أهلا يا أنا القبلات على الرصيف المقابل لبوابة الخروج من مطار شارل ديجول ، تبدو شاحبة عكس القبلات التي لا تضيع ملامحها من ذاكرتي ، وكان موقعها الرصيف المقابل لبوابة الخروج من مطار أورلي الفرنسي . وكان الفاصل الزمني بين قبلات رصيف مطار شارل ديجول وقبلات رصيف مطار أورلي هو قرابة الخمسين عاما التي مرت بين زياراتي الأولى لباريس ، وبين زيارتي الأخيرة . فباريس في حياتي هي ترمومتر مقاومة الرضوخ لآلية الحياة القادمة من الولايات المتحدة ، أو من الجمود المتحرك القادم من برودة ألمانيا ، أو من ضجيج الصراخ الزاعق القادم من أفريقيا بأن باريس لم تعد مدينة الأفكار اللامعة ، بل صارت صدى لمدينة قديمة كان لها أثر صاخب معطر في أيام الستينيات عندما فك الجنرال ديجول من حول رقبتها ذلك الحبل غير المرئي الذي علقته أمريكا بجبروتها في رقبة كل دول أوروبا الغربية ، حبل اسمه حلف الأطلنطي ، وقام ديجول بركلة قدم سياسية فطرد مقر الحلف من موقعه بجانب برج إيفل ليغادر الجنرالات الأمريكيين الحي السادس عشر أرقى أحياء باريس ،ليقيموا في بروكسل كمقر جديد للحلف الذي ليس إلا حبلا متعدد الحلقات ترتبط به أغلب دول أوروبا لتسوقهم الولايات المتحدة إلى حيث تريد. أما القبلات الباريسة فهي ذات دلالة لا تعبر عن الحب والحرية وحدهما ، ولكنها أسلوب حياة فرنسي ، يخطو به كل جيل إلى ما يؤكد به إنسانيته ، وقد إندهشت لهذا الأمر حين فوجئت عام 1965 بلافتة في مظاهرة تحتل شارع سان ميشل بأكمله ، ويتواجد بها عدة مئات أو آلاف ، وكانت اللافتة تحمل عبارة ضد الولايات المتحدة ، عبارة ذات مزاج فرنسي لأنها تقول « لاتقتلوا قبلاتنا في فيتنام » . وكانت الحرب الامريكية ضد الفيتناميين في أواسط الستينيات هي الشاغل اليومي لعشاق حرية الإنسان وحرية أي بلد ضد من يحتله بشكل مباشر أو خفي . وطبعا كانت فرنسا تلعق آثار هزيمتها حين سحق الجنرال جياب بطل حرب فيتنام قوات فرنسا وطردها بمعركة لها اسم « ديان بيان فو » و تعالت باريس من فوقها ، لتترك جنوب شرق آسيا وفيتنام ولتنغرز أقدام الأمريكيين في لعبة فيتنام لزمن ليس بقصير. وسر متابعتي الخاصة لذلك التاريخ هو ما جرى بمصر أثناء حرب الاستنزاف ، حيث هاجمت الطائرات الإسرائيلية مواقع الصواريخ المصرية بصاروخ أمريكي اسمه « شرايك » وكانت فيتنام هي الدولة الوحيدة التي قاومت هذا الصاروخ بعلبة من الصفيح كعلب صفائح الجبن الموجودة عن البقالين ، وكانت فيتنام تضع داخل الصفيحة جهاز يشوش على ذلك الصاروخ لا يكلف أكثر من بضعة جنيهات، وكان أمين هويدي رئيس المخابرات العامة بمصر في تلك الأثناء قد بعث بالسفير حسن عيسى إلى هانوي ليأتي لنا بأسرار تلك الصفيحة ، ومن هانوي طار حسن عيسى مباشرة إلى ألمانيا « ليستولي « على عدة صواريخ من نوع شرايك ، وعاد إلى مصر لتجري التجربة أمام جمال عبد الناصر وبحضور قادة المدفعية المصرية ، ويومها قدم عبد الناصر الشكر لجهاز المخابرات على كفاءة العمل الذي أربك العديد من حسابات إسرائيل . ولأن حسن عيسى بتاريخه الذي أحفظه عن ظهر قلب لصداقتنا على مدى أربعين عاما ؛ لهذا السبب فقط تابعت تاريخ فيتنام في مقاومة ترسانة الحرب الأمريكية ، وطبعا كان ذلك يجري أثناء متابعة الصراع بين الأمريكيين والروس . المهم أن فرنسا عاشت بعد الخروج من الهند الصينية وفيتنام وجاءتها فرحة أخرى أهداها لها الجنران ديجول حين قرر قبول استقلال الجزائر عن فرنسا ، فصارت فرنسا بلدا يستحق اسمه كوطن ، لا أن تكون كلمة فرنسا هي اسم لمرض نفسي كما كان الفيلسوف جان بول سارتر يقول « إن لم نترك الجزائر لحريتها ، فنحن نستبدل معنى كلمة «فرنسا» كوطن لتصبح اسما لمرض نفسي . وكانت الشوارع والمنتديات الفرنسية تزدهر بالمناقشات ، ومازلت أتعجب حتى كتابة هذه السطور كيف كتب سارتر روايته الأثيرة في قلبي « دروب الحرية» وهي من ثلاثة أجزاء طويلة وترجمها إلى العربية سهيل أدريس صاحب دار الأداب البيروتية ، وأهداها لي أستاذي الشاعر صلاح عبد الصبور قبل سفري إلى باريس قائلا» حين تقرأ هذه الرواية ذات الألف وخمسمائة صفحة ، ستخطو اقدامك في باريس وأنت تعرف مزاجها النفسي ، فإذا كنا نعيش في أوائل الستينيات ، ففرنسا لم تخرج من آثار الحرب العالمية الثانية حتى هذه اللحظة «. وعلمت من أستاذي صلاح عبد الصبور أن سارتر كتب روايته وهو يجلس على المقهى . وكان ما يدهشني هو المشهد الليلي لوقوف إثنين شاب وفتاة على أي رصيف ليغرقا في قبلة طويلة ، ويفصل بينهما قرابة الثلاثة أمتار لأرى إثنين آخرين يعيشان هذا الإندماج عبر القبلة . أيقنت بعد عدة أسابيع أن عشاق باريس من نصف قرن لا يغرقون في وداع بعضهم البعض بالكلمات والحوارات ، بل كانوا عملين للغاية ، فالقبلات لا تعرف الكذب ، ومن يكذب فيها سيكتشفه شريك التجربة في ثواني معدودة ، هكذا قالت عالمة النفس ماري بونابرت حفيدة الجنرال نابليون ، وهو ما سمعته من تلميذها المصري عالم النفس الكبير د. صلاح مخيمر ، وهو العالم الذي إهتزت له قاعة إحتفالات جامعة القاهرة ، وهو يحدث جمال عبد الناصر أثناء إنعقاد المؤتمر الوطني الأول ، وحين قال صلاح مخيمر بصوت جهوري « يا معلم الشعب : إن الذين حولك كالمرايا .. يعكسون الضوء الصادر منك إليه ويعطون الوجه الأسود للشعب « هنا صمت الجميع لثواني ثم إنفجروا في تصفيق عارم ، وكان على المنصة إثنان هما أنور السادات وكمال الدين حسين ، وبدأ كل منهما في إحتساء عدة أكواب من الماء من الدورق المثلج الموضوع أمام كليهما؛ فما أن يواصل صلاح مخيمير كلماته حتى يجف ريق كل من السادات وكمال الدين حسين ، فهما من الذين حول جمال عبد الناصر ، منذ قيام ثورة يوليو ،وتمثل الوجه الأسود في سلوك كمال الدين حسين الذي نشأ في أحضان الإخوان المتأسلمين إلى أن بهرته قدرات عبد الناصر القيادية فإنضم لتنظيم الضباط الأحرار. ولكن هو أيضا من بدأ إختناق التعليم على يده منذ أن تولى وزرات التعليم، ولن أنسى له قراره بإغلاق المعهد العالي للتربية والذي كان يقدم لمن يلتحقون كمدرسين أسرار الطفولة والمراهقة قبل أن يكونوا معلمين لأبناء المحروسة ، وقد أغلق المعهد لأن الأستاذ الدكتور سعد جلال هو من هو مجال ؛ قال لكمال الدين حسين « حين تدخل مدرج عليك أن تدق على الباب أولا ليأذن لك المحاضر بالدخول ، فحسن الأدب يفرض عليك ذلك حتى وأنت وزير للتربية والتعليم ،أما أنور السادات فقد تولى المؤتمر سكرتارية المؤتمر الإسلامي ، وهو من تحمس بشدة لحرب اليمن ، التي كانت ضرورية وغير ضرورية بدرجة متساوية ، فأن ينتقل شعب اليمن بمعاونة مصر من القرن الثالث الميلادي إلى القرن العشرين كان أمرا هاما وضروريا ، ولكن سفر عدد كبير من قوات الجيش إلى تلك الحرب فهو أمر كلفنا الكثير اقتصاديا . وبجانب مكتب أنور السادات في المؤتمر الإسلامي ترنحت أجهزة مخابرات العالم في الردهات. ومن يقرأ كتاب خريف الغضب لأستاذنا هيكل سيرى التفاصيل المرعبة عن تلك الفترة من عمر السادات . كان يساعده في عمله بالمؤتمر الإسلامي أحمد عبد الله طعيمة من سكرتارية هيئة التحرير أول تنظيم سياسي لثورة يوليو ، ثم جاء الاتحاد القومي من بعده كوريث لعملية التنظيم السياسي الواحد ، ومن ردهات المؤتمر الإسلامي جاءت سيوف من الذهب الخالص كهدايا لمن ترغب دول الخليج في التواصل معهم من رجال الصف الثاني من ثوار يوليو ، وكان أبرز من تلقوا مثل هذا السيف هو أحمد عبد الله طعيمة الذي لعب دور الرجل الثاني في المؤتمر الإسلامي ، وكان الرجل الأول هو أنور السادات . وقد حاول أحمد عبد الله طعيمة أن يبرز كزعيم سياسي فركب ذات عودة له من الخارج سيارة مصفحة تمشي في محيط من سيارات الحراسة ، ولما كان غير منتج في عمله ، يراعي المظهرية ذات الضجيج دون إبداع لذلك حاسبه عبد الناصر مؤكدا أن مواكب السيارات لا تصنع زعماء بل يصنعهم العمل بين الناس . ولعدة أسباب اخرى حدد إقامته في منزله ، ولأنه تعود على الترف فقد حكى لي أنه قام بتهريب سيف من الذهب الذي أهداه له أحد رجال الخليج وباعه في الصاغة بنصف الثمن تقريبا . ............. كان منظر الشباب الفرنسي وهو يمارس القبلات شفافا وشاعريا في منتصف الستينيات ، وأعترف أن عيوني بحثت عن شباب يمارسون تلك اللعبة وأنا خارج من قصر الإليزية بعد أن حضرت مؤتمر ديجول الصحفي ، ولم أكن أشعر ببهجة من جاء بعمل صعب ، فلم أكن سوى مستجيب لدماثة خلق محمد شكري حافظ رجل عبد الناصر بالسفارة المصرية بباريس ، وكان الرجل بانتظاري على مقهى الدراج ستور الموجود بجانب قوس النصر في أول الشانزليزيه. كان الرجل يحاول إشعاري بأني قمت بعمل وطني جليل مع أن تحليلي لكلمات ديجول وقفت بيني وبين تصديق أسلوبه ، فقد عرفت عبر آخرين عاشوا داخل قصر الإليزيه أن ديجول كان يخفي عنصرية مشوبة بعدم تقدير للعرب . وراح يؤكد لمن حوله أنه ترك الشمال الإفريقي لمصير يعلم أنه ليس مصيرا لائقا بحياة البشر ، فإلى أن تقام دول يشترك في إدارتها كل أبنائها فذلك هو الأمر الصعب ، لأن أغلب الدول المستقلة بما فيها مصر صارت تتقارب مع عدوه رقم واحد ألا وهو الروس ، فقد كان يسمي موسكو بعاصمة إمبراطورية الشر ، بينما نجد فيلسوفا فرنسيا هو ماكسيم رودنسون الذي عاش لسنوات عديدة ضمن الحزب الشيوعي الفرنسي ، ثم استقال منه لفرط تبعية قيادة الحزب لتعليمات موسكو ، كان و هو من قال لي عندما التقيته « كيف يسمح الحزب الشيوعي بقياداته في موسكو بهذا الترهل ، والذي تحولت فيه عضوية الحزب إلى مكسب مادي يضع كل عضو فيه في مكانة أعلى مما ينتجه لبلده ، نعم موسكو تعاني من أنها مجتمع تحكمه عصبة ذات قدرة على الثرثرة بكلمات العدالة والحرية ، ولكن الحقيقة أنها حرية يملكها أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي ويحكمون الشعب بالحديد والنار ، ويدخنون السجائر الأمريكية ويرتدون الملابس الباريسية ، ولا ينتبهون إلى إمبراطورية الشر الصاعدة بعد الحرب العالمية الثانية وهي الولايات المتحدة . ولذلك قدمت استقالتي من الحزب الشيوعي الفرنسي الذي تحول إلى مجرد ببغاء يكرر ما تهمس به موسكو ». كنت مندهشا وأنا ابن الرابعة والعشرين من أن عاصمة النور باريس تعيش هذا الاختلاف في الرؤى بين فيلسوف اشتراكي هو ماكسيم رودنسون وبين قائد سياسي هو ديجول ، فكلاهما يشترك فقط في عدم النظر للولايات المتحدة باحترام ، يتفرد ديجول بأنه يؤمن أن عاصمة إمبراطورية الشر هي موسكو، بينما يرى الفيلسوف رودنسون أن عاصمة إمبراطورية الشر هي واشنطن ، وهدأ من روعي لقاء عالم اجتماع مؤثر وشديد القدرة على النظر إلى الأمام ، فعندما قابلت ريمون آرون ، عالم الاجتماع الأبرز في أواسط الستينيات ابتسم لسؤالي عن العدالة الإجتماعية التي ترفعها موسكو وعن الحرية التي تترنم بها الولايات المتحدة ، قال الرجل بهدوء من يقرا المستقبل « لا مكان لافكار موسكو على أرض الواقع الكوني لانها متخلفة تكنولوجيا عن الولايات المتحدة ، ولا مكان لهذا الرخاء المزيف الذي تتغنى بها الولايات المتحدة ، لأن الآلية هناك تعامل البشر كالآلات . ولعل النقطة الوحيدة التي أتفق فيها مع سارتر الذي يدعي خصومتي هو قوله أن السماء في نيويورك تبدو بعيدة جدا عن الأرض ، وكأن الخالق يصر على الابتعاد عن واحدة من أكبر مراكز الشرور » . ولأن ريمون آرون يهودي وأنا عربي قلت له « ماذا عن إسرائيل ؟ » أجابني : إلى زوال إن لم تجد من تمسك بذيله ليحميها من المحيط العربي الشاسع ، وهي أمسكت من قبل بذيل إمبراطوريتين غاربتيين ، إنجلتراوفرنسا ، وهي الآن تمسك بذيل الولايات المتحدة ، ولها أصابع فعلية في مواقع مؤثرة بموسكو لكنهم لا يظهرون للعامة . وعليكم كعرب الإتفاق على الاستفادة من ثرواتكم الطبيعية لصناعة تقدم اجتماعي ، بدلا من ترديد شعارت لا تنتج وظائف ولا تبني بيوتا ولا تحقق أحلاما ، ويمكنك حين تنظر إلى الخريطة ستجد حركة إسرائيل تتجه إلى حرب جديدة مستغلة نواحي القصور في السياسية العربية». وقد قال الرجل تلك الكلمات قبل عدوان إسرائيل علينا بالمعاونة الأمريكية عام 1967 . وكتبت ذلك ، لكن ما أكثر من تم إهداره من حبر على الورق للتحذير ، ولعل أبرز ما كتب عن ذلك هو أستاذنا كامل زهيري الذي قدم أفكار هنري كيسنجر الزاحفة في تلافيف أمخاخ العقل السياسي الأمريكي . وما أن خرجت من مكتب ريمون أرون حتى قابلتني القبلات من جديد ، كأنها أعمدة إنارة للقلوب ، فبين كل اثنين يمارسان القبلة هناك إثنان آخران يلعبان نفس اللعبة . وكان لابد من السير في صيف باريس الزاعق بالمطر وحيدا ، أبحث عن موقع لقدمي في المترو لأنتقل من الحي اللاتيني حيث يسكن الرجل إلى الحي السادس عشر لأصل إلى فندق فلوريدا الكائن بشارع قديس الرب ، والذي تسكن برجيت باردو على ناصيته فهي تملك شقة لا نظير لفخامتها ، وهي من كانت تعاني في وقت زيارتي تلك لباريس من استقالة عاطفية قدمها لها حبيبها الجزائري الذي عشقته بجنون لأنه شرقي الدماء قادر على إخضاعها وهي المتمردة طول الوقت ، فبعد أن انتهت من تصوير فيلم « الاحتقار » عن قصة ألبرتو مورافيا حتى فوجئت بالحبيب يطلب منها أن تكتب باسمه السيارة الجاكوار التي تم تصميمها خصيصا لهذا الحبيب ، ثم طلب منها عدة آلاف من الدولارات ، لتكتشف ذات صباح بأنه أخذ كل ملابسه من منزلها الفاره ، وترك لها عبارة واحدة « ابحثي عن حيوان آخر غيري لتستنزفينه » . وكان طبيبها النفسي الفرنسي يقف على أطراف أصابعه بحثا عن راحة نفسية لممثلة فرنسا التي قيل انها بركان أنثوي شديد التفجر . وكأنها مارلين مونرو الساحرة التي سرقت خيالات الملايين، بينما كانت تشكو البرود لمصورها السويدي الذي التقت به بعد طلاقها من المؤلف المسرحي الشهير آرثر ميلر ، وبعد أن أساء إستخدام أنوثتها لحساب المافيا المطرب الأمريكي الشهير فرانك سيناترا ، وبعد أن زهد فيها كل جون كيندي رئيس أمريكا المثقف وشقيقه الذي أدار المخابرات الأمريكية ، كان يقول” لم أعد أحب فكرة أن تكون المرأة جميلة ، صرت اتمنى أن أكون تلك الدميمة التي يهرب منها الرجال » . ويضيف المصور السويدي « كنت أضحك مما تقول ، لأنها فور أن ترى الكاميرا تدور حتى تتحول إلى هذا الطائر الأنثوي الناعم الذي يقسم بكل مقدس قسما كاذبا بانها تملك مفاتيح جنة العطاء الأثنوي الفياض. والحقيقة أنها لاتملك أي مفتاح لخزائن من دموع وبرود «. حين قرأت ما قاله المصور السويدي تذكرت رأي أستاذي سعد جلال عالم النفس الكبير الذي أكد لي أن هذه النماذج من النساء تعاني من برود عاطفي شديد وتحاول تعويض هذا البرود بإدعاء امتلاك ما لا تملك فعلا . وغالبا ما تسبح وحل التعدد بحثا عن مرفأ عاطفي فلا تجد سوى عيادة اقرب طبيب نفسي يطفيء توترها بالأقراص المهدئة فتبدو وكأنها كيس من لحم أدمي مزدحم بالتعاسة من فرط الفراغ العاطفي. هكذا حدثت نفسي وأنا خارج من قصر الإليزيه بعد حضوري كمصري لمؤتمر الجنرال ديجول في آخر يوم من ديسمير. كنت مشتاقا إلى السير في شوارع باريس ، وكان ضابط الرئاسة المختفي خلف منصب المستشار الدبلوماسي ينتظرني على مقهى ّ الدراج ستور « بشارع الشانزليزية ، قال محمد شكري حافظ لي « شكرا .. لقد أجاب ديجول على سؤالك الذي قدمناه لقصر الإليزية كإفتتاحية لمؤتمره الصحفي « . ولما لم أعلق ، سألني « ألم تشعر بالرضا من المؤتمر الصحفي ؟» أشرت إلى إثنين ، شاب وفتاة يسبحان في قبلة طويلة ، قائلا « إن الجنرال لايهتم كثيرا بما قاله لي ، فكل تركيزه الآن هو إقناع الشباب والبنات بان يتزوجوا بدلا من السباحة في القبلات في شوارع باريس . لكن الشباب الفرنسي يعلم أن الحصول على عمل لإتمام زواج عن حب هو أمر شديد الصعوبة ، لذلك أنتجت مجموعة من الشباب فيلما عن زواج اثنين من الطلبة بالجامعة ، فقد جرفهما الحب إلى حلم الاستقرار ، فتزوجها على أمل أن يعمل الشاب بضعا ساعات في سوق الهال لحمل الخضروات من عربات النقل إلى داخل محلات ومخازن السوق ، وتعمل الفتاة في محل «برنتان» كبائعة ملابس لثماني ساعات ، ويفاجأ الإثنان بأن هناك طفلا قادما في الطريق ، وما أن تضع المراة طفلها ويطالبها الزوج الطالب أن تنزل إلى العمل حتى يفاجأ الإثنان بأن صاحب الفندق الذي يقيمان فيه يطالبهما بالرحيل لأن بكاء الطفل الليلي يزعج الزبائن ، وتكون النتيجة الأخيرة هي إتفاق الاثنين على الطلاق وإيداع الطفل لملجأ أقامته كنيسة المادلين أكبر كنائس باريس ، تلك الواقفة أمام مركز البوليس السياسي الفرنسي وهو جزء من المكتب الثاني المتخصص بالتجسس ، وبجانب المركز توجد المحكمة ، فكأن الكنيسة موجودة كي يدخلها من تم القبض عليه بواسطة البوليس ، ولن ترهق الشرطة نفسها ينقله إلى مكان بعيد ، فالمحكمة موجودة بجانب مركز الشرطة ، ومن بعد المحاكمة قد يصدر حكم بالبراءة ، لذلك فبإمكانه إستغفار السماء بدخول الكنيسة ، أو أن يعود إلى الكنيسة بعد قضاء العقوب بأحد السجون. وما أن ركبت المترو الذي يربط باريس كلها ويعتبر آية في الانتظام ، لم أجد مكانا في الدرجة الأولى والتي توجد بها أيضا أكثر من شفاة تلتقي بشفاة ، فركبت الدرجة الثانية المزدحمة لأجد أيضا أكثر من شفاة تلتقي بشفاة ، ولكن كان التنفس صعبا من فرط رائحة العرق المزدحمة بتخمر النبيذ الذي يشربونه عمال على بطال ، فكدت أختنق ، لأنزل في المحطة التالية ولأبحث لنفسي عن مكان في الدرجة الأولى ، وما أن صعدت حتى عاد نفس المشهد ، قبلات لا تنتهي. أيقنت أن باريس تعيش على القبلات لتؤجل انزعاجها من عجز اقتصاد أوروبا كله عن الوقاء بأحلام الجيل الشاب في بيوت صغيرة تسع الأحلام . وأخذت أفكر في الشاعر الذي أحببته كثيرا وجاء من التشيلي ليقيم بباريس بابلو نيرودا الذي قال ما لا أنساه «الحياة على كوكب لا يهب شبابه حلما في مستقبل هو قبلة مكسورة الجناح تؤجل حزنا بجرعة أمل مؤقت».