يدرس في مدرسة المعلمين المتوسطة لكي يصبح مدرس ابتدائي. الأم كانت سيدة كبيرة السن ممتلئة القوام. كريمة جدا، وكلما كنت أزور ابنها في منزلها، كانت لا تبخل علينا بما عندها من أكل أو حلويات.
كان معنا في المدرسة تلميذا من الكفور أو النجوع القريبة من مدينة فاقوس. لا أذكر اسمه الآن. ظل يرجونا ويلح في الرجاء لكي نزوره في بلدته. وبعد أن أخذنا الإذن من ذوينا، قررنا أن نذهب يوم خميس بعد انتهاء الدراسة، لكي نزور صديقنا ونعود عصر يوم الجمعة التالي.
لم يكن صديقنا موجودا معنا يوم السفر، لكنه كان قد ترك لنا العنوان ووصف دقيق لما يجب أن نفعله: اطلبا من كمساري الأوتوبيس أن ينزلكما عند شجرة الجميز الكبيرة التي في الطريق أمام بلدة الرمادنة. هناك سوف تجدون من ينتظركما ويصطحبكما باقي الطريق.
أخذنا الأوتوبيس من الموقف بمدينة فاقوس المتوجه إلى مدينة التل الكبير. لم يكن الإنجليز قد غادروا مصر في ذلك الوقت، وكانوا يعسكرون بقواتهم في منطقة التل الكبير.
عند شجرة الجميز، طلبنا النزول وفقا للتعليمات الدقيقة. كان الجو رائعا بعد المطر الخفيف. الأرض مبتلة وأوراق الشجر على جانبي الطريق والنباتات في الحقول مغسولة بماء المطر. فبدت خضراء لامعة تعكس شمس العصاري الذهبة.
تلفتنا يمينا ويسارا، فلم نجد سوى حمارين حصاويين مربوطين بجزع شجرة الجميز. أين الرجل المرافق؟ لا أحد. الطريق الذي تمر عليه العربات ترابي ضيق. لا عربات تمر ولا مارة.
سماء زرقاء صافية يشوبها قليل من الغمام الأبيض الناصع الذي تصبغ وجنتيه حمرة أرجوانية بديعة. حمام يطير حول أبراج بيضاء عالية كأنه يرقص باليه وقت الأصيل. أبو فصادة ومالك الحزين (أبو قردان) بريشه الأبيض الناصع وأرجله الصفراء المشربة بالحمرة يبحث عن وجبة غذاء سهلة.
العصافير تطير حولنا تحاول أن تستشف سبب وجودنا في هذا المكان الذي لم يتغير منذ آلاف السنين. السكون مطبق تكاد تسمع أصوات الشهيق والزفير وأنت تتنفس، وصوت الهواء وهو يدخل أذنيك. لا يقطع الصمت سوى نهيق حمار هنا أو صوت كلب هناك، أو صوت فلاح ينادي آخر من بعيد.
بعد فترة غير قصيرة، ظهر لنا فلاح شاب فجأة كأنه جاء من تحت الأرض، يلبس جلبابا أزرق وطاقية بيضاء ويمسك عصا رفيعة قصيرة بيده. عندما رآنا هرول مسرعنا نحونا مرحبا. لا مؤاخذة لما تأخرتم قلت أروح أقضي مصلحة وأرجع تاني.
الحمار الحصاوي تجده أبيض اللون، أعلى وأغلى، وصحته أحسن من باقي الحمير. يشبه المرسيدس أو "بي إم دبليو" في عالم الحمير. يستخدم عادة في الركوب وفي إنجاب البغال. الحمار بصفة عامة، أليف من جنس الحصان. لكنه أصغر حجما، وأقصر ذيلا وأطول أذنين.
أنثى الحمار تسمى أتانا والصغير يسمى جحشا. الحمار هو إله الخمر عند اليونانيين: ديونيسوس. يتمتع بالصبر والجلد وحدة السمع، ويحفظ الطرقات الوعرة من أول مرة. ذكي جدا حذر حميم لعوب يتعلم بسهولة. وصفه بأنه غبي وصف غير صحيح بالمرة.
هو شعار الحزب الديموقراطي الأمريكي. كتب عنه توفيق الحكيم كتاب "حمار الحكيم". يوجد منه 44 مليونا منها 11 مليون في الصين وحدها. جاء في شعر الفرذدق حيث يهجو جرير:
وإنا لنضرب رأس كل قبيلة، وأباك خلف إتانه يتقمل.
تزاوج الحمار الذكر مع الحصان الإنثى ينتج عنه البغل. وإذا عكسنا ينتج النغل بالنون. مشكلة البغل أنه لا يستطيع الانجاب. السبب بيولوجي بحت. خلية الحصان بها 64 كروموزوم تحمل الصفات الوراثية، وخلية الحمار بها 62 كروموزوم. خلايا البغل أو النغل الجنسية غير قادرة على الإنقسام وتكوين الجنين.
الإنسان له 23 كروموزوم والشمبانزي له 24 كروموزوم. أحد كروزومات الإنسان عبارة عن 2 كروموزوم ملتحمان مع بعضهما. هذا يوضح التقارب الشديد بيننا وبين قرود الشمبانزي. لاحظ هنا إن التقارب في صفات الكائنات المختلفة يعتمد، على التقارب في عدد الكروموزومات بينها.
من القصص المعروفة عن الحمار:
جاء الجار إلى جحا يستعير حماره، لأن حمار الجار مريض. فاعتذر جحا بكون الحمار في الغيط. في ذلك الوقت، نهق حمار جحا من داخل الدار. فقال الجار، هذا هو حمارك يا جحا. كيف تنكره؟ فقال جحا: سبحان الله. أتكذبني وتصدق الحمار.
قصة أخرى: اتفق الأسد والثعلب والحمار أن يقوموا بالصيد سويا وتقسيم الغنائم فيما بينهم بالعدل. قام الأسد بصيد غزال. فطلب من الحمار القسمة بينهم حسب الاتفاق. قام الحمار بالقسمة بالتساوي على أتم وجه وأحسن ما يكون.
غضب الأسد وهجم على الحمار ومزقه إربا. ثم قال للثعب قم أنت بالقسمة بدلا من هذا البائس. جمع الثعلب لحم الحمار والغزال ووضعهما في كومة واحدة. ثم وضع في كومة أخري زيل الحمار. وقال للأسد: اختر أنت يا مولاي. تبسم الأسد وقال للثعلب: من علمك فنون القسمة العادلة. رد الثعلب على الفور: الحمار يا مولاي.
قصة رابعة: كان هناك رجل يعبر الحدود بصفة مستمرة بحمار وصندوق ملئ بالقش. كل مرة يشك فيه موظف الجمرك ويقوم بتفتيشه وتفتيش الصندوق. لكنه لا يجد معه شيئا، فيسمح له بالعبور. بعد عدة سنين، تقاعد موظف الجمرك وترك وظيفته.
أثناء سيره في الطريق، قابل مصادفة الرجل صاحب الحمار والصندوق. فخاطبه متسائلا: أنا عارف أنك تقوم بتهريب شئ ما عبر الحدود. فهل لك أن تخبرني ماذا كنت تقوم بتهريبة، وأعدك أنني لن أخبر أحدا بذلك. أجاب الرجل ببساطة: الحمير.
ركبنا أنا وسعيد الوزيري الحمارين، وكانا مجهزين ببرادع جديدة مزركشة، تبدو عليهما علامات الصحة وحسن التغذية. سارا الحماران واحدا خلف الآخر بين الحقول على حافة قنوات الري الضيقة حيث لا توجد سكة أو معالم واضحة، مسافة طويلة.
اختفى من خلفنا كل أثر للطريق الترابي الذي تسير فيه العربات. ومرافقنا يطمئننا أننا اقتربنا من الوصول، ويسلينا بحديث ممل لإضاعة الوقت لا أذكر منه شيئا الآن.
فجأة بدأت تظهر معالم القرية. مئذنة صغيرة وأبراج حمام ثم بيوت الفلاحين المعروشة بحطب القطن والذرة وقش الأرز. القرية على ما أذكر كان اسمها الرمادنة.
لا تقع قرية الرمادنة على طريق تسير عليه العربات. معزولة من كل الجهات عن العمران. لا توجد بها كهرباء ولا مياة جارية ولا مرافق من أي نوع. جزيرة رملية وسط الحقول الخضراء.
ربما يرجع اسم الرمادنة إلى قبيلة الرمادنة التي سكنت هذه المنطقة منذ قديم الزمن. فرع الرمادنة جاء من قبيلة القرارشة، نسبة إلى قريش. وهي قبيلة عربية استوطنت بلاد الطور في زمن مبكر جدا، وتحالفت مع قبيلة الصوالحة أقدم القبائل العربية استيطانا في جنوب سيناء. هناك قرى كثيرة في الشرقية سميت على اسماء القبائل العربية التي سكنتها. منها: السماعنة، السماكين، الحجاجية، الصوالح، إلخ.
في هذه البقعة، أنت معزول عن العمران والحضارة الحديثة تماما. لا تستطيع أن تصلك عربة إسعاف أو مطافي أو بوليس. المريض يؤخذ على حمار مسنودا من الجانبين إلى أن يصل إلى أقرب اسبتالية (مستشفى) في البندر.
في أغلب الأحيان، يكون السر الإلهي قد خرج قبل الوصول بمدة طويلة. عندما تسمع أن أبو محمد ودوه الاسبتالية، هذه أخبار موش ولابد. تعني أن واجب العزاء قريب بعد يوم أو إثنين.
كيف يحفظ الأمن في مثل هذه المناطق المعزولة؟ وكيف تفض المنازعات؟ عن طريق مجالس حق العرب. يحسم الأمر بالرجوع إلى الشرع في معظم الأحيان وخصوصا في مسائل الزواج والطلاق والحلال والحرام، ثم إلى العرف.
القاضي أو شيخ القبيلة يكون عادة رجل مشهود له بحسن السلوك كبير السن يرتضي الجميع بحكمه. يحكم غالبا بالدية في حالات القتل الخطأ وإتلاف المحاصيل. السرقة عقوبتها طرد اللص من القرية والتبرؤ منه.
لمعرفة السارق، يجلس المشتبه فيهم أمام شيخ القبيلة. يقوم الشيخ بحمي طاسة من الحديد في النار حتى تحمر. يطلب من كل متهم فتح فمه وإخراج لسانه.
ثم يقوم بوضع الطاسة المحمية على لسان المتهم. إذا كان بريئا، لن تصيبه النار. وإذا كان مذنبا، احترق لسانه وصرخ من شدة الألم. الطاسة تسمى عند قبائل سينا "البشعة".
هناك تفسير علمي للبشعة. المعروف أن اللص يكون مضطربا وفي حالة نفسية سيئة. بذلك ينشف ريقه ويجف حلقه. ومن ثم يحترق لسانه عند اقتراب البشعة منه.
أما البرئ، فيكون لسانه مبللا بسوائل الفم التي تعمل كحاجز وتحميه من الإحتراق. المعروف أن اليد المبللة بعد غمرها بالماء تستطيع أن تلمس الجمر أو حتى الرصاص المنصهر دون أي أذى.
وصلنا إلى بيت صديقنا وسط القرية، فوجدناه في انتظارنا. قابلنا بحفاوة، وطلب منا أن نلقي السلام على والده. وجدناه مريضا فاقد البصر جالسا على حصيرة في غرفة مقابلة لغرفة الضيافة.
ألقينا عليه السلام، رد التحية بصوت جهوري مثل الأسد الجريح، وأخذ يوجه كلامه إلى صديقي سعيد الوزيري ويسأله عن والده. فقد كان يعرفه ويشتري منه مايلزمه عندما ينزل إلى البندر. لا شئ يذل الإنسان مثل المرض.
عدنا إلى الحجرة المقابلة، فوجدنا طبقا من العسل الأسود وطبق بلح مجفف وطبق سمسم. طلب منا صديقنا أن نأكل. عندما شاهد ترددنا، بدأ هو الأكل، وأخذ بلحة بين أنامله وغطها في العسل، ثم رشها بالسمسم ووضعها في فمه. ضحكنا وقمنا بمحاكاته.
عندما غربت الشمس وأرخى الظلام سدوله، خرجنا لكي نذهب إلى المضيفة على بعد خطوات قليلة من منزل صديقنا. شاهدنا شوارع القرية الضيقة والحقول الممتدة، مع آخر ضوء تركته لنا شمس المغيب. هبات النسيم المنعش تداعب وجوهنا بين الفينة والأخرى.
بدأ البدر يشرق في الأفق البعيد. فبدا كقرص ناصع البياض. يشبهه ابن الرومي في شعره الرائع برقاق الخبز في استدارته:
إن أنس لا أنس خبازا مررت به، يدحو الرقاق كلمح العين بالبصر.
ما بين رؤيتها في كفه كرة، وبين رؤيتها قوراء كالقمر.
وعندما يكون هلالا، يطل علينا كابتسامة رقيقة. جاء في شعر ابن المعتز:
انظر إليه كزورق من فضة، قد أثقلته حمولة من عنبر.
وصلنا أخيرا إلى المضيفة. وهي بيت ريفي مستقل بفناء ترابي واسع. يطل على الفناء من داخل الدار، مايشبه التراس. تصعد إليه بعدة درجات. مفروش بالحصر ومضاء بمصابيح الكيروسين.
ظللنا نلعب ونجري هنا وهناك في ضوء مصابيح الكيروسين الخافته المختلط بضوء البدر الذي بدأ يعلو في سماء القرية. عند آذان العشاء، ذهبنا للصلاة في جامع صغير بالقرب منا.
عند عودتنا، وجدنا حوش المضيفة مفروش بالحصر وموضوع عليها عدة طبالي (جمع طبلية). أربعة أو خمسة لا أذكر. وبدأت الرجال تأتي بعد صلاة العشاء حاملة ما تستطيع من مختلف أنواع الأكل.
هذا يأتي بحلة محشي وفرخة محمرة. وذلك بحلة ملوخية وحلة أرز مطبوخ. وآخر بطاجن سمك مطبوخ بالصلصة. وغيره بصينية رز باللبن وعيش مخبوز. وفاكهة وخضراوات طازجة وكل ما ينتجه الريف من خير وبركة.
يضع كل منهم ما معه من أكل على الطبالي المفروشة بورق الجرائد أو بمفارش قطنية. يجلس الجميع على الحصر للأكل ومعهم أولادهم الصغار.
جلسنا معهم لتناول العشاء. وبعد العشاء تناولنا الحلويات مع الشاي وتناول الكبار القهوة. بعد ذلك، واصلنا اللعب كعادتنا، وواصل الكبار الحديث عن أمورهم الخاصة ومشاكل الزرع والحصاد والفلاحة.
كانوا جلهم فلاحين لا يعرفون مهنة غير الفلاحة. علمت من صديقنا أن أهالي القرية يفعلون هذا، كل يوم خميس. وهي فرصتهم الوحيدة للتجمع والسمر ومناقشة مشاكلهم.
لا يشترط أن تأتي بالطعام لكي تشاركهم العشاء. فليقدم كل منهم ما يجود به من عطاء، وليأخذ كل منهم ما يحتاجه من غذاء. قمة الإشتراكية التي تتحدث عنها الكتب.
قضينا ليلتنا مع صديقنا الرمادي. وفي الصباح تناولنا الفطار ثم ذهبنا للغيط. رأيت مساحات كبيرة مزروعة بالطماطم تركت لتفسد. وعندما سألته عن السبب. أخبرنا بأنهم وجدوا أن تكلفة نقل ثمار الطماطم أكبر من ثم المحصول. فقرروا تركها كسماد للأرض.
وقت العصر، أخذنا الحمارين الحصاوي والمرافق. وعدنا أدراجنا. انتظرنا الأوتوبيس عند شجرة الجميز ليعود بنا إلى بلدتنا فاقوس. بعد رحلة ممتعة ليس من الصعب نسيانها.
بعد حصول سعيد الوزيري صديقي ورفيقي في هذه الرحلة على شهادة الإعدادية، تطوع في الجيش لكي يصبح جاويشا. وظل يسأل عني ويزورني كلما نزل في أجازة.
أخبرني في أحد المرات أنه متواجد في منطقة نخل بوسط سيناء. ثم تزوج وجاء مع زوجته لكي يزورنا في بيت العائلة بالزقازيق قبل حرب 67 مباشرة.
بعد الحرب انقطعت أخباره ولم أعد أسمع عنه شيئا. وبينما كنت أبحث في كتبي، وجدت كتاب كليلة ودمنة مكتوبا عليه إهداء من سعيد الوزيري لي بخط يده.
تذكرته والأيام الجميلة التي قضيناها معا ونحن أطفال، عندما كنا نذهب سويا إلى السينما. فكم كانت سعادتنا برؤية أفلام أنور وجدي وليلى مراد. وبكيت ثم بكيت. فليرحم الله شهداءنا برحمته الواسعة.
بعد قيام الثورة عام 1952م، انتقل والدي للعمل بقرية ههيا في محافظة الشرقية، وترك العمل بالشون لكي يعمل بالحسابات. هي ترقية من الناحية الوظيفية، لكن قرية ههيا لا ترقى حضاريا لمدينة فاقوس التي كنا بها. فهي لا تزال قرية زراعية ليس بها كهرباء أو مياة نقية أو مجاري عمومية.
معظم سكان قرية ههيا من الفلاحين وقليل من الموظفين. شوارعها ترابية ومحلاتها صغيرة معدودة. بها شارع واحد تجاري يسمى "السكة" وقطار سوارس يربطها بقرية أخرى اسمها "الإبراهيمية".
تبعد حوالي عشرة كيلومترات عن مدينة الزقازيق عاصمة محافظة الشرقية. يمر بها خط السكة الحديد الواصل بين مدينة القاهرة والمنصورة.
يمر بها أيضا خط أتوبيس يطلق عليه الفلاحون اسم "سانتاكرفت". توجد بها جهة الغرب، ترعة كبيرة نسبيا تسميها الأهالي البحر، وجهة الشرق ترعة صغيرة موازية للسكة الحديد.
ههيا هي أصل بلدنا. ولدت بها بالرغم من أنني لم أعش فيها إلا سنوات معدودة. هي بلد والدي ووالدتي وزوجتي. من القرى القديمة جدا بالقطر المصري.
ذكر جوتيه فى قاموسه قرية بإسم ""Hehou وقال إنه اسم ناحية بالوجه البحري، غالبا هو الاسم المصري القديم لبلدة ههيا لقرب الشبه بين الاسمين. وردت أيضا فى تحفة الإرشاد بإسم ههية.
من أعلامها المرحوم خالد محمد خالد. ولد بقرية العدوة مركز ههيا فى يونية 1920م. كان عالم إسلامي كبير وعضوا بالمجلس الأعلى للفنون والآداب. وكان عميدا لمعهد البحوث الإسلامية. له العديد من الكتب الدينية. توفى فى 29 فبراير 1996م.
كذلك المطرب المعروف عبد الحليم حافظ. ولد بقرية الحلوات التي كانت تابعة لههيا ثم انفصلت إداريا عنها وأصبحت تتبع مركز الإبراهيمية.
أسمع من أجهزة الراديو القليلة، التي تعمل بالبطاريات السائلة 9 فولت، بينما كنت أسير في شوارع القرية، أغاني الثورة الوليدة. أغنية أم كلثوم "مصر التي في خاطري"، وأغنية ليلي مراد "الإتحاد والنظام والعمل"، وأغنية محمد قنديل "ع الدوار راديو بلدنا بيقول أخبار". وكذلك أغنية لمطرب، أعتقد أن اسمه عليش، يقول على لسان الفلاح المصري:
طول عمري لابس خيش، ما كنت يوم قالعه
ولا اكلش لقمة عيش، والقمح أنا زارعه
عندما الغت الثورة الألقاب والطرابيش، خرج والدي للشارع كاشفا رأسه أول مرة. فسألته، عن إحساسه وهو يسير بدون طربوش. فقال: "أنا شاعر أنني ماشي من غير هدوم في الشارع". إلى هذه الدرجة تتحكم فينا العادة.
جاءت ثورة 1952م، ومصر غنية بالمطربين والمطربات. أم كلثوم في أوج نضجها الفني. أجمل صوت وأداء لأم كلثوم تجده في فترة الخمسينيات. كذلك محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وليلى مراد ومحمد فوزي وعبد العزيز محمود وكارم محمود، إلخ.
تساندهم كوكبة من الشعراء ومؤلفي الأغاني العظام، أمثال بيرم التونسي وأحمد رامي وكامل الشناوي وغيرهم. تمدهم بالألحان، أعظم ما أنتجته مصر من ملحنين عباقرة، محمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي ومحمود الشريف وأحمد صدقي وآخرين.
الموسيقى لها أهمية كبيرة في حياة الإنسان وحياتي بصفة خاصة. مالا نستطيع أن نعبر عنه بالفنون، من نحت وتصوير، نعبر عنه بالشعر والكلمات. ومالا نستطيع أن نعبر عنه بالشعر والكلمات، نعبر عنه بالموسيقى والألحان. الموسيقى ببساطة هي لغة تعبير عالمية تنقل الأحاسيس المرهفة بين الناس. بل هي أكثر من ذلك.
عند أهل الشرق الأقصى، الهند والصين والدول المجاورة، لا فرق بين الموسيقى والدين. مصدر الموسيقى عند الهنود، علم الرياضيات والتنجيم وعلم النفس. هذا أساس الموسيقى الغربية أيضا.
الموسيقى كانت في الزمن القديم، أحد فروع الفلسفة. فيثاغورث وأفلاطون وأرسطو، كانت لهم اسهامات جليلة في عالم الموسيقى.
قدماء المصريين كان إهتمامهم بالغ بالموسيقى. ابتكروا آلات موسيقية عديدة. ويكفي أن تعرف أن عدد الطبول عندهم بلغ 26 نوعا، غير آلات النفخ والآلات الوترية التي لا تحصى ولا تعد. والتي ذكر بعضها علماء الحملة الفرنسية في كتاب وصف مصر.
كانت الموسيقى تستخدم في المعابد للصلاة وفي الاحتفالات والمناسبات الإجتماعية. وكانت تدرس للأطفال في مدارسهم كمادة علمية لازمة لتقدم الإنسان ورقيه.
الموسيقى درسها الفلاسفة العرب أيضا، أمثال الكندي والفارابي، الذي الف "كتاب الموسيقى الكبير" المتضمن الأسس والقواعد الموسيقية.
الموسيقى عند الفيلسوف كانط "لغة الإنفعالات"، وعند هيجل "مجال تتجلى فيه أغوار النفس وملكة الفهم".
يقول شوبنهور عن الموسيقى: "ما العالم إلا موسيقى ونغم، فهي الأمل في تحرر الإنسان من اليأس". ويقول نيتشة: "العالم بدون موسيقى غلطة كبيرة لا تغتفر".
ويقال أن الرب عندما أمر موسى بسقاية قومه، سمع هاتفا يقول "يا موسى اسقى". فجاءت في أذنه كلمة "موسيقى". من هنا يأتي أصل الكلمة.
كان النبي داود يسبح ربه بآلة الناي، ويتغنى من الزبور وضروب الدعاء، المعروفة بمزامير داود.
أورفيوس ابن أبولون، أمه إحدى الموزيات ربات الشعر والموسيقى في الأساطير اليونانية القديمة. كانت موسيقاه تسحر الحيوانات والنباتات والجماد. التحق بالسفينة "أرجو"، وقام بإنقاذها عندما وقعت في مآذق كثيرة.
معظم الأديان تقول أن أصل الخلق كلمة من الرب، "كن فيكون". في الأصل كانت الكلمة. والكلمة صوت، أو نوع من الموسيقى.
النظريات الحديثة تقول أن كل أشكال الطاقة وعالم الذرة، يتكون من جزيئات هي أشبه بأوتار موسيقية متناهية في الصغر، على شكل حلقات مقفلة أو مفتوحة، في تذبذب وعزف مستمرين.
أي أن الكون كله عبارة عن أغنية موسيقية عظيمة، تساهم فيها الذرات وكل أشكال الطاقة التي نعرفها بأنغامها المختلفة.
الموسيقى تستخدم في العلاج النفساني. وتساعد على الفهم والتحصيل عندما يسترخى الجسد وتتغير حالة المخ من الحالة العادية "بيتا" إلى حالة الإسترخاء "الفا".
عندها يمكن للمخ أن يستوعب من المعلومات أضعاف قدرته العادية. أنواع معينة من الموسيقى هي التي تساعد على بلوغ الحالة "الفا". مثل موسيقى باخ وموزارت. وهي أيضا تسرع في نمو النباتات، وتساعد على زيادة الإنتاج الحيواني.
لذلك لا تتعجب عندما تعلم أن الجنين في بطن أمه، يتأثر بالموسيقى. الموسيقى قد تشكل مستقبل الإنسان، إذا كان أحد أفراد أسرته موسيقيا.
هذا هو الحال بالنسبة لموزارت، فقد كان والده موسيقيا. بيتهوفن أيضا، كان والده مغنيا. أم كلثوم، كان والدها منشدا دينيا. ليلي مراد، كان والدها مطربا، زكي مراد. على الحجار، كان والده مطربا، إبراهيم الحجار.
جلس جدي بعد صلاة العصر، يستمع إلى الراديو، الفيليبس الذي يعمل بالبطارية السائلة، وهو يذيع أغنية "قالوا أحب القس سلامة وهو التقي الورع الصالح" للسيدة أم كلثوم. فوجدته يتمايل طربا.
عندما انتهت أغنية أم كلثوم، تبعها أغنية "ياسمر ياجميل" للمطرب عبد العزيز محمود. فوجدته يتململ في مجلسه. بدأت علامات الضيق والقلق تظهر على وجهه عند سماعه المقطع الذي يقول: "يابو المنديل أوية بأوية، دخت يا خويا سمي عليه".
وعند المقطع الذي يقول: "ساعة ما بشوف العود طارح أفضل سارح قول يجي جمعة"، هب واقفا ليقفل الراديو قائلا: "الراجل ده بيتكلم كلام فارغ".
لم أفهم معنى "العود طارح" إلا عندما كبرت. وأنا أختلف مع جدي في الحكم على هذه الأغنية الجميلة. الأغنية قمة في الجمال والتصوير الفني البديع، بالرغم من شعبية كلماتها. لكنه اختلاف تذوق الأجيال.
في مساء نفس اليوم، وجدت هرج ومرج في الشارع والناس تجري، فجريت معهم لكي أعرف السبب. في نهاية القرية بيت ريفي أمامه أرض مزروعة يملكها رجل عجوز هو صاحب البيت. أمام البيت بالضبط توجد نخلة بلحها من أجود الأنواع أعتقد أنه من النوع المعروف بالعمري الذي يؤكل رطبا أو مجففا.
عندما ينضج البلح، يجلس الفلاح على كرس أمام الدار ووجهه للغيط والنخلة التي تقع بالقرب من حافة الطريق. فلا يجرؤ أحد من المارة الإقتراب من البلح المتساقط من النخلة بسبب هبوب الريح.
مجموعة من الشباب ساءهم هذا الوضع. فتراهنوا بينهم على من يستطيع أن يسرق بلحا من هذه النخلة أثناء وجود صاحبها القائم بحراستها طول الوقت.
جاء أحدهم وقت الغروب، متسللا بين نباتات الحقل. جاعلا جذع النخلة بينه وبين صاحبها المرابض كالأسد الهصور. ترك اللص حذاءه وبدأ في طلوع النخلة من الجانب المقابل وكله حرص كي لا يراه صاحبها.
ظل صاعدا ببطئ بدون مطلاع، مستخدما يديه ورجليه فقط. إلى أن وصل إلى البلح. فأخذ يقطف منه ويضعه في جيوب جلبابه. وبينما هو منهمك في سرقة البلح، إذا بيده تمسك عش ذنابير حمراء كبيرة.
خرجت الذنابير عن بكرة أبيها تدافع عن عشها وصغارها بضراوة. أخذت تهاجمه بشراسة وتلدغه في وجهه ورأسه ورقبته ويديه ورجليه. والمسكين لا يملك الدفاع عن نفسه في هذا الوضع البائس..
أخذ يصرخ وهو يهبط النخلة بسرعة فائقة فختل توازنه وسقط على الأرض. لحسن حظه أن الأرض كانت مروية حديثا. فجاءت سقطته غير قاتلة. كسور هنا وهناك يستطيع المجبراتي علاجها.
هرول العجوز صاحب النخلة لنجدة اللص وحمله إلى داره. سقاه شربة ماء وقال له معاتبا: "يابني لما أنت عاوز بلح، كنت قوللي وأنا أعطيك ما تريد". أجاب اللص ووجهه متورما من قرص الذنابير: "أصل أنا يا عمي كنت مراهن".
بهانة سيدة فلاحة عجوز تسكن مع ابنتها في بيت فلاحي دور أرضي واحد. أصيبت بهانة بالرمد الحبيبي في عينيها. ربطت لها ابنتها عصابة على عينيها.
بعد يوم أو إثنين، وضعت الإبنة أمام أمها طبق بامية وقت العشاء. فوجدها بعد الأكل، تبلل يدها بوضعها في طبق البامية، ثم تبلل بأصابعها جفون عينيها المتورمتين. صرخت الإبنة في أمها قائلة: "بتعملي إيه يامه وإيه الهبل ده؟"
أجابة بهانة بعفوية شديدة: "أصلي يابنتي عنيه بتحرقني ولقيت البامية ساقعة ومزفلطة". يا عالم، موش كل شئ ساقع ومظفلط يصلح كعلاج.
حكاية سمعتها عن جدتي عندما كانت شابة. مرضت جدتي ولازمت الفراش. عندما اشتد مرضها وشارفت على الموت، أحضروا لها طبيبا من المستشفى.
بعد الكشف، كشّر الطبيب عن وجهه وذر أنفه معربا عن سوء الحالة، وخرج مسرعا من البيت يتبعه أخو جدتي. بعد أن ابتعدا مسافة، سأل الطبيب: "نديها دوا إيه يا دكتور". أجاب الطبيب باقتضاب وقرف: "وفروا فلوسكم".
قال الأخ في نفسه، لو رجعت وقلت لهم اللي قاله الطبيب، سوف تحدث مناحة في البيت. فماذا أفعل؟ ذهب إلى محل بقال وقام بشراء زجاجة غازوزا ليمون. وضعها في كيس ورق وعاد إلى البيت.
"خير يا محمد جبت الدوا؟" سأل من بالدار الأخ عند عودته. "أيوه، اعدلوها نسقيها أول جرعة" أجاب الأخ. فتح محمد زجاجة الغازوزا وملأ ملعقة ووضعها في فم أخته المريضة قائلا: "بالشفا إن شاء الله".
فتحت جدتي عينيها بعد أن تذوقت طعم الدواء وقالت: "إيه ده؟ دي غازوزا". ضحك الأخ قائلا: "هو انتى عرفتيها، والله حتطيبي وتبقي عال". وبالفعل، طابت جدتي من مرضها وعاشت حتى قارب سنها التسعين.
حضرت فرح فلاحي بجوار بيت جدي. تم فرش حوش واسع بالرمال الصفراء. بدأ الإحتفال بعد صلاة العشاء مباشرة. يجلس المدعوين على الرمال في شبه دائرة متسعة. داخل الدائرة تتحرك الغازية وتقوم بالرقص بالصاجات والغناء ولم النقوط.
الفرقة الموسيقية تنتحي جانبا، وهي مكونة من طبال وعازف مزمار وعلى ما أذكر عازف ربابة. الأغاني معظمها أغاني ريفية تتخللها بعض الأغاني الحديثة لكارم محمود وعبد الغني السيد وعبد العزيز محمود.
جهاز العروسة كان عبارة عن سرير بعمدان سوداء وملّة خشب ومرتبة قطن واحدة ومخدة أو إثنين طويلة بعرض السرير ولحاف.
صندوق خشبي يسمى سحارة لحفظ الملابس والأشياء التي لها قيمة. حصيرة وطبلية خشب. بعض أواني الطبخ النحاسية والفخارية. هون نحاس وطشت غسيل. قلة للشرب وأبريق أسود لزوم قضاء الحاجة.
كردان وحلق ذهب أصلي أو قشرة وفي بعض الحالات خلخال فضة. ملابس جديدة للعروسة، كحل للعيون، وحجر مسامي لحك كعبي الرجلين للتخلص من القشف والخلايا الميته.
رأيت العروس، وهي فلاحة صغيرة لا تزيد عن السادسة عشر ربيعا، تبكي بكاء مرا خوفا من ليلة الدخلة. لا أنسى منظرها وهي جالسة القرفصاء على الأرض في ركن الغرفة تبكي، وهي تحضن رأسها بكفيها كأنها مصابة بالصداع.
حولها نساء يتوشحن بالسواد كأنهن غربان تتوسطهم الداية. منظر في غاية الرعب والقسوة. تقوم الداية بوظيفتين في الريف. المساعد في الولادة، وفي فض غشاء البكارة.
تدخل الداية مع العريس، ومعظمهم صغار السن ليست لهم خبرة سابقة أو دراية بعلاقة الرجل بالمرأة. وتدخل معهم أم العريس وأم العروس أو ما ينوب عنهما من النساء.
إذا فشل العريس، وغالبا ما يفشل، في فض البكارة باستخدام إصبعه الملفوف بالمنديل، قامت الداية بإكمال المهمة. العروس تمسكها بشدة السيدتان الموجودتان مع الداية، لا تستطيع فعل أي شئ سوى الصراخ. حالة أخري من حالات الرعب التي كانت تعيشها المرأة المصرية بحكم العادة الموروثة.
بعد فض غشاء البكار، يؤخذ المنديل المستخدم وبه أثار الدماء، ويطوف به أهل العروس القرية معلنين عن شرف البنت الذي لم يمس من قبل.
طبعا عادات قديمة بدأت تنقشع، أعتقد أنها غير موجودة حاليا. والعادة السيئة الأخرى، التي أود أن تختفي من بلادنا بالمرة، هي عادة ختان الإناث. فهي لا تمت إلى الدين أو الإنسانية بصلة من قريب أو بعيد، وتجرم بالقانون حاليا، لكنها لا تزال تمارس في قري وجه بحري والصعيد.
في أواخر الأربعينات، ذهبت مع والدي لزيارة جدتي، التي كانت تسكن في قرية ههيا، وكان والدي يعمل في مدينة فاقوس، التي تبعد عنها مسافة 30 كيلو متر تقريبا.
الوقت كان ظهرا، في يوم صيف شديدة الحرارة. انتظرنا القطار على الرصيف مع مجموعة قليلة من الفلاحين. بزوجاتهم وعيالهم ومودعيهم.
لم يكن من اللائق أن تسافر وحدك، بدون أن يأتي معك أحد ليوصلك إلى المحطة. لكي يطمئن عليك، ويتأكد من أنك قد غادرت المكان في يسر وأمان. وأنك قد وجدت مكانا مريحا بجوار النافذة. يظل المودع واقفا يحدثك وينتظر معك القطار.
الركاب، هذا يحمل قفة مغطاه بالخيش، وذاك سبت سلّال تطل منه رأس أوزة بمنقارها البرتقالي. هذه تحمل طفل على كتفها أو في بطنها. وهذا صبي يمسك بطرف رداء أمه بيد، وباليد الأخرى خيارة خضراء داكنة وقعت على الأرض أكثر من مرة. وتلك طفلة تلبس فستانا زاهي الألوان، تمسك بيد والدها. الذباب لا يرحم، وكذلك الباعة الجائلون.
القطار الذي يبدأ من قرية الصالحية وينتهي بمدينة أبو كبير، يمر بخمس محطات بينهما. الخط محلي بني حديثا. وكان السبب في شائعة "الشراقوة عزموا القطر".
القصة هي أن أهالي قرية "إكياد"، عندما رأوا المهندسين والعمال وهم يمهدون لمد شريط السكة الحديد الجديد، قرروا أن يقوموا بالواجب. فذبحوا الذبائح، وأعدوا الولائم، وخرجوا بالصواني والأكل، ووضعوه على الشريط.
من هنا جاءت حكاية "الشراقوة عزموا القطر". وزادوا في الحكاية، وادعوا أن أحدهم قال: "نجيب له معسل يدخن؟". فرد آخر: "يا بوي، دي التكة بتاعته تمن". أي ثمن رطل تبغ.
وصل القطار، فركبنا ثلاث محطات إلى مدينة أبوكبير آخر الخط. انتظرنا قطار الشرق السريع المزدحم، الآتي من مدينة المنصورة، والمتوجه إلى القاهرة.
وصلنا بعد محطة واحدة إلى قرية ههيا. هي في الواقع، أكبر من قرية، وأصغر من مدينة. لم تكن بها كهرباء أو مياة أو مجاري أو طريق واحد مرصوف.
أمام محطة القطار، مطحن غلال ومضرب أرز، تملكه عائلة أبو حمادة، عائلة والدتي. يجلس في غرفة الميزان الصغيرة، الشيخ عبد الحميد. يزن الحبوب المطلوب طحنها، وبناء على الوزن، يقدر أجرة الطحن.
قرش صاغ واحد، أو ثلاثة تعريفة، أو شئ من هذا القبيل. في بعض الأحيان، يكون الدفع عيني. ثلاث بيضات وكوز بطاطة. حفان ذرة أو شروة جميز.
عندما تفشى وباء الكوليرا في الأربعينات، وكانت الناس تتساقط مثل أوراق الخريف، قطعت الطرق وتوقفت المواصلات لمدة ثلاثة شهور. وكان الشيخ عبد الحميد ينظر من فتحة غرفة الميزان، ويقوم بتسلية نفسه، بوضع علامة في كراسته كلما مرت عليه جنازة.
سجل في أحد الأيام 30 جنازة في يوم واحد، وكان يتندر بذلك. في اليوم التالي، لم يحضر الشيخ عبد الحميد إلى المطحن، بسبب قئ واستفراغ. بعد قليل، مر نعشه من أمام غرفته، دون أن يقوم أحد بوضع علامة في كراسته.
أحد الأيام، في الثلاثينات، جاء مفتش من مصلحة الدمغة والموازين إلى المطحن، وقام بفحص الموازين المستخدمة في وزن الحبوب للتأكد من مطابقتها للمعايير الحكومية.
وجد أحد الموازين، "نصف أقة"، تنقص قدرا قليلا عن الوزن المطلوب. حرر المفتش محضرا، وأصبحت هناك قضية ومحكمة، إلخ.
لم يجد أخوالي أصحاب المطحن، محاميا يقبل هذه القضية. وقعوا في حيص بيص. فقد يحكم القاضي بغلق المطحن أو بغرامة كبيرة لا قبل لهم بها. هنا جاء خالي محمود، وكان صبيا في ذلك الوقت، وقال: "أنا سوف أقوم بالدفاع عنكم في هذه القضية". فلا تخافوا: "سوف نكسبها بإذن الله".
سأل القاضي: "هيه، ما هو دفاعك وقد ضبط متلبسا."
أجاب خالي محمود بكل ثقة:"يا سيدي القاضي. هذه الموازين، لا أستخدمها في البيع والشراء. وإنما أستخدمها فقط في تحديد وزن ما سوف أقوم بطحنه من غلال. وأجرة الطحين غير مسعرة من الحكومة.
فلو وضعت ظلطة أو قطعة صخر مكان النصف أقة الناقص، لما لامني أحد. ولو ضاعفت الأجرة أو أنقصتها، لما لامني أحد أيضا."
لم يجد القاضي، أمام رصانة هذا المنطق، بدا من الحكم بالبراءة. للأسف خالي هذا لم يكمل تعليمه. فقد كان جدي أبو والدتي لا يؤمن بالتعليم. لأنه كان يحتاج أولاده في التجارة.
في العشرينات، كان أحد عمال المطحن، اسمه أمين. كان شابا عمره 18 سنة. يقف ليفرغ القفف والأجولة في قادوس المطحن، حتى تسقط الغلال تحت حجر الطاحونة الدائر. فتخرج طحينا ناعما من فتحة جانبية.
في نهاية اليوم، يقوم هو وزملاؤه بالدق على حجر الطاحونة بالشاكوش والأزمير، في المناطق الناعمة الملساء من سطح الحجر، لعمل خرابيش وخطوط عرضية، تساعد في الطحن.
شيخ جليل طاعن في السن وميسور الحال، يلبس العمة والجبة والقفطان. في الريف، إذا كنت ميسور الحال، فلن يقف في سبيل رغباتك وأحلامك شئ. أراد الشيخ الزواج في هذه السن. وكان له ما أراد، دون مشقة.
الزوجة غادة في ريعان شبابها، ملكة في الحسن والجمال. أسكنها الشيخ في فيلا محاطة بحديقة كبير غناء وارفة الظلال، في مدخل البلد. إلى هنا وهذا شئ عادي في الريف. لكن هناك مشكلة واحدة. وهي أن أحد الأشقياء من عائلة "أبو عطوة"، كان يحب الفتاة، التي تزوجها الشيخ، حبا جنونيا.
ماذا يفعل ونار الحب مشتعلة داخله، تكاد تصيبه بالهوس؟ استلم الشيخ بالخطابات. خطابات تهديد ووعيد بالطبع. إذا لم تطلقها، سوف أعمل فيك كيت وكيت. سوف أعطيك شهر. سوف أعطيك أسبوع.
الشيخ، بحكمة ما مر به من سنين عديدة، كان يتجاهل هذه الخطابات، ويجيب على زوجته، عندما تسأله عن سببها، قائلا: "لا مفيش حاجة، دول أصحابي يقومون بتهنئتي". كان يظن أن هذه مجرد مراهقة صبيانية، وأن هذا المهووس سوف يكف عن تهديده، ويتوقف وينهد مع مرور الوقت.
لم يرغب في إبلاغ البوليس خوفا من الفضائح، والقيل والقال. كثيرون منا سوف يفعلون نفس الشئ. خصوصا إذا كنا نعيش في الريف. عندما يئس الحبيب المكلوم، ولم تجد طلباته أي استجابة من الشيخ الرصين، قرر أن يأخذ الأمر بيده.
اتفق مع ثلاثة آخرين من الأشقياء. أحدهم، أمين الشاب الذي كان يعمل في مطحن جدي على القادوس. أعطوه السكاكين، لكي يسنها على حجر الطاحونة، حتى تكون حادة جاهز لتنفيذ الخطة الشيطانية.
في ليلة حالكة السواد في لون الهباب، لم يجد الأشقياء سبيلا للدخول إلى الحديقة، إلا عن طريق فتحة الري في أحد الجوانب. تسللوا خلالها الواحد تلو الآخر. لم يجدوا كلبا يعوي، لأن الشيخ كان يعتبر الكلاب نجسة، تمنع دخول الملائكة. لكنه نسي أنها تمنع أيضا دخول اللصوص والقتلة.
دخلوا الفيلا من شباك الصالون. وبحثوا عن الشيخ وزوجته، فوجدوهما في مخدعهما يغطان في نوم عميق. قررا أن يتخلصا منهما معا، حتى لا تعترف الزوجة عليهم.
بعد أن قاما بالذبح والطعن، دون رحمة أو هوادة، وسط الصراخ المكتوم والحشرجة والأنفاس المتقطعة وبرك الدماء التي صبغت الفراش، لاذوا بالفرار.
أثناء فرارهم، خشوا أن يكونوا قد أخفقوا في مهمتم القذرة. فأرسلوا أحدهم، أمين، لكي يتأكد من موت الضحيتين، الشيخ وزوجته الفاتنة. عاد أمين، ودخل من نفس الشباك الذي دخلوا وخرجوا منه من قبل.
ذهب إلى غرفة الفراش، فاستشف أنات الزوجة، التي لم تكن قد فارقت الحياة بعد، تكاد لا تستبين. أما الشيخ، فقد توفي وأصبح جثة هامدة.
هنا، حدث ما لم يكن في الحسبان. شئ غريب جدا، ليس في الخطة، وليس له تبرير على الإطلاق. اقترب أمين من الزوجة، وقال لها بحنان، وبصوت خافت كي لا يسمعه أحد: "لا تخافي. سوف أقول لهم أنني وجدتك ميتة." ثم لحق بزملائه الأشقياء، لكي يطمئنهم ويهنئهم على نجاح خطتهم الجهنمية.
باقي الحكاية يمكن استنتاجه دون مشقة. جاءت الخادمة في الصباح، فوجدت الزوجة لاتزال على قيد الحياة، لكن في حالة يرثى لها. جرت تصرخ إلى الطريق تستنجد بالمارة. أنقذت الزوجة بمعجزة، وتم القبض على الأشقياء الأربعة.
حكم على ثلاثة منهم بالإعدام، وحكم على أمين بالأشغال الشاقة المؤبدة. لأنه، رغم اشتراكه في قتل الشيخ ومحاولة قتل الزوجة في بادئ الأمر، إلا أنه، لصغر سنه، وبسبب رفضه قتل الزوجة عندما عاد إليها، أنقذ من حبل المشنقة بأعجوبة.
لو أمكن تقسيم الناس إلى أشرار وأخيار، لتخلصنا من الأشرار وانتهى الأمر. لكن ماذا نفعل، إذا كان الخير والشر يمتزجان في نفوسنا وعقولنا وقلوبنا وداخل كل خلية من أجسادنا.
بعد خطوات قليلة من المطحن، وعلى شمال طريق ترابي ضيق، كان يوجد دكان ريفي صغير. يبيع فقط البن لزوم عمل القهوة. يقف فيه رجل عجوز يلبس الجلباب والعمامة. وقف والدي أمام الدكان، وطلب رطل بن يمني مطحون.
قام الرجل بوزن رطل بن حب أخضر. ثم قام بوضعه في محمصة تعمل بالفحم. بعد ذلك، أضاف إليه الحبهان، ثم قام بطحنه بماكينة كبيرة، تعمل باليد.
بعد ذلك، مررنا بحقول خضراء على الجانبين. ثم عشة صغيرة من الطمي على ناصية حارة، على الجانب الشمال من الطريق. يعمل بها مبيض نحاس. صاحب المحل يجلس على الأرض، بجوار كومة فحم مشتعل. ينفخ فيه بالكور.
يقوم بوضع الإناء النحاس في الفحم، حتى يتغير لون النحاس إلى اللون الأحمر. يأخذ قطعة من القصدير الخام، ويضعها على الإناء، ثم بقطعة قطن كبيرة، يقوم بفرد القصدير على كل مساحة الإناء. فيتحول من اللون النحاسي إلى اللون الفضي في ثوان.
على باب العشة أو الدكان، إن صحت التسمية، يوجد رجل أخرس أبيض اللون أحمر الوجه ممتلء الجسم في الثلاثينات من العمر. يتحزم بحبل من منتصفه، يرفع به جلبابه البني حتى ركبتيه. يلبس طاقيه ممزقة، ويقف داخل حلة نحاسية برجليه الحافية.
يقوم بالحركة بكل جسمه يمينا وشمالا وتقوم قدميه بحك قعر الحلة وكشط ما بها من صدأ أو قصدير قديم أو أوساخ صعبة الإزالة. كلما مررت على هذا الأخرس، في أي وقت، في الصيف أو الشتاء، أجده، بداخل الحلة، يتحرك يمينا وشمالا، فيما يشبه رقصة الروك أند رول.
تذكرت أسطورة سيزييف التي تحدث عنها ألبير كامو. عندما عاقبته الآلهة بحمل صخرة إلى أعلى الجبل، ثم يتركها تسقط، لكي يكرر هذا العمل الممل إلى مالا نهاية. أعتقد أن الأخرس في الحلة، أكثر مللا من سيزييف والحجر.
ربما تكون الآلهة هي الأخرى، غاضبة من الأخرس، بسبب كونه لم يفعل شيئا في حياته يستحق الغضب. لأنها، في هذه الحالة، عاقبته مرتين. مرة بحرمانه من نعمة السمع، ومرة بوضعه في الحلة يعمل كرقاص أو بندول الساعة إلى أبد الآبدين.
ترى كم منا في حياته، مثل سيزييف أو مثل الأخرس. يجد نفسه مجبرا، بسبب أكل العيش، على النزول داخل حلة نحاسية، والهز بأردافه، يمينا وشمالا إلى مالانهاية؟
مررت أنا ووالدي في طريقنا بعدة منازل ريفية من اللبن. ثم مررنا بمنزل جدي، أبو والدتي. وهو أحد البيوت القليلة المبني بالآجر. يسكن الطابق الثاني خالي لطفي.
في أحد ليالي الصيف شديدة الحرارة، استيقظ خالي بعد منتصف الليل. ذهب إلى الشرفة لكي يشرب. القلل الفخار كانت توضع في الشرفات، لكي يبرد تيار الهواء ماؤها.
نظر خالي إلى الشارع، فوجد رجلا يجلس على عتبة الدار. لم يتبين ملامحه في ضوء البدر. عندما سأله من أنت، علم أنه الأسطى محيي الحلاق، الذي يقوم بالحلاقة للعائلة. ماذا تفعل في هذه الساعة المتأخرة من الليل، أجاب أنه ينتظر زوجته التي تقوم بمساعدة بعض الجيران في خبز العيش.
ظل خالي يتحدث مع الأسطى محيي الحلاق لتسليته حتى تعود زوجته. الأسطى محيي رجل يعشق الفكاهة. ويقوم بعمل أشياء غريبة دون النظر لعواقبها.
بينما كان يسير يوما بجوار عربة كارو تحمل أقفاص طماطم، جرحت جريدة أحد الأقفاص أنفه. انتظر حتي يشفى الجرح، لكن أنفه كانت تزداد سوءا.
تذكر بيتا لأبي نواس يقول: "دع عنك لومي فإن اللوم إغراء، وداوني بالتي كانت هي الداء". مادامت أقفاص الطماطم هي التي جرحت أنفي، فلن تبرأ إلا بالطماطم.
أخذ، حبة طماطم كبيرة ناضجة. شقها نصفين، وربطها على أنفه. وعندما كان يشعر بحرقان، كان يصبر نفسه بأن الطماطم تأكل المرض. بعد يومين، ورمت أنفه وأصبحت في حجم البرتقالة. لم ينقذه سوى طبيب الصحة بالعلاج الناجع.
أثناء حديث محيي مع خالي، تبين لهما من بعيد في ضوء القمر، رجلان يقتربان.
من هؤلاء يا محيي؟ سأل خالي.
أجاب محيي، أظن أنه "ابن إخوات" المقرئ ومعه الشيخ مهدي صاحب الكتّاب.
ماذا يفعلان في هذه الساعة؟
كانا يشربان الحشيش في المولد أو البوظة، وهاهم يعودان، يتمايلان ويستند كل منهما على الآخر. ثم طرأت فكرة شيطانية على خاطر محيي الحلاق، تتناسب مع طبيعته الساخرة.
سأل خالي الذي كان لا يزال في الشرفة. هل تريد أن تضحك عليهما، وهم في هذه الحالة من السطل؟ فأجاب خالي بشغف، ياريت يا محيي.
بجوار البيت، توجد حارة صغيرة ملاصقة. دخل فيها محيي، وقام برفع جلبابه ووضعه فوق رأسه لكي يخفي ملامحه. وقام في نفس الوقت بخلع سرواله الداخلي. وانتظر حتى اقتربا وكانا على بعد عدة خطوات. وإذا به يقفذ من الحارة أمامهما، وينط في الهواء، ويخرج أصواتا تشبه الضراط.
بالطبع "ابن إخوات" والشيخ مهدي، لم يتوقعا شيئا مثل هذا. وبعد أن كانا يمشيان الهوينا، يستند كل منهما على الآخر، أطلقا سيقانهما للريح، وولا الأدبار بسرعة الصاروخ. وظلا يجريان إلى أن وصلا إلى قرب نهاية الشارع.
يبدو أن هواء الفجر البارد، الذي لفح وجهيهما، مع الجري وتنشيط الدورة الدموية، أعاد إليهما بعض الوعي. فأخذا يتساءلان، ما هذا الذي رأيناه؟ هل هو عفريت أم تهيؤات شرب البوظة مع الحشيش؟ وحيث أنهما يسكنان بالقرب من المنطقة، لم يكن أمامهما سوى المحاولة مرة ثانية.
بعد فترة قصيرة، عادا يمشيان بحذر هذه المرة، وعيونهما على المنطقة التي ظهر فيها العفريت. كانا ممسكان ببعضهما، أخذا بالأحوط. وما أن وصلا إلى نفس المكان السابق، إذا بالعفريت يظهر فجأة، وينط أمامهما في الهواء. نصفه السفلي عاري، يخرج أصواتا تشبه الضراط كالمرة السابقة.
هذه المرة، كان جريهما أسرع من المرة السابقة. في لمح البصر ، كانا في نهاية الشارع، ثم اختفيا عن الأنظار. خالي في الشرفة يراقب وهو يكاد يغمى عليه، أو قلبه يتوقف من شدة الضحك. ظل يقص علينا هذه الحكاية كلما رآنا، ولم يكن يمل تكرارها. هكذا كانت مصر في أوائل الأربعينات. شعب بسيط، لكنه وبدون شك، سعيد بحياته.
مررنا أنا ووالدي في نهاية الشارع على السني بائع الترمس. يلبس الجلباب الأبيض الناصع، والعمامة. ينده ندهة مميزة لا زالت ترن في أذني: "حلبة عال وترميييس". يزين عربته بقلل الفخار البيضاء بأغطيتها النحاسية اللامعة. نظيف الملبس، باين عليه ابن ناس، هيئته تختلف عن هيئة الباعة الآخرين.
بائع أخر يبيع الكتاكيت. يحملها في غربال فوق رأسه، وينده على الفلاحات وهو يعرض بضاعته قائلا: "ولا يربي الملاح إلا الصبايا الملاح". الكتكوت بقرش. وإذا اشتريت عشرة، يعطيك واحد أو اثنين فوق البيعة.
ثم نجد "ذكي بتاع الجاز". برميل كيروسين مركب على عجلتين من عجلات العربات الكارو، يجره حمار غاية في البؤس. ذكي بتاع الجاز، مدمن سبرتو. ليس أكثر حظا من حماره. يبيع الكيروسين للفلاحات، لزوم لمبات الجاز والإنارة، وبوابير البريموس والطبخ.
بعد ذلك، نعطف يسارا مع الطريق الترابي الضيق. نمر على دكان ترزي بلدي على الشمال. صاحبه اسمه محمود، أخرس. في وسط الدكان منضدة مربعة تملأ المساحة وترتفع عن الأرض مسافة قدم واحد. يفرد عليها الترزي القماش، ويقوم بتفصيله وهو جالس على وسادة قطنية.
بعد ذلك نمر بمحلات معظمها مغلق. هذا محل بقالة، وهذا لبيع القصب. لا أحد يسير في الشارع. الكل في الغيط يفلح. النساء يظهرن بين الفينة والأخرى لكب ماء الغسيل أمام البيوت. لذلك نشم رائحة الصابون الممزوج بالأتربة طول الوقت.
في نهاية الرحلة، نصل إلى بيت جدتي، التي سرت كثيرا لرؤيتنا. قابلتني بالأحضان والقبلات. حمد الله على سلامتكم، الله يسلمك ياجدتي.
والان تنتهي هذه السلسلة من مقالات قصص وحكايات من زمن جميل فات وهذه المقالة رقم 11 والاخيرة .
وسوف نبدأ في المقالات القادمة سلسلة جديدة ((بعنوان قصص وحكايات من عالم الأحياء))


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.