قدر غريب هذا الذي جمع بين شخصي الحالم، وبين قائد صار بالنسبة لي علي هيئة قلبي. اسم القائد جمال عبدالناصر، أما كيف صار قلبي علي هيئته، فتلك رحلة طويلة، بدأت في لحظة محددة، حين وقف في ميدان المنشية بالإسكندرية ليعلن تأميم قناة السويس «قرار من رئيس الجمهورية. تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية». وعلي مدي رحلة العمر كثيرا ما غضبت منه، فحاولت أن أخلعه من قلبي، وما إن أشد قلبي من بين ضلوعي كي أعاتبه حتي يحدث الأمر العجيب، ففور انتهاء العتاب يعود مرة أخري قلبي ليدق بين ضلوعي هامسا: هذا رجل امتلك من الإرادة ما أشعل به إرادة شعوب تسكن قارات ثلاث «أفريقيا - أسيا - أمريكا الجنوبية». -- أثناء لحظة تأميم القناة كنت أحضر مسرحية «ثمن الحرية» التي قدمها فريق التمثيل بجامعة الإسكندرية. وعندما أسدل الستار علي الفصل الأول من المسرحية، أعيد فتح الستار مرة أخري ليخرج د.السعيد مصطفي السعيد رئيس الجامعة ليعلن نبأ تأميم القناة، وتم فتح أبواب المسرح، ليخرج الحضور. كل ما بقي في الذاكرة من هذا اليوم هو التصفيق الذي كان يملأ سماء الإسكندرية بشوارعها، وصرنا كجموع تصفق بأيد كحمامات الحما المؤمنة بمستقبلنا، واتجهت الجموع إلي ميدان المنشية، ولم تنم الإسكندرية ليلتها، فبالقرب من المنشية هناك شارع اسمه شارع الطوبجية، وقد أخذ اسمها من مهمة المصريين الذين كانوا يصنعون قذائف تصلح لمدفعية متهالكة للدفاع عن مدينتهم من هجمات الأسطول الإنجليزي، وكانت المدافع التي يصنعون لها القذائف حديثة منذ أن أنشأ محمد علي الترسانة الحربية وصناعات السلاح المختلفة، ولكنها تهالكت بمرور الزمن، وكانت هي المدفعية التي يملكها جيش عرابي في مواجهة ترسانة تصنيع هائلة تملكها بريطانيا، وبهذه المدفعية المتهالكة قاوم السكندريون بوارج الجنرال سيمور، فالعام هو 1882 والجنرال سيمور يقود أسطولا إنجليزيا مكونا من أربع عشرة بارجة من أحدث ما أنتجته الصناعات الحربية الإنجليزية، واستطاع أهل الإسكندرية إغراق سبع بوارج من الأربع عشرة بارجة، ورغم أن الإنجليز احتلوا مصر من يومها إلا أن الشارع أخذ اسمه من هؤلاء الصناع العظام. وها هو جمال عبدالناصر يسترد من الميدان المقابل للشارع قناة السويس في يوليو 1956 ولم يكن قد مر سوي عدة شهور علي آخر خروج للإنجليز من قاعدة قناة السويس. فهل كانت مصر تملك من السلاح ما تقاوم به إنجلترا؟ طبعا لم يكن هناك سوي سلاح واحد هو الإرادة الوطنية الصلبة التي جعلت المصريين جميعا سبيكة واحدة. وأتذكر الآن أني سمعت لأول مرة وصف المصريين بأنهم سبيكة واحدة عليها أن تمسك السلاح بيد وتقوم بالبناء باليد الأخري، وكان من نطق بهذا الوصف هو «شوقي عبدالناصر» شقيق الرئيس جمال عبدالناصر، وكان شوقي عبدالناصر يدرس لنا اللغة الإنجليزية أثناء دراستنا الثانوية بمدرسة محرم بك الخاصة التي أسسها فهمي بك عبدالمجيد والد الدكتور عصمت عبدالمجيد لتكون علي نفس مستوي كلية فيكتوريا وكلية سان مارك، وقد أنشأ فهمي عبدالمجيد المدرسة مع تأسيسه لمستشفي المواساة، والهدف هو الحلم بتوفير مستوي شديد الرقي في الصحة والتعليم بعيدا عن سيطرة إنجلترا أو فرنسا علي مقدرات المدارس المتميزة. وكانت مصاريف المدرسة في العام تبلغ أربعة وعشرين جنيها، الذي يساوي بنقود هذه الأيام قرابة الستين ألف جنيه. وتحملها والدي من أجل تعليمي عن طيب خاطر إلي أن جاء د.طه حسين ليجعل التعليم مجانيا ولتنضم مدرسة محرم بك الخاصة إلي إدارة وزارة المعارف؛ فانخفضت المصاريف إلي جنيهن اثنين لا غير. ولعلي كنت أكثر المبتهجين بدخول أعداد هائلة من الفقراء إلي مدرستي، لأني كنت «أفقر متقدر» طوال سنوات دراستي الابتدائية، فأغلب زملائي تقف لكل منهم سيارة خاصة علي باب المدرسة، فضلا عن انتمائهم لحياة منازلهم التي تبدو كالقصور، بينما أنا ابن موظف كبير في وزارة الصحة، ونسكن في شقة وليس لي في البيت حجرة خاصة بل أنام مع شقيقي في غرفة واحدة، ونستذكر دروسنا علي «ترابيزة السفرة»، وهذا أمر لا يعرفه زملائي الأثرياء حيث لكل منهم في منزله حجرة خاصة ومكتب أنيق، وعندما أزور أحدهم فهو يستقبلني بالروب دي شامبر، الذي لم أكن أراه سوي في أفلام السينما. ولم أكن أعلم أن دخول الفقراء إلي المدرسة سينقذني شخصيا من الإحساس بأني أقل واحد في المدرسة، ولا أنسي مشهد خطف زميل من زملائي الفقراء لساندوتش الفول الذي كنت قد اشتريته من كانتين المدرسة، فجريت خلفه لألحق به وأوسعه ضربا، فما كان من المشرف علي فناء المدرسة وهو الأستاذ شوقي عبدالناصر إلا أن قال لي «ليس هكذا يتم التعامل بين الزملاء»، وقام بتوبيخ من خطف الساندوتش، وطالبه بأنه إن احتاج لسندويش فول فليس عليه سوي أن يذهب إلي غرفة المدرسين ليأخذ منه شخصيا ثمن الساندويتش. وطبعا ذكرني الأستاذ شوقي عبدالناصر بما يفعله والدي للفقراء، فشوقي كان يعيش مع والده في البيت المملوك للحاج عبدالناصر حسين خليل سلطان بشارع كنانة، الواقع خلف شارعنا السكندري، ويعلم أن والدي هو من قام بتأسيس ثلاثة مستوصفات تابعة للجمعيات الخيرية، وتقدم أيضا مساعدات مالية للأسر الفقيرة. ولم أكن أعلم أن والدي سيموت وأني سأقف مع اثنين من زملائي بعد شهرين من وفاته أي في أكتوبر 1954 بسبب مناداة سكرتير المدرسة لأسمائنا كطلبة متخلفين عن سداد الرسوم، وهو ما يقتضي فصلنا من المدرسة إلي أن نسدد المصروفات. ونزلت الدموع من عيوني_ رغم أنفي _ فلم أتعود علي مواقف تشهد بعجزي أو عجز أسرتي، وكان مدرس الحصة الموجود هو شوقي عبدالناصر الذي قال لسكرتير المدرسة «اعتبر مصروفات الثلاثة دول قد تم دفعها». ولم يكن بإدارة المدرسة من يرفض كلمة ينطق بها شوقي عبدالناصر، فقد صار معروفا للكافة أنه شقيق جمال عبدالناصر، ومعه شقيق آخر هو الليثي عبدالناصر الذي يدرس لنا الجغرافيا والتاريخ، ولكن شوقي كان هو المحبوب بأكثر كثيرا من الليثي عبدالناصر.. وبعد الحصة شرحت للأستاذ شوقي عبدالناصر أني تأخرت عن دفع المصاريف بسبب تأخر المجلس الحسبي في الإفراج عن نقود شهرية تصرف لي ولشقيقاتي القصر من ميراث والدنا الذي رحل. أخذ شوقي عبدالناصر المعلومات عن المجلس الحسبي، ولا أدري كيف تم الإسراع بفك أسر جزء لا بأس به من رصيدنا نحن الأبناء القصر لوالدي المتوفي. وضحك يومها الأستاذ شوقي عبدالناصر سائلا إياي: «هل ستنضم إلي منظمة الشباب التي يؤسسها الآن الصاغ وحيد رمضان؟» أجبت بأني لم أسترح لخطبة الصاغ وحيد رمضان التي ألقاها علينا في المدرسة، ولا أريد أن أعمل في السياسة خصوصا بعد القبض علي زميلنا محمد قناوي بتهمة الشيوعية، وعمره لا يتجاوز الأربعة عشر عاما. وكان شوقي عبدالناصر يعلم أني لا أحب الإخوان المسلمين، أما عن السبب فلم يكن أحد يعرفه سوي أصدقائي المراهقين مثلي، ففي أحد اجتماعات شعبة الإخوان المسلمين بشارع الإسكندراني بحي محرم بك، دارت مناقشة لمشكلاتنا الخاصة كمراهقين، وفتحت خزانة جنوني كمراهق، وسألت من يرأس المجموعة التي وضعوني فيها بالشعبة عن حكم الشرع فيمن يرضع من ثدي زوجته التي أنجبت حديثا، وهل يعتبر شقيقا لابنه؟. ولم تمر سوي دقائق إلا وهمس محمد الزلباني الذي قادني إلي الشعبة بأن علينا أن نغادر المكان ونهرب، وكانت كلماته «هناك من سينتظرك بعد نصف ساعة ليضربك، لأنك تثير أسئلة قليلة الأدب». ولم أكذب الزلباني لأنه إخواني ابنا عن أب، وهو لا ينسي موقف أبي من عائلته عندما أخذوا والده وعمه في فجر أحد أيام عام 1948 وكيف ضربهم البوليس وألقي بأثاث المنزل من نافذة البيت. وأصر أبي علي رعاية أسرة الأب والعم. وكان محمد الزلباني يعتبرني أكثر من شقيق. وفي الشارع سألني عن الجنون الذي جعلني أسأل مثل هذا السؤال. وحكيت للزلباني أن الرضاعة هي مشكلة من مشكلاتي، لأني الابن الوحيد الذي جف لبن الأم بعد إنجابي لأن لي شقيقة كانت تكبرني بشهور قد ماتت بالدفتيريا، ولم يستطيعوا إنقاذها. وقد جف لبن أمي. وظل نهد المرأة هو أهم عوامل إثارتي شخصيا ويكاد أن يكون مفجر إحساسي برجولتي، وكنت كل صباح أرقب بنات المدارس التي تحمل كل منهن عدة كتب تحتضنها إلي صدرها، هذا العضو المثير لي تماما. ولم أكن أعلم أن «رضاعة الكبير» ستنفجر ذات يوم لتصبح قضية مثارة عند الرأي العام، وقد حدث هذا بعد أن بلغت الستين. كان هذا أول وأهم خلاف بيني وبين أعضاء تنظيم الإخوان المسلمين، وطبعا لم أعلن عنه لشوقي عبدالناصر، فقط أعلنت أني لن أنضم إلي أي تنظيم سياسي. -- وأتذكر لحظة دخول الرئيس عبدالناصر لمبني آداب الإسكندرية، وفي صحبته جواهر لال نهرو. وكنت واحدا من الطلبة الذين وقفوا لاستقباله. هل أقول إني حاولت طوال خطبته أن أركز عيوني في عينيه، فلم أستطع؟ هل كانت نظراته تخترق جدار الواقع الذي نحياه لتطل علي الحلم؟ كل ما أعرفه هو أني كلما سمعت صوته أو رأيت صورته غمرتني مشاعر بأننا سادة العالم، ألسنا نحن من شاهدنا رحلة تحويل مصر من مجرد قرية لها اسم دولة وتقع أسفل البحر المتوسط ويحوم حولها المستعمرون طوال التاريخ إلي دولة يتوقف قلب ومشاعر العواصم الكبري في الكون بسبب أي كلمة أو رأي يخرج من القاهرة. فإرادة التحرر التي امتلكها عبدالناصر امتدت من ضميره لتستقر كبذرة لشجرة كرامة ثمارها هو الإحساس الجارف بأن كل عربي هو إنسان له وجود محترم. وهل أنسي حين اختلف سائق تاكسي مع راكب سوداني علي قراءة عداد التاكسي، فقال السوداني للسائق المصري: «خسارة فيكم عبدالناصر»، وأصر سائق التاكسي علي أن يصحب الراكب السوداني إلي أكبر محل لصيانة عدادات السيارات وهو الخواجة كوستا بشارع معروف، وأكد كوستا للراكب السوداني أن عداد التاكسي مضبوط تماما، فما كان من الراكب السوداني إلا أن ظل يقبل رأس سائق التاكسي ويهتف في شارع معروف: «أنتم تستحقون أن يكون عبدالناصر هو قائدكم». -- ولم أكن أتصور حدوث ما أرويه الآن، فقد كان هناك موعد بيني وبين السيد شعراوي جمعة، وكان محافظا للسويس عام 1962 وكنت من أشد المعجبين بقراره الذي أبلغه أمامي لكمال الدين حسين نائب رئيس الوزراء؛ حيث رفض رصد أربعة ملايين جنيه لإقامة كورنيش بالسويس، وأنه سيحول المبلغ إلي حساب تنفيذ حلم السويس في أن يكون لكل بيت صرف صحي مقبول، ولتدخل المياه النقية إلي الأحياء التي لا تصلها المياه العذبة. كان مكان اللقاء هو مبني مجلس قيادة الثورة، وفي منتصف الردهة المؤدية إلي المكاتب، تقدم مني فرد أمن ليلزقني في الحائط هامسا «سيادة الرئيس». ولمحت جمال عبدالناصر يدخل من الباب، ودارت عيونه لتلتقط كل من في الردهة، وتوجه إلي حيث أقف ليدور الحوار الذي اكتشفت فيه أنه يتذكر أبي وسأل عن أحوال أمي، فهو يتذكر أبي وأين كنا نسكن بحكم الجيرة مع والده وأشقائه. وعلم لحظتها أن والدي لم يستحق معاشا لأن صدقي باشا كان قد أصدر قانونا يمنع الموظف من المعاش إن لم يعمل لمدة ربع قرن بالحكومة، وكان والدي قد قضي نحبه بعد مرور أربعة وعشرين عاما من العمل. نادي عبدالناصر علي سكرتيره محمود الجيار ليأخذ عنوان منزلنا بالإسكندرية، لأفاجأ بعد يومين اثنين بوصول فارق المتجمد من معاش أبي ويسلم باليد لأمي، مع صدور قرار بإلغاء قانون صدقي باشا، فصار هناك معاش لكل أرملة مثل أمي. -- وهل أنسي أني عندما كنت شابا في الرابعة والعشرين من عمري، وأوجد في باريس من أجل قصة حب أن ألح علي محمد شاكر مندوب الرئاسة المتخفي تحت وظيفة مستشار بالسفارة، ألح الرجل علي شخصي أن أذهب إلي مؤتمر ديجول السنوي الذي يعقد بقصر الإليزيه، وكان المطلوب أن أقدم باسمي سؤالا عن علاقة فرنسا بالعالم العربي بعد أن تحرر الشمال الإفريقي كله بقيادة مصر للعالم العربي، وقدمت السؤال لقصر الإليزيه واتفقت السفارة علي أن يصحبني كل من السكرتير أول صلاح بسيوني وعلي السمان الذي كان طالبا للدراسات العليا ويقيم منذ أعوام طويلة بباريس، وما إن بدأ المؤتمر الصحفي حتي كان الجنرال ديجول يجيب علي سؤالي كأول سؤال في مؤتمره، ليعلن أن فرنسا ستقف في أي صراع قادم بين مصر وإسرائيل بجانب من لا يطلق الرصاصة الأولي، وأن فرنسا صارت تؤمن بأن إقامة مركز ثقافي في أي بلد أفضل ألف مرة من إقامة قاعدة عسكرية؟ طبعا لا أنسي أيضا أن إجابة الجنرال ديجول لم تحز إعجابي لسبب بسيط وهو ذكره لأمر اعتبرته مهينا، فقد ذكر أن المعونات التي تقدمها فرنسا للدول التي استقلت في الشمال الأفريقي تفوق مساعدات أي دولة كبري بما فيها الولاياتالمتحدة. وشهدت صفحات روز اليوسف عنوانا أثيرا في قلبي وهو «لعبة العلاقات الطيبة مع الأطراف المتنافرة» فنحن نتنافر مع إسرائيل ولا يمكن أن تقوم علاقات طيبة بيننا وبين من يقوم بتسليح إسرائيل في السر، وكانت فرنسا في ذلك الوقت تساعد إسرائيل في التسليح بما لا نعرفه نحن العامة. وأتذكر أن السفير المصري هناك ناداني ليؤكد لي خبرا كان مكذوبا، وهو امتناع فرنسا عن تسليح إسرائيل، فأرسلت الخبر إلي روزاليوسف التي كان يرأسها في ذلك الوقت إحسان عبدالقدوس، وهو من أعاد لي الخبر بالبريد مصحوبا بقصاصة من الأهرام توضح قائمة أسلحة جديدة وصلت إلي ميناء إيلات الإسرائيلي قادمة من فرنسا، وكان مجرد تكذيب إحسان عبدالقدوس للخبر كفيلا بأن تغلي الدماء في عروقي، فاتجهت إلي مكتب السفير عبدالمنعم النجار لأوجه له سؤالا واحدا «من عينك هنا؟» فأجابني بفخر منفوخ «جمال عبدالناصر هو من قام بتعييني هنا» فأقول له بالصوت العالي: «ظلمك وظلمنا جمال عبدالناصر فآخر ما تصلح له هو أن تكون سفيرا لمصر بباريس وكل ما تصلح له هو أن تكون جرسونا في جامع عمر مكرم لتقدم القهوة السادة للمعزين في أي سرادق عزاء»، يهيج الرجل ويهدد بأنه سوف يسحقني، فأكرر أني أستطيع الوصول إلي جمال عبدالناصر بأسرع مما يصل هو. وبالفعل يكتب الرجل تقريرا غاية في السوء عني، ولكن مندوب الرئاسة في باريس يطمئنني ويؤكد لي أنه بعث بما يجعل تقرير السفير لا يساوي الحبر الذي كتب به وينصحني بالاتصال بشخص اسمه زغلول كامل فهو المسئول بالرئاسة عن الشئون الخارجية، وعندما أعود وأتصل بزغلول كامل يطلعني علي صورة مما أرسله للسفير من أنه يجب تحري الدقة فيما يرسله عن الأشخاص والشخصيات خصوصا تلك التي تتمتع بحس وطني عال. وأعلم من بعد ذلك أن فرنسا قبلت أوراق اعتماد هذا السفير علي مضض، خصوصا بعد أن سبق ورفضت كل من المغرب والجزائر قبوله كسفير لمصر، لكن فرنسا كانت تعلم بما لديها من أجهزة معلومات أن السفير في سفارات مصر ليس هو الشخص الأول بها، فهو رجل يحتل منصبا بروتوكوليا، وهناك أكثر من شخص يقومون بالعمل الفعلي لمهام السفارة. وأسافر بعد عدة شهور مرة ثانية إلي باريس وتسبقني برقية من زغلول كامل إلي السفارة كي يتم استقبالي والعمل علي تسهيل رحلتي كاملة، فيضطر السفير إلي إرسال سيارته التي تحمل العلم كي تستقبلني، لا لأني شخصية هامة، ولكن لأن زغول كامل المسئول عن الشئون الخارجية بالرئاسة رفض أن يعاملني السفير بما لا يليق. وطبعا لم أنس أبدا أن من اختار زغول كامل لذلك العمل هو جمال عبدالناصر شخصيا. وهو من أبلغني تحياته علي ما قمت به في فرنسا من علاقات مع الصحفيين الكبار أمثال جيل مارتنيه رئيس تحرير نوفيل أوبزرفاتير، وكلود إستييه رئيس تحرير جريدة الليرباسيون، فضلا عن إقامة صلات صحفية مع أستاذ علم الاجتماع المقتدر ريمون آرون، ومقابلة مفكرين في حجم الفيلسوف الكبير ماكسيم رودنسون، هذا الذي قدم استقالته من الحزب الشيوعي الفرنسي، لأنه وجد في تبعية الأحزاب الشيوعية لموسكو نوعاً من قهر التفكير الحر، خصوصا أن التنافر الذي عاشه العالم بين قطبين، قطب الشيوعية الدولية، وقطب المعسكر الرأسمالي، هذا التنافر بدا فيه الانتصار لواشنطون علي موسكو، نظرا لأن البيروقراطية الحزبية في موسكو قسمت كل الشعوب التابعة لهذا المعسكر إلي طبقتين، طبقة مستغلة كأنها طبقة الملاك الأغبياء وطبقة المقهورين الذين عليهم أن يثرثروا بالمبادئ الاشتراكية دون أن يلمسوا نتائجها في حياتهم اليومية، بينما يتقدم المعسكر الرأسمالي بما يتيحه للتقدم التكنولوجي مع إنتاج تتقدم به صناعة الأسلحة وفي نفس الوقت تنتج الرأسمالية ما يريح الفرد ولو قليلا. ورأي رودنسون في تلاقي كل من نهرو وعبدالناصر وجوزيب بروز تيتو ما يمثل إنقاذا جديدا للبشرية عبر ما يسمي عالم عدم الانحياز، فالهند لها تجربة ديمقراطية، ومصر لها تجربة أيقظت ماردا كان مجهولا هو القومية العربية ومحاولة تنمية دول محررة حديثا، وكان يعتبر تجربة «عدم الانحياز» هي الطريق الصحيح الذي يمكن أن يشذب شراسة الرأسمالية العالمية، ويحرر دول المعسكر الشرقي من وضع الببغاوات المقهورين بقوة القمع؛ المفروض عليهم بحكم التبعية لموسكو. وكان رودنسون هو أول من استخدم تعبير «إمبراطورية الشر» لوصف الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تترصد كل تجربة من تجارب التحرر بحثا عن مخالب تحول دولها إلي دول تابعة لها. وطبعا حين أتذكر أن سفير مصر في باريس في ذلك الزمن لم يكن يرصد حركة السياسة في الأحزاب والتيارات المختلفة قدر ما يرصد سهراته في الملاهي الباريسية المشهورة، فهو من كان يعلم أن بقاءه في منصبه مرهون برغبة عبد الحكيم عامر، وبقبول متردد من جمال عبدالناصر، فعبدالناصر عاش راغبا وساعيا إلي تطبيق ما يؤمن به من أفكار، ولكن فكرة «الأمن» كانت هاجسه الذي جاء منه مقتل أفكاره حين درس خصومه مستوي عجز القيادة العسكرية عن استيعاب حقائق العصر، حيث لم يكن لعبدالحكيم عامر علاقة بما يجري في العالم من علوم وتطبيقات، وكان يساعده رجل اسمه شمس بدران كل مهمته هو تأمين القوات المسلحة بتعقيم القادرين فيها علي التطور والتطوير، لذلك كانت هزيمة يونيو1967 ساحقة ماحقة. -- ولا أدري لماذا كنت في صباح الخامس من يونيو1967 في ساحة قرية «بني مر» مسقط رأس جمال عبدالناصر، وأتذكر روايات أهل الرجل عن قول كبيرهم للرئيس «لماذا لا تعاملنا بصلة الرحم؟» فأجابه الرئيس: «صلة الرحم الأولي بالرعاية هي صلة الرحم البعيدة، فكل المصريين إخوة أو أبناء عمومة». ودق التليفون في دوار القرية ليأتيني صوت أحمد كامل أحد الضباط الأحرار والذي كان يعمل محافظا لأسيوط التي تتبعها بني مر ليطلب مني العودة سريعا من القرية، لأن هناك إشارة استدعاء لي من القاهرة. ويكشف لي أحمد كامل أن المأساة قد وقعت وأن هزيمة هائلة مرت بمصر، وكان هذا في الساعات الأولي من حرب يونيو. وأركب القطار من أسيوط إلي القاهرة، لأجد زغلول كامل الذي ربطتنا صداقة هائلة يقول: «سبق أن تمت هزيمة عبد الحكيم عامر في عدوان 1956 وسبق أن أهان فكرة عبدالناصر الأساسية عندما لم يعرف كيف يدير علاقتنا بسوريا، وكان هو أهم سبب للانفصال، فهل تتوقع أن ينتصر في حرب مع إسرائيل؟» ولما كنت أسكن في شارع ابن منظور الواقع خلف بيت جمال عبدالناصر مباشرة، لذلك كان من السهل أن أقرأ علي ملامح زغلول كامل أو شعراوي جمعة أية تفاصيل، فقد كنت ألقي الاثنين، الأول يزورني يوميا بمنزلي، أما شعراوي جمعة فقد كنت أراه في واحد من مكاتبه المتعددة أمام منزل جمال عبدالناصر. ولن أنسي كيف نزل المصريون كالسيل الرافض لهزيمة يونيو في مساء التاسع من ذلك اليوم الذي لم يبعد أبدا عن الذاكرة رغم بعده بمرور الزمن. أقسم أني شاهدت شارع الخليفة المأمون في لحظة تنحي عبدالناصر يوم التاسع من يونيو. كان الشارع خاليا أثناء إلقائه للخطاب، وفجأة انهمر سيل من البشر، وكأنه لم يوجد مصري واحد في بيته. أتذكر مكالمة من الصديق الراحل المحامي الكبير سعيد رخا وهو الوفدي الكاره لعبدالناصر، قال لي: «أنت تسكن بجانب منزله، قل لهم أن يفتحوا مخازن السلاح ليسلموه للناس، كيلا تقول كتب التاريخ إن المصريين تخلوا عن بطلهم في لحظة الشدة». وتم نقل تلك الرسالة لسامي شرف مدير مكتب الرئيس الذي أعلن بوضوح قاطع أن الرئيس قد تنحي بالفعل، وأنه لن يفعل ما نطلب من توزيع للسلاح. واستطاعت الجماهير أن تثني عبدالناصر عن التنحي. وبدأ هو شخصيا في البحث عن عقول كبيرة تلملم من إرادة المصريين قدرات هائلة لتسد الشرخ الهائل في المجتمع، الذي رفض الهزيمة بشكل شهد به الكون، ولولا وجود قيادات بحجم الشهيد عبدالمنعم رياض وحجم الراحل الكبير أمين هويدي، لما استطعنا أن نذيق إسرائيل الويل، وهو الويل الذي استمر متقطعا إلي أن جاءت أيام أكتوبر 1973 لتهدي الكون معجزة مصرية لا نظير لها علي مستوي الحروب في كل أنحاء الكون. -- أتذكر الآن أن فكرة الأمن لم تقتل عبدالناصر وحده، بل كانت هي الهاجس الذي اختار علي أساسه أنور السادات حسني مبارك ليكون نائبا له، فقد خاف عبدالناصر من العقول الكبيرة مثل عقول عبداللطيف البغداي وعبدالمنعم رياض قبل الهزيمة عام 1967 واضطر للتعامل معها بعد الهزيمة العسكرية البشعة. وشرب السادات من نفس نهر الخوف علي الأمن لذلك خاف من التعامل مع العقول الكبيرة مثل المشير الجمسي، ولم يسمح سوي لعقل كبير واحد هو عقل منصور حسن من الاقتراب منه، لكنه لم يتحمل آراء منصور الشجاعة، وآثر الركون إلي عقول مسطحة مثل عقل حسني مبارك، وأيضا مارس حسني مبارك نفس الخوف، فخاف من المشير أبوغزالة ومن الفريق يوسف صبري أبوطالب، وآمن بمبدأ أساسي هو «دوس علي أي واحد يمكن ينط في وشك»، وهكذا خلت الساحة السياسية من العقول الكبيرة. ولعل التاريخ سيكشف ذات يوم قادم كيف كانت مهمة حسني مبارك هي تجميد دور مصر عبر سنوات حكمه، إلي أن وصل إلي الرقود علي منصة أمام قضاء نزيه، لا أعلم بماذا سيحكم عليه، ولكني واثق من أن أكثر الجرائم التي قام بها حسني مبارك هو جريمة تجميد مصر والمصريين مع استنزاف ثروة وطن. -- كثيرا ما غضبت من جمال عبدالناصر الذي تشكل قلبي علي هيئته، ولكن غضبي لا يستطيع إنكار واحدة من أهم كلمات التقييم للرجل، وقد نطق بها واحد ممن كانوا خصوما له وهو الراحل جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود، الذي قال فور سماعه لنبأ وفاة عبدالناصر: «رحم الله الرجل الذي أعطي أمة العرب فكرة عن إمكانياتها». من يلملم تلك الإمكانيات الآن؟ تري هل نستطيع أم سنترك اللعبة الأمريكية تهيئ مسرح الشرق الأوسط لحرب إسلامية _ إسلامية، تتزعمها جماعة أنصار السنة في مصر ضد جماعة حزب الله في سوريا وإيران؟ هل نستطيع الدفاع عما نملك أم نستسلم للقدر؟ هذا السؤال يطل من قلب عبدالناصر الآن وهو في رحاب الله.