الذاكرة تحمل العديد من عجائب الحياة المصرية المعاصرة. القلب يهتز من الفرح والشجن بعد استقالة محمد حسني مبارك الذي نتمني له شيخوخة هادئة ليس فيها هذا التحنيط في قالب الفرعون كما قال عبدالرحمن الأبنودي في قصيدته الأخيرة التي أطلق عليها اسم «الميدان». ولابد أن أعترف بأني قبل ساعات من تخلي مبارك عن منصبة، كنت أفكر في سؤال أخذ يدق قلبي بعنف، وهو «علي كتف من تقع مسئولية دماء الشباب الشهداء؟» ويلاحقه سؤال آخر «من وضع الرصاصة في بندقية القاتل؟» وأعترف أني لم أستطع أن أمنع ذاكرتي من عرض صورة الشاب السكندري الذي فتح صدره أمام القناص الرابض بعيدا ليصرخ فيه الشاب «اقتلني»، فصوب القاتل رصاصته لتصرخ أم الشاب من البلكونة، وهي تري ابنها صريعا أمام عيونها. لم أستطع أن أتعرف علي ملامح قاتل «أميرة» البنت الحلوة التي تنشر قنوات التليفزيون صورتها، ولم أستطع قبول هجوم الحشود علي مقر وزارة الداخلية لأن المبني لا يخص حبيب العادلي، ولكن المبني - لا الوزير - أحد رموز الدولة المصرية، ولكني لم أتصور أن يصوب أحدهم رصاصة إلي عين صحفي يقوم بتصوير المشهد. وأعترف بأن تلك الصور كان يمكن أن تظل مكتومة في خيالي تعذبني دون أن أجرؤ علي البوح بها، لولا لحظات الحرية التي منحتنا إياها دماء الشهداء. •• وبدأت الذاكرة تحكي لي تفاصيل قديمة، تختلط بتفاصيل جديدة. ولعلي اخترت بداية من أيام قديمة بعض الشيء. توالت مشاهد المتجمهرين أمام مكاتب شركات توظيف الأموال التي احترفت نهب ثروات المصريين بدعوي أن الجنيه سيكسب أربعة جنيهات، ثم غرق بعض من المسئولين في نقود تم تجريفها من دم البسطاء ليسبحوا بحمد أصحاب تلك الشركات، ومنهم من قبض الملايين بدعوي أنها كشوف البركة، ومنهم من أقسم بأغلظ الإيمان أنه لم يقبض، ولكن المهم أن جميع من ساروا في ركاب أصحاب شركات توظيف الأموال تناسوا أن رحلة النهب تلك كانت هي واحدة من بدايات حفر فجوة عدم الثقة بين الإنسان المصري العادي وبين أي حكومة لاتعرف كيف تسترد للمصري البسيط حقه من أنياب من اغتصبوا مدخراته، ومن بعد ذلك توالت وزارات أبدعها صندوق النقد الدولي إلي الدرجة التي سمعت فيها كلمة قالها وزير المالية السابق يوسف بطرس غالي مع المقتدرة لميس الحديدي في العام الأسبق، وهو يقول «أيام حكومة عاطف صدقي إحنا عملنا في المصريين عمايل». كان يقولها بتشفي وكأنه ينتقم لجده الكبير الذي كان ممسكا ببعض من أمور خزانة محمد علي مؤسس مصر الحديثة، واحترف إرهاق التجار والناس بالضرائب، فاشتكي التجار مظالم أبوطاقية لإبراهيم باشا ابن محمد علي فأطلق إبراهيم باشا الرصاص علي رأسه فورا. •• تحمل ذاكرتي لحظة أن دخلت علي صديق عمري وزميل أيامي رءوف توفيق إبان رئاسته لتحرير صباح الخير بمقال كان يحمل عنوان «مذكرات كاتب خائف جدا من الحكومة»، وكتبت فيه أن يوسف بطرس غالي يريد تحويل مصر إلي بنما أو بيرو، وأن عاطف عبيد هو فيلسوف تجميد القطاع العام الذي يجففه ليبيعه بأزهد الأسعار. وحمل رءوف مسئولية نشر المقال كما نشر العديد من أوجه النقد، فلم يكن منا من يكره حسني مبارك، ولكنا لم نكن من جوقة المنافقين المسبحين بحمد أي أحد، هو يرصد أنه لا يصح غير الصحيح، وأنا أنشر ما يحلو لي سواء من قصص الحب المغدورة أو همسات السياسة التي بح لساني من أجل أن يكون عندنا مشاريع تستوعب العمالة الكثيفة. وأضحك من نفسي حين أتذكر نداءات كتبتها إبان انتخابات واحد من مجالس الشعب مطالبا القيادة بأن نختار لها «أول من يضحي وآخر من يستفيد» مستلهما أخلاقيات المقاتلين الذين عشنا معهم صناعة نصر أكتوبر. ولكن كان هناك من أطلق عليهم ميثاق جمال عبدالناصر بأبطال الثورة المضادة، هؤلاء الذين أرادوا انتزاع ثورة يوليو وما أضافته إلي الوجدان المصري، وهؤلاء من ركبوا كراسي السلطة واحترفوا مهمة واحدة، ألا وهي قطع مشاعر الكرامة عند عموم المصريين. •• وأضحك كثيرا إلي حد البكاء حين أتذكر مناورة واحد ممن أثروا من شركات توظيف الأموال، وكان يحاول خديعة واحد من أكبر تجار العملة بالإسكندرية، واسمه سيد دولار الذي بدأ حياته مناديا للسيارات في محطة الرمل، وكان سيد دولار يفخر كثيرا بأنه يمنح أمين الشرطة كل يوم مصروف يد لقاء صمته عن وضع السيارات في الممنوع، ثم صار بلعبة بسيطة أن يعقد صداقة مع مدير فرع بنك ما، فتحول سيد دولار واحدا من أباطرة تجار العملة، وتمادي بأن قام بتعيين سكرتير له، كان يعمل لواء سابق أحيل إلي الاستيداع، وكان هذا اللواء السابق مصدر رعب قديم لسيد دولار، وهو من ذهب ليخطب كيداهم لسيد دولار، ويكون شاهدا علي زواجهما. وقد لا يعرف القارئ من هي كيداهم، ولكني أعرفها جيدا فهي ابنة المسحراتي الذي كان يقيم في منزل أقيم هيكله الخرساني. وكيداهم بنت بلد تستطيع اللعب بالبيضة والحجر وبعد أن تزوجت سيد دولار أحضرت مدرسة للغة الإنجليزية وأشركت زوجها في تلك العملية بدلا من أن يظل حبيس رغباته في الزواج السريع والطلاق السريع، وهي اللوثة التي أصابته بعد المليون الأولي. وكان يفخر دائما بأن كبار رجال الأعمال يطلبونه بادئين حوارهم معه بمناداته سيد بك. ولم ينجرف سيد دولار إلي إلحاحات العديد من أصحاب شركات توظيف الأموال بأن يشاركهم تلك اللعبة، بل جلس يدخن سيجارة الحشيش، وهو يؤكد للواء السابق أنه لن يضع ثروته إلا فيما يدر عليه ربحا حلالا. وأسس شركة نقل بشراء عدة تيريلات ضخمة وكسب كثيرا من الرحلات بين البلدان العربية، ولكنه ذات مرة جلس مع محافظ كان ثوريا ذات يوم قديم، ثم بدأ في السمسرة من بعد ذلك، وحاول المحافظ المذكور أن يشركه في تأسيس شركة نقل صغيرة للميكروباصات ويعطيه حق إدارتها وهي ستكون البقرة الحلوب التي يمكن أن يكسب من ورائها الشهد، خصوصا أن شريكه فيها سيكون أكبر مليونير كان يتمتع بصداقة حميمة مع الرئيس السادات. ولكن سيد دولار نما إلي علمه أن هذا المحافظ الذي كان ثوريا يحاول الدخول في علاقة عاطفية مع سيدة خليجية، ويتمني أن يشتري لها طاقما ماسيا كي ترضي عنه، لأنه ما إن اقترب من شقتها ليدق الجرس وأراد أن يدلق في أذنيها بعضا من الكلمات الناعمة حتي دحرجته هي من علي السلم، ولكنه اتصل بها تليفونيا ليشكو لها من قسوة قلبها، فطلبت منه طاقما ماسيا محددا من أحد محلات جدة، وسوف تستقبله من بعد ذلك. ولما كان سيد دولار كثير السفر إلي العمرة، فهو لن يبخل عليه بهذا الطاقم. هنا ضحك سيد دولار وقال للمحافظ الذي كان ثوريا: يمكنك أن تجلس مع صاحب شركة توظيف الأموال، وتجعله يشاهد معك شرائط الفيديو الخاصة بمجدك السابق، بينما يستنشق صاحب شركة توظيف الأموال ما شاء له من صفوف الكوكايين، ولكني لن أحضر لك ما طلبت. •• وتسارعت الأيام لنجد شابا صغير السن يلعب بكل القوي السياسية، ويعرف تفاصيل حياته بإبداع شديد اللواء فاروق المقرحي الذي عمل لفترة في إدارة مكافحة التهريب، الشاب هو أحمد عز، وهو من أطلق نظرات الاحتقار علي عموم المصريين، وباع لنا الوهم بأنه صانع التقدم عبر جهاز لاب توب صغير يحمله في يده ويقوم به بتجريف مستقبل بلد بأكمله عبر أشهر انتخابات مزورة علي مر تاريخنا كله. ومن العجيب أنه استأثر لنفسه بمنصبين كل منهما كفيل بإدارة مصر، من أقصاها إلي أقصاها، المنصب الأول هو رئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس الشعب، والمنصب الثاني هو منصب أمين التنظيم بالحزب الوطني الحاكم. وهو من دفع الواقع المصري إلي لعبة قيل فيها أن كعكة الاقتصاد والنمو تنتشر بين عموم المصريين، بينما كان الجوع هو الذي ينتشر، جوع مصحوب بقهر غير مسبوق، مما أضعف الجسد المصري إلي أن انتفض جيل لا أعرف كيف نما وفي أية ظروف، انتفض هذا الجيل الذي لم يعرف حبيب العادلي كيف نما، علي الرغم من أنه كان يبيع للدولة كلها وهم أنه يسجل كل نبضة في بر مصر المحروسة، ولا أدري إن كان قد سجل تفاصيل الاتفاق الذي اشتري به د.أحمد نظيف رئيس الوزراء السابق شقتين في فندق الفور سيزون بالإسكندرية أم أن أحمد نظيف أقام بعضا من الوقت هناك؟ ولعله كان يسجل فقط كلمات رئيس الوزراء الذي يتحدث بلغة تحتاج إلي مترجم بجانبه، لأنه لا يعرف حقيقة صارت واضحة تماما هذه الأيام، وهي أن أحدا لا يستطيع ابتلاع خريطة مصر ليجعلها ملكية خاصة له. وأعترف أنا من أحببت جمال عبدالناصر كثيرا لتأميمه قناة السويس، وإقامته للسد العالي، أن البعض في عصره حاولوا تذويب الخريطة المصرية بسكانها ليقدموها له كي يبتعلها، فرفض بحسه المتواضع، ولكن الثقة بينه وبين عموم المصريين كانت تتسع فيسرع بردم الهوة. وأعترف أني قبلت تولي الرئيس السادات علي مضض، ولكني قدست له القتال من أجل تحرير التراب الوطني، وعندما أحس أن هناك عملية إذلال له ممن ضاعفوا ثروات البترول وأنهم لن يقوموا بتنمية مصر بشكل لائق، هنا أجري مفاوضات السلام لتدور عجلة السلام التي لم تقبلها إسرائيل حتي هذه اللحظة إلا بإضعاف العالم العربي من محيطه إلي خليجه. وأعترف أني حلمت بأن يكون لحسني مبارك لمسات من تطور سريع يحقق للمصريين الإحساس بالعدل، ولكن العدل في العشر سنوات الأخيرة صار مثل قوس قزح نراه في السماء ولا نمسكه أبدا بأيدينا. وأعترف أنه لم يكن في مقدور أحد منا أن يشير إلي ذلك، ورغم كل تلك الكروب، أتذكر أننا نشرنا في صباح الخير أن صناديق أي انتخابات برلمانية لابد أن توضع فيها صرخات أهالي من ماتوا غرقي في العبارة لتلتهمهم أسماك القرش. ولم نكن نعلم أن هناك أسماك قرش أخري تدير لعبة الانتخابات بمزاج الاحتقار الكامل للمصريين، وحتي لو علمنا فماذا كانت تفيد المعلومات؟ من منا لم ير كيف تم هدر القطاع العام؟ بل هناك النموذج الذي مازال صارخا هو مأساة عمر أفندي وعماله التي مازالت تترنح بفصولها التي لم يصنعها أحد سوي طيف من طبقة رجال الأعمال الذين لم ينتبهوا إلي أهمية المسئولية الاجتماعية، إلي الدرجة التي قام فيها أحدهم هذا الأسبوع بفصل من كان يدفع مرتباتهم في مشروع «حديقة سوزان مبارك» قبل أن يستقيل حسني مبارك، ورجل الأعمال ذلك هو من تم اختراع حكاية التاكسي الأبيض من أجل شركته لتجميع السيارات، حيث تربطه علاقة قرابة بوزير المالية.. •• بين خيوط الدقائق الدامية ينبع من أرض الواقع أزهارا جديدة قادرة علي الفرز والتقييم. ولست أشك لحظة واحدة أن الثقة في القوات المسلحة لا يمكن أن تهتز، فالجميع يعلم يقينا أن الجيش هو الحصن الحقيقي لمصر الماضي والحاضر والمستقبل. ولعل تمرد الشباب الأخير قد وهبنا قدرة علي إعادة بناء الجسور مع الواقع، فجاء إلي منصب النائب لرئيس الجمهورية رجل يجيد قراءة خريطة مصر ومكانتها في الكون، ثم جاء علي رأس الحكومة رجل يعرف قيمة احترام الإنسان، ويملك شجاعة الاعتذار. ولعله يستمر كرئيس للوزراء، ليصوب في الواقع كما صوب في مصر للطيران. •• ولن نعاتب أحدا علي ما مضي من لبن مسكوب، وإن كان لابد لنا عبر القضاء العادل أن نتعرف علي حقائق ما تم من خطايا وأخطاء. وإذا كانت الصحف ومحطات التليفزيون قد ازدحمت بالفلاسفة ومن ظنوا أنهم أهل الحل والعقد، فقد كانت المجلة التي بين أيديكم هي منبر يرصد الواقع ويرنو إلي المستقبل دون أن تهين أحدا. هل أنسي - مثلا - أننا منذ أيام رئاسة أحمد بهاء الدين لها ونحن نرصد الواقع ونقرأ المستقبل ونرسم الطريق إلي حياة لائقة دون تعصب أو جمود؟ وها هي ذكري ميلاد أحمد بهاء الدين قد أطلت علينا في نفس يوم تخلي الرئيس مبارك عن منصبة، الحادي عشر من فبراير. ولعل روحه ترنو لنا من آفاق الغيب لتذكرنا بأنه نبهنا كثيرا إلي مخاطر الانفتاح السداح مداح. هل أنسي - مثلا - أننا منذ أيام قيادة فتحي غانم لها ونحن نحلل فساد الواقع ونرسم الطريق إلي آفاق جديدة؟ عن نفسي لن أنسي ما حييت كيف وضع خريطة مستقبلنا أمامه وعبر قلمه في رواية نشرتها صباح الخير عام1963 بعنوان «تلك الأيام» ليحلل لنا كيف ينبع التطرف والإرهاب من بين أصابع افتقاد القدرة علي رؤية الحقائق وعدم النظر إلي الإنسان ككائن يستحق الاحترام؟ وهؤلاء هم أساتذتنا وهم من علمونا كيف نري بعيون الكلمات حقائق الواقع لنقرأ منها المستقبل. وطبعا لن أنسي ما سبق أن كتبته علي صفحات هذه المجلة من رصد لأحزان الشباب عام 1989 عندما هجم عبد الشكور شعلان بألاعيب صندوق النقد الدولي. كنت أتذكر عبر الذاكرة ما كتبه أحمد بهاء الدين في كتابه البسيط الذي ألفه قبل ثورة يوليو عن النقطة الرابعة، ذلك المشروع الأمريكي الذي أرادت أن تغزو به الولاياتالمتحدة الضمير المصري. فإلي هذا الرجل الجليل يعود الفضل في تدريب عيوني علي رؤية ضرورة التحذير من هذا الحشد الدامي في أواخر أيام حكومة عاطف صدقي، وكيف أن كرابيج القهر المطلة من سياسات يوسف بطرس غالي تكاد أن تحول مصر إلي بيرو وهي ليست كذلك. ولا أذكر ذلك بحثا عن تسجيل لشجاعة القول، فلست من هواة تسجيل المواقف، قدر ما أعشق تقديس هؤلاء الذين لم يفرطوا يوما في الولاء لمصر ولمجتمعها. هل أنسي ما كتبه هذا الرائع الجليل فتحي غانم من تحليل للعبة تغيير الجلد والولاءات في سطور الصحف، وأوضح كل هذا في رواية «زينب والعرش»، وأن تلك اللعبة كانت هي التمهيد لكارثة 1967 التي مازالت آثارها كالجرح العميق في حياتنا؟ وطبعا كانت الابتسامة تطل وسط آهات القهر، كلما رأيت الجموع تحتشد حول تمثال الشهيد عبدالمنعم رياض في الأيام الماضية، وأشكر من وضع في يده علما مصريا وكأنه يريد أن يتنبه الجميع إلي عدم الاقتتال، فالقتال يكون للعدو الفعلي وهو التخلف، وكأن تمثال الرجل يذكرنا بأيامه التي واصل فيها الليل بالنهار ليفرز ملفات ضباط القوات المسلحة ضابطا من بعد ضابط كما كتب اللواء إبراهيم شكيب في المجلد الذي أصدرته القوات المسلحة بعد مرور ربع قرن علي حرب أكتوبر، وكيف وضع الرجل أولي خطوات انتصار أكتوبر بحرب الاستنزاف، ثم رحل في التاسع من مارس في أوائل أيام بداية تلك الحرب التي أهدتنا قادة كباراً كان منهم حسني مبارك، وهو من شارك القادة العظام لنرسم خطوات النصر الجليل في أكتوبر 1973 ؟ عن نفسي لا أنسي أياً من تلك الوقائع؟ وعن قلبي لا يمكن أن أغفر لعبة تكوين الميليشيات الملتحفة بالدين وهي تخوض في دماء الطلبة أعوام 1972 وهي الميليشيات التي زرعت تلك القوة الغامضة الغريبة، والتي تجلت قدراتها علي التخريب عندما رصدت سجون مصر وهاجمتها لتقوم بتهريب قتلة محترفين من منظمة حماس ومن قدرة حسن نصرالله علي أن يجند شبابا لبنانيا ليكون أداة لإيران. وعن حقائق الواقع لا يمكن لي قبول هذا الترهل المصحوب بنهب خيرات القطاع العام تحت اسم الخصخصة، ولم نجد من القطاع الخاص وعيا بأهمية احترام الأجيال الشابة بتدريبها وتشغيلها، فقد انشغل العديد منهم في نزق جمع الملايين والمليارات، فذقنا جميعا عبر صرخات الشباب مرارة الأيام الصعبة الماضية. وأتمني أن يوجد لدينا جهاز رصد علمي وصريح يكشف لنا لعبة تكوين المليون الأولي في حياة هؤلاء الذين قرروا تطبيق قواعد الرأسمالية الفجة علي واقعنا، وتناسوا أن رفاهيتهم تلك تزرع في أرض الواقع يأسا، رأيناه يرسم أياما دامية في حياتنا جميعا. •• لعلي واحد ممن مازالوا ينظرون بعيون الترقب لمسألة الحوار مع الإخوان المسلمين خصوصا بعد تجارب عديدة عشتها في أيام عمري، تجارب تبدأ من محاولة اغتيال جمال عبدالناصر، ثم أيام تكوين جيوش التكفير والهجرة من خلال فلسفة سيد قطب، ولم أغفر لعمامة الشيخ يوسف القرضاوي وهي تهتز فوق رأسه مشجعا علي الفوضي في مصر المحروسة، بينما كان لسانه مغموسا بالدم وهو يصدر فتاويه من قناة الجزيرة التي تجاور مركز قيادة القوات الأمريكية بالشرق الأوسط المسماة قاعدة العديد. ولكني أعود فألوم نفسي وبني وطني وحكومتي التي سمحت لرجل مثل عاطف عبيد أن يهدر ما بنته أجيال فيما سمي القطاع العام، حيث قام بتجفيفه أولا ثم عرضه للبيع ثانيا، ومازالت صفحات هذه المجلة تضم مقالات وتحقيقات تتهمه بشكل مباشر بأنه أهدر المال العام، ولم ينتبه يوما إلي الأجيال الشابة التي كان من حقها عليه أن يرصد الميزانيات اللائقة لتتعلم ولا تعاني من خديعة اعتبارها كيانات زائدة عن الحاجة، فكتموا المهانة لتتراكم وتصبح سيلا من غضب انفجر ذات مرة أثناء غرق البعض وهم يهربون عبر مراكب غير آمنة بحثا عن مستقبل علي شواطئ أوروبا، ثم انفجر الغضب بحوادث انتحار الشاب عبدالحميد شتا الذي تفوق في العلوم السياسية ثم تم حرمانه من فرصة عمل في السلك السياسي، ثم امتلأت بيوتنا بصرخات الأنفس المكسورة الباحثة عن عمل، وكان رئيس الوزراء السابق يقابلها بقرار حظر التعيين إلا بعقود مؤقتة تزيد من مشاعر الإهانة عند تلك الأجيال. •• الكثير والكثير يمكن أن يقال، ولكن المستقبل قادم قادم، وعلي السماسرة الامتناع عن بيع الوهم لعموم المصريين، وإذا كانت عواصم العرب جميعا قد جزعت لما عاشته مصر من أيام دامية ومرهقة، فحق طبيعي يقع عليهم بأن يقدموا علي مشاريع استثمارية في مصر لا يتم النظر إلي عائدها بما تدره من ربح نقدي، بل بما تدره من أمان لمصر التي هي قلب العالم كله كما رأينا في الأيام الماضية، فأمان مصر ليس بإرهاقها واعتبارها بقرة حلوب يتم استنزاف شعبها، ولكن بتوفير الحياة اللائقة لعموم أبنائها. •• عن نفسي أشعر بكثير من الثقة في المستقبل، وإن كان علينا أن نحاسب كل من وضع الرصاصة في ماسورة بندقية حبيب العادلي التي اصطاد بها شبابا بريئا، ولعله لم يكن يعلم أن تلك الرصاصة ستتحول إلي تحديد إقامة وتجميد أموال ومحاكمة عسكرية لو كان قد امتلك شجاعة مواجهة قياداته بحقائق الواقع. •• أما بقية دول العالم وعلي رأسها الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي فأتمني أن تصدر من حكوماتهم قرارات بتجميد أرصدة من نهبوا وفروا من الوطن فور إحساسهم بأن البقرة التي استمرأوا استنزافها صارت ضروعها تنزف دما. •• لن يستطيع أحد مهما كان جبروته أن يخفت من ضوء شمس المستقبل القادم علي مصر، شرط أن نتقاسم متاعب البناء معا. ومادام العالم يري قدر أهمية هذه الدولة فليدفع العالم معنا فاتورة إعادة الأمل إلي شبابها. أما سماسرة القهر والتزييف ونهب الواقع فعليهم الامتناع عن النظر إلي ضروع الخريطة المصرية، فيكفي ما تم نهبه من ثرواتها، وماتم تزييفه بدعاوي الدين من وعي أبنائها.