تباين أسعار العملات الأجنبية في ختام تعاملات اليوم الجمعة 21 يونيو    ارتفاع سعر السبيكة الذهب اليوم واستقرار عيار 21 الآن في ختام تعاملات الجمعة 21 يونيو 2024    إعلام عبري: تصريحات نتنياهو ضد الأمريكيين هستيرية    نفذته القسام.. صحيفة عبرية تكشف تفاصيل "كمين نتساريم"    مباشر الآن.. مباراة الأهلي والداخلية فى الدوري المصري.. لحظة بلحظة    "كل واحد يتكلم زي ما هو عايز".. عضو رابطة الأندية يرد على الزمالك: لست مثل الأهلي    غدًا.. 37 ألف طالب بالثانوية العامة يؤدون امتحان اللغة العربية في المنيا    على طريقة مصطفى كامل.. دخول السيدات مجانا بحفل عمر كمال في الساحل الشمالي    43 صورة ترصد احتفالات عيد الموسيقى العالمي بمحطة مترو جمال عبد الناصر    المالية: نعمل على ميكنة مقاصة مستحقات المستثمرين ومديونياتهم لدى الحكومة    «قوة الأوطان» موضوع خطبة الجمعة المقبلة    نادي جامعة حلوان يطلق مبادرة «المخترع الصغير» لصقل مواهب الأطفال    قوة إسرائيلية خاصة تحاصر قلقيلية شمال الضفة الغربية    دي بروين يوجه رسالة إلى الشعب البلجيكي قبل مواجهة رومانيا فى يورو 2024    هآرتس: الجيش الإسرائيلى يستعد لإنهاء القتال فى غزة    مصادر: حلف اليمين للحكومة الجديدة الأحد المقبل    وزيرة الهجرة: صندوق "حماية وتأمين المصريين بالخارج" يوفر مظلة الحماية الاجتماعية والتأمينية    التشكيل الرسمي لمباراة أوكرانيا وسلوفاكيا في يورو 2024    الكاف يحسم موعد مباراة السوبر الأفريقي بين الأهلي والزمالك    هل حصل أحمد شوبير على هدايا من تركي آل الشيخ؟.. حارس الأهلي السابق يوضح    لتعويض كروس.. موندو ديبورتيفو: ريال مدريد يدرس التعاقد مع أدريان رابيو    أول تعليق من الأب دوماديوس الراهب بعد قرار الكنيسة بإيقافه عن العمل    كتلة لهب وسحابة دخان.. حريق هائل يلتهم محول كهرباء في البحيرة- فيديو وصور    «الصحة»: تسليم كروت المتابعة الطبية ل39 ألفًا و713 حاجًا عقب عودتهم للأراضي المصرية    مصر للطيران تسير السبت 19 رحلة جوية.. وأولى رحلات عودة الحجاج من المدينة المنورة    «الداخلية» تواصل المرحلة 26 من مبادرة «كلنا واحد» لتوفير السلع الغذائية بأسعار مخفضة (فيديو)    أبرز تصريحات أحمد سعد في «سولد أوت».. تحدث عن أزمة الحلق وطلاقه من زوجته الرابعة    القاهرة الإخبارية: 21 شهيدا جراء الاستهداف المتواصل لمناطق متفرقة فى غزة فجر اليوم    بعد إتهامه بالسرقة.. شقيق شيرين عبد الوهاب يقاضي حسام حبيب    رئيس جامعة القاهرة يبحث مع «منتدى علماء أفريقيا» قضايا تجديد الخطاب الديني والتراث    وزير الأوقاف: تعزيز قوة الأوطان من صميم مقاصد الأديان    محافظ بني سويف يؤدي خطبة الجمعة بمسجد عمر بن عبد العزيز    الكلب «طاهر أم نجس»؟.. مفتي الجمهورية يحسم الجدل (فيديو)    وكيل صحة الشرقية يتفقد سير العمل بمستشفى الصدر بالزقازيق    بالصور- افتتاح مسجد الرحمة الكبير في بني سويف بعد تطويره بتكلفة 470 ألف جنيه    هكذا يؤثر مرض السكري على أعضاء الجسم    بدائل الثانوية العامة 2024.. شروط القبول بمدارس «القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي»    كوريا الجنوبية تحث موسكو على وقف التعاون العسكري مع بيونج يانج    «الداخلية» تُحرر 169 مخالفة للمحال غير الملتزمة بترشيد استهلاك الكهرباء    بعد الإطاحة به من المنافسة.. خيبة أمل تصيب صناع الفن بعد تذيل أهل الكهف الإيرادات    أزهري يوضح أضلاع السعادة في الإسلام    أحمد مات دفاعا عن ماله.. لص يقتل شابا رميًا بالرصاص في قنا    اتصالات موسعة لاختيار طاقم تحكيم أجنبي لقمة الأهلي والزمالك    مدير آثار الكرنك: عقيدة المصري القديم تشير إلى وجود 3 أشكال رئيسية للشمس    استشاري نفسي يقدم روشتة للتخلص من اكتئاب الإجازة    أمين الفتوى محذرا من ظلم المرأة في المواريث: إثم كبير    طريقة عمل ميني بيتزا، سهلة ومناسبة لإفطار خفيف    وزير الإسكان: جار إنشاء الطريق الإقليمى الشرقى حول مدينة أسوان وتوسعة وتطوير كورنيش النيل الجديد    إسقاط التهم عن طلاب بجامعة كولومبيا اعتقلوا في احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين    نماذج استرشادية لامتحان اللغة العربية لطلاب الثانوية العامة 2024    توجيه سعودي عاجل بشأن رصد 40 حالة تسمم في جازان (تفاصيل)    تفاصيل الحالة المرورية بمحافظات القاهرة الكبرى اليوم الجمعة 21 يونيو    عاجل - "قطار بسرعة الصاروخ".. مواعيد وأسعار قطارات تالجو اليوم    أسعار الأسماك اليوم 21 يونيو بسوق العبور    سول تستدعى سفير روسيا للاحتجاج على معاهدة بيونج يانج وموسكو    حلمي طولان يناشد الخطيب بطلب شخصي بخصوص مصطفى يونس.. تعرف على السبب    طقس اليوم شديد الحرارة على أغلب الأنحاء.. والعظمى بالقاهرة 38    القس دوماديوس يرد على الكنيسة القبطية: "ذهابى للدير وسام على صدرى"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخوف من الخطيئة الطارئة والحلوة
نشر في الأهرام اليومي يوم 29 - 05 - 2015

أهلا يا أنا لم أشهد سماء بنفسجية إلا في باريس ، وبين آفاق لون الميلاد ولون ما قبل الموت كانت بعض من أزهار تقاوم نتف الثلج المعلقة بها ، فيطل لون الزهر الأحمر القاني في نقاط صغيرة بين تلك النتف .
كنت مندهشا لأن بجانبي الفرنسية التي تبلغ الخامسة والعشرين ، وتتميز عن كل من لقيت من بنات باريس بأنها ممتلئة قليلا ، فضلا على عنايتها بمظهرها ، عكس أغلب الباريسيات المتجهمات . وكان من أهم أسباب التجهم هو ما أوضحته بكلام صريح ، بأن الباريسية مثلها مثل بقية الفرنسيات والإيطاليات والألمانيات ، فضلا على نساء شرق أوربا يعانين من ندرة الرجال بالنسبة لعدد النساء ، فالحرب العالمية الثانية بالإضافة إلى حروب جنوب شرق آسيا ، كل ذلك جعل مساحة إفتقاد الحب هو السمة الظاهرة ، ويظل الحلم الأنثوي راغبا وباحثا عن الاكتمال ، فإذا ما آمنا بأن السماء خلقت الرجل لتعشقه امرأة وخلق المرأة ليعشقها رجل ، فما معنى اختراع البارود المعبأ في رصاصات أو قنابل ، ولماذا يرتدي الساسة أحذيتهم في رءوسهم؛ ويضعون عقولهم في أحذيتهم ، ومن أجل ذلك يرسلون الجيوش المكونة من رجال إلى الموت ؟
وعندما وصلت إلين إلى هذا القول ، ابتسمت لها فور رؤيتي علم مصر يرفرف على بناء فخم في شارع «إينا « ، فهنا تقع سفارة مصر .
وحين دققت جرس الباب جاءت لرأسي صورة شعراوي جمعة آخر وزير داخلية قي زمان عبد الناصر وكان صديقا أثيرا لي ، بعد أن لقيته في السويس متابعا لرحلته كمحافظ للمدينة المقاتلة. ولم أكن أعلم أنه من الضباط الأحرار ، لكني كنت مندهشا لالتقاطه فكرة بسيطة أبديتها عن الطريق إلى العدل الاجتماعي ، فحين إنعقد مؤتمر لدراسة التطبيق الاشتراكي بمحافظة السويس، سألته عن عدد المتعطلين والأميين بالسويس ، فأعلن الرجل أنه لا يعرف العدد ، فطلبت منه أن يدور ميكروفون الهيئة العامة للاستعلامات بشوارع المدينة ليطلب من يرغب في العثور على عمل بأن يقيد اسمه في مبنى الاتحاد الاشتراكي ، وأن يتصل شعراوي جمعة بمحمود يونس رئيس هيئة قناة السويس مستأذنا بفتح ورش التدريب لإلحاق أعداد من المتعلمين على المهن المطلوبة للمشاركة في السد العالي ، فضلا على أن هناك حرب اليمن ، وكل تلك مواقع تحتاج إلى عمال مهرة . إحترم الرجل الفكرة وأخذ بها ، وكتبت ذلك في روز اليوسف ؛ وعلمت من السيد منير حافظ بعد سنوات أن جمال عبد الناصر سأل عن مدى جدية ما كتبت ، وتيقن عن طريق أجهزته أن ما كتبته كان صدقا واقعا . ولكني لم أنس كيف قابلني أستاذنا الكاتب الصحفي الكبير محمد عودة ليسألني « كم أعطاك شعراوي لتكتب عن تنفيذه تلك الفكرة ، فلم أجبه سوى بإختناق صوتي بدموع غاضبة ، فتدخل الشاعر صلاح عبد الصبور قائلا « يبدو أنك لا تعرف درجة حساسية الضمير عند منير « ، فاعتذر الكاتب الكبير لي وأوضح أن بعض المحافظين يدفعون « إكراميات « للصحفيين كي يكتبوا عنهم وعن مشاريعهم . ولذلك كنت قاسيا معك . وتسعدني شهادة أستاذك صلاح عبد الصبور» . وبعد عدة شهور كان محمد عودة واحدا من المحاضرين في أول معهد لدراسات الإشتراكية بالسويس وكان المؤسس لتلك الدراسات هو شعراوي جمعة . وكانت تجربة الرجل في الحكم المحلي شديدة التميز ، فلا أنسى وقت أن كنت أجلس معه بمكتبه بالسويس في صحبة العم محمود السعدني ، وجاءه إتصال من نائب رئيس الوزراء للحكم المحلي ليزف إليه نبأ تخصيص أربعة ملايين جنيه لبناء كورنيش على شط السويس ، فقال له شعراوي جمعة « هل تتوقع أهمية بناء كورنيش بالسويس يمكن أن تسبق أهمية إدخال الصرف الصحي للأحياء الفقيرة ومعها مواسير المياه العذبة ؟ أنا عن نفسي ساقوم بوضع منظومة للصرف الصحي ومعها منظومة للمياه النقية في السويس وقراها ، وأرجوك أن تستأذن الرئيس في ذلك « ولم تمر سوى دقائق حتى جاءته مكالمة تليفونية من الرئيس عبد الناصر مباشرة بالسير في إدخال منظومة الصرف الصحي وتأسيس شبكة للمياه النقية ؛ ثم نفكر في إقامة الكورنيش من بعد ذلك.
وفي الجلسة نفسها قال لي شعراوي جمعة « ستعجبك باريس ، فقد علمت أنك سوف تسافر إليها ، وهي مدينة ساحرة ، ولابد لنا من فنجان قهوة قبل السفر .
وفي فندق شبرد أثناء زيارة من شعراوي للقاهرة التقينا ، ليقول لي « دعني أشكرك بشكل عملي على متابعتك لأحوال الحكم المحلي وتجربتي بالسويس ، وشكري لك لابد أن يكون عمليا . فقد زرت باريس أثناء عملي كنائب لمدير المخابرات العامة أكثر من مرة لمتابعة علاقات باريس بكل دبة نملة في المغرب العربي ؛ الجزائر وتونس والمغرب ، وقد بدأ اهتمامهم بليبيا . والمناخ السياسي في باريس يتجه ببطء ناحية إحترام الإرادة العربية ، لكن السلطان الإسرائيلي هناك يفوق الخيال . وأعلم أنك بشكل شخصي مهتم بتجربة اليسار الجديد غير الخاضع لتوجهات موسكو كقائدة للشيوعية في العالم كله . والجنرال ديجول يحاول مد الجسور مع القاهرة » .
وأنا كاتب هذه السطور كنت لا أهتم سوى بحبيبتي التي تدرس هناك . لذلك كنت أستمع لشعراوي جمعة راغبا في استكشاف الأرضية الإجتماعية والسياسية التي تحيا فيها الحبيبة.
ولن أنسى كلماته : القائم بأعمال السفير هناك هو الوزير المفوض جمال منصور وهو الإنسان الذي إختار اسم «الضباط الأحرار» ، للتنظيم الذي كونه جمال عبد الناصر ، ولكن بعد مشادات وقعت عام 1954 بين عدد من الضباط الأحرار بسلاح الفرسان أيقن جمال منصور ضرورة الفصل بين العمل السياسي والبقاء في الخدمة العسكرية ، لذلك دخل إمتحانات السلك السياسي ليخط لنفسه طريقا مختلفا . وهو تقريبا يكاد يكون العضو الوحيد من ضباط تنظيم الضباط الأحرار الذي لم يطلب شيئا لنفسه . لم يطلب شقة أو منصبا أو أي شيء . وهو وجه نادر من فرط احترامه لنفسه، كما أن زوجته السيدة نادية منصور هي سيدة اجتماعية بإمتياز وسبق أن أقامت قنصليتنا في تريستا بشكل يشرف المرأة المصرية .
ولكن عليك أن تعلم أن من يشغل منصب السفير أو القائم بالأعمال ليس هو الشخص المفتاح الذي يقود علاقتنا بالدول ، فقد يكون القائد الفعلي شخصا غير ظاهر ويجيد الاختفاء . وعليك أن تبلغ جمال منصور تحياتي ».
وبمكتب جمال منصور كان ترحيب الرجل رائعا . ودارت الكلمات عن حياتي وحياته ، وبألفة غير تقليدية كان اللقاء مع جمال منصور لأسمع منه جزءا من تاريخ ما اتحمس له وهو ثورة الثالث والعشرين من يوليو ,
لم يخف الرجل عني أنه كان واحدا ممن وضعوا منشورات الضباط الأحرار على مكتب الملك فاروق وفي كل مكاتب القصر الملكي بحكم أنه كان ضابطا بالحرس الملكي . لم يأبه الرجل بوجود أنور السادات كرئيس لمجلس الأمة فروى لي كيف أن أحد ضباط الحرس الحديدي اتفق مع جمال منصور على أن يمده بأحوال تنظيم الحرس الحديدي الذي أشرفت على تكوينه السيدة ناهد رشاد التي حلمت بالانفصال عن زوجها والزواج بالملك فاروق ، لكنه تزوج ناريمان صادق وقام بإذلال ناهد رشاد عندما قام بتعيينها وصيفة للملكة ناريمان . وأن السيدة ناهد رشاد خاضت مغامرة مع أحد ضباط الحرس الحديدي ولكنه هجرها ليتزوج من الراقصة تحية كاريوكا .
لم يخف الرجل قصة وجود أنور السادات كضابط مؤثر في تنظيم الحرس الحديدي ، ومن بعد قيام ثورة يوليو ذهب جمال منصور لزكريا محيي الدين مسئول أمن الثورة ليخبره بتفاصيل مشاركة أنور السادات في عمليات الحرس الحديدي ، وكيف صحب زكريا محيي الدين جمال منصور إلى لقاء جمال عبد الناصر ليروي أمامه قصة السادات كاملة . ولم يأخذ الرئيس عبد الناصر قرارا بشأن استمرار أنور السادات كعضو بمجلس الثورة ، محتفظا به كورقة موافقة دائمة على كل قرارات ناصر .
ولكن جمال منصور اصطدم أيضا بالسيد علي صبري وكان مديرا لمكتب جمال عبد الناصر ، فاتسعت المسافة بينه وبين القائد عبد الناصر .
ولا أنسى سؤالي له « هل أنت غاضب أم حزين لاتساع الهوة بينك وبين اللقاء المباشر المتجدد مع عبد الناصر ؟ « أجابني بإبتسامة « ليس لي مطلب شخصي ولو طلبت لقاء ناصر فهو لن يؤجل لقائي ليوم واحد ، فهو يتذكر تماما كيف سهرنا ليالي طويلة نطبع منشورات الضباط الأحرار في دكان شقيقي بغمرة . وكثيرا ما أرسل لي سائلا إياي إن كان لي أي مطلب . فكنت أطلب له التوفيق لا أكثر ولا أقل.
ودعاني جمال منصور إلى العشاء في منزله بمناسبة عيد ميلاد المطربة صباح الأربعين ، وسيحضر العشاء عبد الحليم حافظ.
..................
عن نفسي وأنا أكتب تلك السطور لن أنسى لحظة استدعاء دكتور فؤاد محيي الدين للسفير جمال منصور يوم السادس من أكتوبر عام 1981 بعد اغتيال السادات ليصيغ بيان انتقال السلطة من السادات إلى الرئيس المؤقت د. صوفي أبو طالب ، ثم ليصيغ من بعد ذلك البيان الذي ألقاه مبارك حين تولى رئاسة الجمهورية .
..................
ولم أكن مهتما بمن هو الشخص المهم في السفارة والذي يدير عجلة القيادة بين القاهرة وباريس ، إلا أن الصدفة وحدها جعلتني أشاهد دخول زميل طفولتي إسماعيل صبري أحد الضباط المشاركين في تهريب السلاح من مصر إلى الجزائر أثناء سنوات حربها للتحرر، رأيت إسماعيل وهو يدخل السفارة ليلتقي بإثنين أولهما هو صلاح بسيوني المستشار الدبلوماسي وثانيهما هو المستشار محمد شاكر ، وهو من عرفت بعد فترة وجيزة أن إسمه الفعلي هو محمد شكري حافظ ، وهو ضابط مخابرات شديد الكفاءة سبق له التسلل إلى الكنيسة الإنجليزية والتي كانت تقع على شاطئ النيل وكان بداخلها أكثر من خلية تجسس على مصر أثناء العدوان الثلاثي عام 1956 .
..................
وأعترف بأني خفت من ضعفي تجاه «إلين» شديدة الجاذبية ، وابنة صاحبة البنسيون ، فقد أصرت في كل ليلة أن تسهر معي ، وكنت أعلم أن بي ضعف الإنجذاب إلى أي شجرة أنثوية أحيا في ظلالها
ولذلك أصررت في صباح اليوم الثالث لي بباريس على أن أغادر البنسيون باحثا عن فندق قريب ، وكان أقرب فندق زهيد السعر هو فندق « فلوريدا « الذي يفصله عن بنسيون الحبيبة شارع واحد . وساعدتني إلين في نقل الحقائب إلى حجرتي الجديدة بالفندق . وعندما شاهدت مدير الفندق ، قالت لي « لاتنزعج من صداقته مع الكلب ، فالصداقة مع الحيوانات هنا في باريس تضمن لك كائنا حيا يمكن أن تحكي له أدق أسرارك ولا تخشى نقل تلك الأسرار إلى غيرك
ولابد لي من الاعتراف بأن فندق فلوريد كان مكانا غريبا . أسمع فيه صوت أقدامي وأنا أصعد إلى حجرتي بالدور الثالث على سلالم خشبية قديمة لكن لها بريقا . وهو فندق يتميز بنظافة باريسية ، وأسعار الإقامة فيه تتناسب مع قلة النقود التي معي ؛ والتي لم يصبر جمال منصور على أن تظل قليلة فقام بتقديمي لشخصية إعلامية في الإذاعة العربية الموجهة للشمال الإفريقي كي أقدم ربع ساعة أسبوعية أستعرض فيها تفاصيل كتاب مصري أو عربي . ولابد من الاعتراف بفضل الحاج محمد مدبولي صاحب مكتبة مدبولي الذي أرسل لي خمسين كتابا بين السياسة والفن والإقتصاد والرواية والشعر ، وقام بتسليمه لأحد الدبلوماسيين من حملة الحقائب لتصل الكتب إلى يدي في باريس ولم أسدد ثمنها إلا بعد عودتي أي بعد أربعة أشهر كاملة ، وبذلك ضمنت مبلغ خمسمائة فرنك أسبوعيا تكفي المأكل والفندق والمواصلات وأيضا ثمن تذاكر المسرح أو السينما ، فأسعار عام 1963 كانت تقول إن إيجار الغرفة في الليلة هو سبع فرنكات أي جنيه مصري واحد ، وأفضل غداء فى مطعم « إخدم نفسك « لا يكلفني أكثر من خمسة عشر فرنكا ، والعشاء رغيف خبز فرنسي وقطعة من الجبن أو قطعة من الفواجرا أي كبدة الأوز، ولن أتحدث عن التفاح الفرنسي فقد كرهته لأنه كان الطعام المتاح في وقت الإفلاس .
..................
اكتشفت في فندق فلوريدا أنه متطابق مع أغلب فنادق باريس من فئة النجمتين ، أي تلك التي لا يوجد فيها بالحجرة حمام خاص ، ولا تليفون ، وطبعا لا يوجد مصعد كهربائي فالصعود على السلم من الدور الأرضي إلى أي دور آخر و الفرق الوحيد بين فندق وآخر هو وجه صاحب الفندق وملامح الكلب الذي بجانبه .
أحيانا تجد صاحب الفندق مؤدبا جدا . ويصادق كلبا غير وديع .وغير شرس ؛ كلب بلا شخصية مميزة كمسيو سينيا صاحب الفندق الرخيص الذي نزلت فيه ،
لذلك جعلت جلساتي المسائية لأيام طويلة في قاعة الإنتظار الموجودة بجانب غرفة مسيو سينيا، أدخن واشرب القهوة السوداء المرة الطعم وأسجل أحداث يومي.
وفي الليلة الأولى شاهدت مسيو سينيا ينصت بأدب شديد لفتاة متوترة تسأله عن إيجار الغرفة لليلة واحدة ،و سمعته يوجه حديثه للشاب الذي يقف بجانبها بأن المبيت لليلة واحدة يكلف عشرين فرنكا لاثنين .
وفي لحظات كانت الفتاة تخرج الفرنكات من حقيبتها ، فناول مسيو سينييا مفتاح الغرفة للشاب؛ وفي روتين عادي جدا سقط قناع التهذيب من ملامح مسيو سينيا وأخذ يعد النقود، ليحدثني قائلا إن عمره خمسون عاما، عمل في أكثر من سبعين فندقا قبل إمتلاكه لهذا الفندق. قال لي عن اخر مبتكرات الحرية في المجتمع الباريسي «الحرية الوحيدة في عالم باريس هي النساء و أن تملك حجرة في فندق ، وفتاة تحبك .
وسقط الأدب مرة أخرى من علي ملامحه وهو يأخذ سيجارة من علبتي التي مددتها له . ولاحظت إن وقار مسيو سينيا هو وقار من يتمني أن يعيش بأخلاق أرستقراطية ؛ لكنه لا يستطيع . ومضي يغني كلمات أغنيه انتشرت في فرنسا أيام الحرب العالمية الثانية .
آه يا حريتي … أنت مجروحة ..
« تركتك علي سريري في الصباح .. دمك كان يسيل ..
« هل تبكين علي أطفالك ؟ .. انك لم تنجبي بعد ..
« السكين خرجت من قلبي لتطعنك يا حريتي ..
« أي قيود حزن تبكين ؟ ..
« إن كنت أنا سر حزنك .. فسأرحل غدا ..
« سأرحل بعيدا .. أبعد مما تتصور أحضانك.
وسحب مسيو سينيا زجاجة نبيذ مخبأة تحت مكتبه، ثم نظر لي ولحظة إكتشافه أن عيوني لا تتركز عليه شرب من الزجاجة مباشرة ؛ ثم قال بأدبه الشديد : باريس مدينة مجنونة وإلا ما سمحت بتسمية هذا الفندق « فلوريد « ومقام في شارع يحمل إسم قديس الرب ، وأنا لا أعلم أي رب هذا الذي يسمح بفندق تدور فيه كل الخطايا.
ولم أعلق ، فالشارع إسمه « شارع قديس الرب « ومعظم الحجرات لا يسكنها أناس مثلي بل كثير من الباحثين عن وقت قصير مزدحم بالإحتضان المكتمل. وأستمر الرجل يتكلم:
عملت في عشر فنادق .. عشرين .. ثلاثين ؟ . لا أستطيع ان اذكر عدد الفنادق التي عملت بها حتى امتلكت هذا الفندق . رأيت كل شئ. وقررت أن أؤلف كتابا . منذ عشرين عاما وأنا أنوي تأليف الكتاب . الجزء الأول منه عن أربع حكايات فقط . الأولي عن سارتر والفتاة التي كان يحبها في فترة الحرب ؛ والثانية عن عصابات سرقة النقود التي تتنقل في المدينة . وثالثة عن فتاة امريكيه تهرب الي باريس مع حبيبها الزنجي الأسود وهي بالمناسبة تسكن في الغرفة المجاورة لغرفتك، والحكاية الرابعة عن حرب التحرير الجزائرية وقد إخترت اسم الكتاب « ليالي الفنادق الرخيصة « .
ثم اتجه مسيو سينيا الي كلبه غير الوديع وغير الشرس ليقول له :
أليس كذلك ياجنرال ؟
قلت : أريد أن اسمع ملخص القصص الأربع . لكن قبل ذلك لماذا تسمي كلبك بالجنرال ؟
قال : لانه يشبه ديجول تماما فلا يتصرف كبقية الكلاب بل يتصرف بعظمة غير حقيقية .
وضحك بعصبية استمر يقول : لم أكتب سطرا واحدا من الكتاب الذي أنوي تأليفه .الفرنكات التي أقبضها كل يوم تكفي سداد ديوني وتكلفة حياتي ، وهي فرنكات رائعة لأنها تنسيني القلم والأوراق . وأشتري بقليل منها « النبيذ البيض « لأشربه كل يوم وأنا أضيف الي ذاكرتي قصة جديدة . إنا أعرف ما يدور في الحجرات . أعرف ما يحدث في 750 فندقا زهيد السعر في باريس.
أقول : أريد أن أسمع حكايات كتابك الأول يامسيو سينيا
تحدث الرجل هامسا :سارتر .. جان بول سارتر . أتعرف هذا الاسم؟ . الجميع يعرفونه . كان يسكن في الحي اللاتيني . شاب قبيح الوجه . في الثلاثين من عمره . أتعرف مارسيل أيضا بطلة قصته « دروب الحرية « الفتاة التي حملت ثم تزوجت رجلا غريبا .
لقد كان سارتر يحب هذه الفتاة . ويعيش معها في فندق كنت أخدم فيه . فتاة غير متعلمة . وجميلة . ليست جميلة بمعني أن تقاطيعها حلوة . لكنها جميلة بمعني أن الخصب يشع من بشرتها ؛فبشرتها تشبه هواء الريف . يخيل إليك أن ملمسها بارد لكن فيها دفء عظيم . مسألة بشرتها هذه مازالت تشغل ذهني حتى الآن . لم أصادف بشرة مثلها رغم مرور عشرين سنة علي الحرب . آه أستطيع أن أقول الآن عن بشرتها إنها طازجة .. هذه كلمة دقيقة التعبير عن بشرة هذه الفتاة . كانت في الخامسة والعشرين . ولم تحب إلا رجلا واحدا هو سارتر. جاءت إلى حياته من ضواحي مرسيليا لتعيش معه وهو في بداية حياته . يتحدث عن الفلاسفة «كيركجورد « و»كانت « و»هيجل « و»ماركس» وكل الفلاسفة . ويجتمع في صالة الفندق بأعضاء الحزب الشيوعي . لكن مارسيل كانت تريده لها وحدها . لا تريد أن يشترك فيه أي صديق . يخيل الي أن حنانها المكبوت طوال خمسة وعشرين عاما أراد أن يحيط سارتر من كل الجهات، وكان حنانها يلح عليها أن تحبس نفسها معه في حجرتها دون أكل أو شرب ، فهي مزدحمة بقلق لا يظهر على الملامح . ثم أعلنت الحرب . جاء النازي الي فرنسا . وكانت مار سيل تنتظر ابننا من سارتر ؛ فأخذ الفيلسوف يصرخ . لابد أن نتخلص من الجنين فترفض مارسيل . وكان ميلاد الطفل يعني في نظر سارتر أنه لن ينتج أدبا أو فلسفة، فقد كان يتصور أن في العالم نوعان من الرجال ؛عاديون . أرقام .ينجبون أطفالا . وآخرون عظماء ينجبون أفكارا . كانت باريس تعيش تحت أمطار الموت المجاني ، وهو يتحدث عن الحرية وكتبه التي لم يكتبها . وهي تحدثه عن الطفل . ويدور لسانها بأسماء الأطباء الذين في إمكانهم تخليصها من الحمل ، ثم تنخرط في بكاء لتتحدث عن ملامح الطفل .
أقول لمسيو سينيا : ما رأيك في الكذب؟ .
سألني : لماذا تشك في حكايتي؟ انت كصحفي يمكنك أن تصدق رواية سارتر؛ لكنك لا تصدق صاحب فندق . لايهم . لقد كذب سارتر ولم يذكر انه كسر نظارته .
أضحك وأقول : سأصدق ما رويته لي على أساس أنه لون الصدق الفني. فما هي الحقيقة؟
قال :لايهم . صدق فني أو كذب ، لكني أومن بأعظم ما في العالم هو الحرية .و الحرية في رأيي هي امرأة تحبها . وأعترف لك أني تمنيت مارسيل لنفسي ، لكني لم أستطع الوصول إليها ، فهي الخطيئة الحلوة التي تمنيتها وخفت منها ولم أستطع إرتكابها .
وقطع حوارنا نباح الكلب طالبا الطعام . وقمت إلى غرفتي لأنام


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.