آثرت طوال أسابيع الابتعاد عن التفكير في حقائق أساسية أخذت تطارد أفكاري من بعد حادث التفجير الدامي أمام كنيسة القديسين، ثم مسحت الدموع تلك الوقفة الذكية من عموم المصريين ضد هذا السلوك الأرعن ، فقد أثبت المصريون أنهم سبيكة إنسانية واحدة، وهي سبيكة فريدة تستعصي علي التفكك، علي الرغم من كل محاولات من ادعوا قبل ذلك انتماءهم إلي الإسلام والإسلام منهم بريء، وكما أثبت باليقين الفعال واحد من رؤساء تحرير هذه المطبوعة وهو الجليل حقا وصدقا، أستاذنا فتحي غانم. هو من كتب رواية تكاد أن تكون رواية تسجيلية عن عمق العلاقة بين جماعات التطرف وبين وكالة المخابرات الأمريكية، وهي رواية «صاحبة العصمة وسعادة السفير والشيوعي السابق» ويمكن أن تشاهد عبر سطورها قصة الترابط الوثيق بين جماعات أفغانستان وبين ضباط مخابرات الولاياتالمتحدة فوق ظهر يخت يكاد أن يكون الخالق الناطق هو يخت عدنان خاشجشوي تاجر السلاح المشهور. ولا أدري لماذا تذكرت _ أيضا _ المغفور له الأب متي المسكين وكان واحدا من العقول الكبيرة والعملاقة، وهو من آمن بأن من يحرس مصر عمليا هو قدرتها علي الاستفادة من ثرواتها المخبوءة في قلوب شبابها وفي باطن أرضها. وكان دليله علي ذلك تلك المساحات الشاسعة من الصحراء التي زرعها بواسطة ثمانين راهباً، وخمسمائة عامل أغلبهم مسلمون. أتذكر أني قلت له مبتسما «أنت أول من صدق صلاح جاهين حين كتب لعبد الحليم حافظ «نفوت علي الصحرا تخضر»، وأكد الرجل جادا أن باستطاعتنا أن نجعل كل صحاري مصر أرضا منتجة، فالعلم لم يترك فرصة لأي أرض لتظل جرداء. ولم يكن كل من فتحي غانم ومتي المسكين هما أول من فتحا عيني علي حقيقة أننا شعب متفرد حقيقة، ولكنهما أول من نبهاني إلي حقيقة أننا نعيش في نفس الوقت في زمان يمكن أن نسميه عصر الاستقلال النسبي للدول، وأن جهاز الأمن عليه مسئولية حمايتنا من آفات التدخل الخارجي، وفي نفس الوقت كان في تجربة متي المسكين ما يؤكد استطاعتنا أن نوفر لأنفسنا أمنا غذائيا فعليا؛ كي نحمي أنفسنا من لعبة الاعتماد علي الخارج في عصر صغر حجم الكون، فلا توجد دولة لا تتأثر بما يجري حولها من أحداث. ولعل ما كان يشدني طوال سنوات هو أغلب حوارات الحكيم بطرس بطرس غالي منذ عام 1994 وحتي كتابة هده السطور، حيث يؤكد الرجل في هذه الحوارات ضرورة كسر الطوق السري الذي تفرضه الولاياتالمتحدة علي منطقتنا، وإذا كانت إسرائيل تتمتع بحماية مطلقة من تلك القوة الكبري، فهناك سؤال كان يلح علي شخصيا «كيف نقبل ونحن أهل المنطقة العربية كل هذا الجنون الأمريكي، علي الرغم من أننا نملك في باطن أرض المنطقة العربية أغلب ما يضمن استقرار الولاياتالمتحدة والغرب عموما، فنحن نملك ثروة البترول، كما أن فوائض عائدات النفط هي التي تسد عجز الولاياتالمتحدة في أزمتها الاقتصادية، وبثروات الخليج تدور عجلات اقتصاد أوروبا بأكملها، فليس غائبا عن الذاكرة أن ساركوزي _ علي سبيل المثال - استمتع بالخروج من نفق الأزمة الاقتصادية العالمية بعد أن حصل علي قاعدة في الخليج، وأن أول زيارة لرئيس وزراء بريطانيا بعد نجاحه في الانتخابات كانت إلي الخليج. وعجلة المصانع العسكرية في الغرب بأجمعه تدور من أجل صفقات سلاح تشتريها شعوبنا، وكما قال شيخ الأزهر الجليل والحكيم الإمام الأكبر أحمد الطيب «ننتج لهم ما يصنع حضارتهم، ويبيعون لنا التناحر، وبأموالنا نفسها». قال الرجل ذلك بعد تلك اللعبة السوداء في كنيسة القديسين بسيدي بشر. وهو من آمن مع البابا شنودة بأهمية بلورة الحقيقة المصرية، وهي أننا نسيج واحد. وأثبتت التجربة درجة من صلابة المصريين كأصحاب أقدم دولة في التاريخ مرت عليها جحافل وجحافل، ولم تنس مصر أبدا أنها هي من أهدت فكرة الإيمان بالإله الواحد لكل الكون من قبل أن تأتي الأديان السماوية. ** ولكن خيالي المجنون قادني إلي أحداث تونس تلك التي توصف دائما بأنها تونس الخضراء، فحولت امرأة واحدة قلوب أهاليها إلي أراض جرداء من أساس الحياة وهو الأمل في لقمة عيش مغموسة بالكرامة. وشاء خيالي المجنون أن يجسد لي صورة لم تحدث في الواقع، وهي صورة السيدة ليلي الطرابلسي زوجة المخلوع من عرش تونس المدعو زين العابدين بن علي، وهي تتقدم بطلب إلي بلدية مدينة جدة لتأذن لها بفتح محل كوافير حريمي - مهنتها الأولي - بعد أن جمدت سويسرا وفرنسا ومجمل دول الاتحاد الأوربي ثروتها وثروة زوجها. ولكن بلدية مدينة جدة - في خيالي أيضا - ترفض بطبيعة الحال منح السيدة المذكورة إذنا بفتح محل كوافير. ويقابل هذا الخيال، صورة أخري تؤكد لي أن الاعتماد علي السياحة كمصدر أساسي وجوهري للتقدم الاقتصادي، يمكن أن يتوقف فجأة إن حدث تمرد ما وهو ما تعاني منه تونس حاليا إلي أن تستقر أوضاعها من جديد. وأجزم بيني وبين نفسي بأن ما حدث في تونس لن تلمس آثاره بلادنا إلا في حدود سقوط لقطاع التعالي وكسر مواعظ الثراء الفاحش التي جاءنا بها صندوق النقد الدولي. ولعلنا ننظر الآن بعدم تقدير لما فعله د.عاطف عبيد أثناء عمله كوزير لقطاع الأعمال، حين قام تطبيقه للانفتاح علي العالم بأسلوب تجفيف الكثير من قدرات ما كان يسمي القطاع العام بدعوي فشله. وتم التنازل عن جواهر صناعية عملاقة مثل شركة المراجل التي بيعت برخص التراب، وكان المرتشي فيها عبدالوهاب الحباك الذي مات رهين السجن. همست لنفسي «ولكن ماذا تفعل دولة مثلنا حين سقطت من الكرة الأرضية حكاية وظيفة لكل مواطن، وقد سقطت الفكرة بسقوط الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي بأكمله؟ طبعا كنت أفضل أن يقوم القطاع الخاص بجهده بجانب القطاع العام، ولكن ذلك لم يحدث. وطبعا لا داعي للدموع علي ما انسكب من لبن الحقائق، ولكن علي الدولة أن تحرص حاليا أن تعيد لنفسها هيبة السيطرة، فلا تقدم الثقة المطلقة في أن القطاع الخاص وحده هو القادر علي أن يقوم بالتنمية وتطوير الاقتصاد الوطني لنصل إلي درجة عالية من المسئولية الفعلية عن الواقع اليومي. فالقطاع الخاص الذي بشرت به قوي الغرب تخرج الآن من مظلته بقوانين حاكمة، ولعل التمرد الواضح علي افكار الليبرالية المطلقة، وما جاء من إعادة قراءة لمؤلفات آدم سميث أبو الاقتصاد الحر، وكانت أول قراءة ناقدة لسياسات الاقتصاد الكوني المعاصر هي التي جاءت علي لسان إسماعيل سراج الدين، وهو من لا يشك أحد في جدارته العلمية العالية، فقد نبهنا الرجل منذ عامين إلي أن آدم سميث أقام نظرياته علي أساس شقين «حرية الكسب» و«ضرورة المسئولية الاجتماعية لرأس المال». ولكن التطبيق العملي لهذه الفكرة إبان أزمة اللحوم الأخيرة أثبت أن العديد من رجال القطاع الخاص أصابهم السعار، فمستوردو اللحوم فضلوا الاستيراد من الهند، ولم يستوردوا من أثيوبيا المزدحمة بالمراعي التي تنتج لحوما هي من المؤكد أقل مرضا وأفضل صحة، ولكنها لن تكون أكثر ربحا لمستوردي اللحوم، فضلا عن عدم انضباط جهاز وزارة الزراعة المشرف علي الاستيراد. ولولا تدخل بنت الناس الطيبين فايزة أبوالنجا وزيرة التعاون الدولي، وهي من دهست مشكلات الكون طولا وعرضا إبان توليها إدارة مكتب د. بطرس بطرس غالي أثناء عمله كأمين عام الأممالمتحدة، لولاها لما استطعنا استعادة الجسور مع أثيوبيا القريبة منا، بينما يترصد القطاع الخاص الراغب في الربح وحده لجهدها حتي كاد أن يفشله. وهكذا يتضح لنا أننا نطلب من القطاع الخاص معجزة هو غير قادر عليها ، معجزة الإيمان بأنه يعمل علي أرض مصر ، وهذا يعني ضرورة وضع حصوة ملح في كل عين ليؤكد الإيمان عمليا بضرورة المسئولية الاجتماعية بجانب ربح معقول بدلا من الفحش في الربح. وقولي هذا لن ينسيني حقيقة وجود عدد قليل من رجال الأعمال الكبار، هم من فهموا معني المسئولية الاجتماعية في الاقتصاد المعاصر، وعدد أكثر بكثير من هؤلاء لم يفهم سوي حقيقة واضحة «اخطف واهرب» كما فعل من هربوا بالمال إلي خزائن أوروبا واستثمروا فيها هذا المال، علي الرغم من أنهم مطلوبون أمام النيابة ومطلوبون للمحاكمة، وعدد آخر لم ينتبه إلي أن الثري لا يعيش وحده في المجتمع ليستنزفه، بل عليه أن يوفر للمجتمع الذي هو سبب ثرائه العديد من فرص العمل والقدرة علي الرعاية للأهل. ومن نماذج هذه الفئة يمكن أن نعثر علي العشرات الذين عاشوا بمنطق صوره أستاذنا إحسان عبد القدوس في رواية «شيء في صدري»، حيث غرق المليونير في شهوة الرغبة في اقتناص ابنة صديق عمره الذي عاش بالحلال ثم رحل عن العالم، ولم يجد هذا المليونير حلا لتحقيق شهوته سوي قتل خطيب البنت بحادث مفتعل ، ومن المضحك أن مدير أعمال المليونير طمع هو الآخر في والدة البنت. وطبعا لم يفت أستاذنا إحسان أن يصور كيف سقط المليونير وصديقه. وانتشر وقتها أن المقصود بالقصة هو أحمد عبود أشهر من أسقط الحكومات في عهد الملك فاروق بالرشوة، حيث خسر أثناء لعب الكوتشينة مبلغ مليون جنيه!!. ولم يقل لنا أستاذنا إحسان عبد القدوس أن عائلة الملك فاروق بعد تنازله عن العرش وبعد موته في روما عاشت علي الصدقات من الأسرة المالكة السعودية، ولكن هذا ما حدث بالفعل . ولعل ذلك هو الذي دفع خيالي إلي رؤية مشهد لم يحدث واقعيا، ولكنه متوقع، مشهد أن تدير السيدة ليلي الطرابلسي محل كوافير؛ حين ترغب في كسب رزقها بالحلال بعد أن قامت كل بنوك الكون بتجميد الأرصدة المنهوبة. وأثق أن من ظن من أثرياء المال الحرام أن بنوك سويسرا آمنة، ها هو يري النتيجة، ولذلك فلا مفر من قبول الرزق الحلال بإعادة تدوير المال في بلده، حيث إنه لا توجد دولة حاليا يمكن لبنوكها قبول أموال مجهولة المصدر. ولذلك فالعدالة الاجتماعية هي الطريق الباقي للجميع سواء كانوا رجال أعمال، أو من يفكرون في الهرب بحثا عن لقمة عيش عبر عبور البحر. والعدالة الاجتماعية ليست صعبة، ولا يمكن قياسها بعدد أجهزة التكييف التي اشتراها المصريون خلال عام. وأيضا لا يمكن قياسها بعدد السيارات التي اشتراها أناس رهنوا كل ما يملكون من أجل امتلاك سيارة بالقرض البنكي، فهؤلاء يعيشون في كرب الأقساط، فضلا عن استحالة قياسها بعدد الموبايلات في أيدي البشر، لأن الموبايل في يد الكهربائي والسباك وبائع الخضار علي عربة هو دكان متحرك يتلقي من خلاله طلبات الزبائن، وبالتأكيد ليس لهذا الموبايل أي شبه أو صلة بالموبايل الذي تحدث فيه هشام طلعت مصطفي مع ضابط أمن الدولة المفصول محسن السكري، وأصدر من خلاله هشام لمحسن أمر قتل امرأة لعوب. وأثبتت محاكمة الاثنين لمرتين متتابعتين أنهما ارتكبا حماقة التخطيط للجريمة وتنفيذها، ومازالت القضية تنتظر حكم النقض، وحسنا فعل النائب العام المحترم حين طعن في الحكم السابق الذي خفف الحكم الأول، فأصبح من حق محكمة النقض الحكم بالإعدام علي الاثنين أو تصدر أي حكم تراه في صالح المجتمع. أكتب هذا وأنا من المصدقين أن هشام طلعت مصطفي بناء عظيم، وأن مشروع الرحاب الذي نفذته شركته هو واحد من المشاريع الهامة، ولعل مشروع مدينتي يتفوق علي مشروع الرحاب، وإن كانت الأسعار في كل من المدينتين فوق خيال أي شاب، وكأنه قد تم بناء المدينتين لصالح العاملين في الخليج، فلا أظن أن مديراً عاماً أو وكيل وزارة باستطاعته دفع ثمن شقة سبعة وستين متراً في المدينةالجديدة. ولكن الثراء بغير حدود - في بعض من الأحيان - هو واحد من أسباب اشتعال الرغبة في ممارسة العمل السياسي العام وقد حدث هذا عندما استطاع هشام طلعت مصطفي أن يصل إلي عضوية مجلس الشعب، واستطاعت امرأة لعوب أن تجره من أنفه لتوقعه في شر أعماله. وهو نفس ما سبق ووقع فيه الريان حين جلس مع محافظ الجيزة الأسبق وكانا يشاهدان شرائط فيديو تصور الرئيس جمال عبدالناصر وهو ينادي بالاشتراكية، بينما كان الطبيب يحقن الريان بالمخدر الذي أدمنه، وبين غيبوبة وأخري أصدر تعليماته لحارس خزائنه بأن يعطي الإخوان المسلمين أربعة ملايين جنيه كدعم لهم في الانتخابات. ومن عجائب تلك الشركات أن واحدا من أقطابها كان يصحب - دائما - في سيارته مأذوناً واثنين من الشهود. وطبعا كان الأمر المضحك والذي شاهدته بعيني هو حديث واحد من كبار رجال الأمن يتصل بالتليفون بصديقي د. محمد شعلان أستاذ الطب النفسي، وهو يسأله «هل صاحب شركة توظيف الأموال هذا عاقل أم مجنون، إنه يطلب مني أن أقدم له امرأة حتي يعترف بأرقام حساباته السرية». وطبعا أجابه محمد شعلان بأن «الرجل عاقل ومجنون في آن واحد، عاقل حين ضحك علي الجميع، ومجنون حين ظن أن شهواته ستجد من يرضخ لها بعد انتهاء مولد النصب باسم الدين». ونفس المطب وقع فيه الحاج السويركي صاحب التوحيد والنور، حين أخذ يعاين بنات الغلابة ليجد في أجسادهن ما يثيره، فهو كضحية لمرض السكر لا يعلم أن العجز عن ممارسة الواجبات الزوجية ليس مسئولية المرأة، بل هو مسئولية تآكل الخلايا الإسفنجية في أداة ممارسة الجنس عند الرجل، مما يجعله غير قادر علي ممارسة العناق الزوجي، وإن كان من السهل أن يستثار، وقد أثارته جنسيا ابنة بلوكامين شرطة بعد أن عاين جمالها، ثم طلقها لعجزه الجنسي، فأثبتت أنه متزوج بخمس نساء في وقت واحد. وطبعا دخل السجن وإن كان قد انتشرت محلاته كالوباء في أنحاء مصر لتشهد أن صندوق النقد لم يلمس خريطة واقعنا حين نصحنا بالخصخصة، فبعنا شركة عمر أفندي ذات الثمانين فرعا، وعرضنا العديد من العمال بها لقرارات مازالت تترنح يمينا ويسارا تشهد عجزنا عن حماية شركة كانت تربح أربعة ملايين جنيه بعد أن تسدد كل ما عليها من التزامات، ولعل قرار شراء رجل أعمال مصري لها فيه بعض من شفاء ليأس عمالها من واقعهم. وطبعا لا يمكن نسيان أن شركة السويركي التي انتشرت كبديل لعمر أفندي تذهب أرباحها إلي رجل من المؤكد أنه سند فعلي للتخلف المدعو الجماعات السلفية، فضلا عن أنه بشكل أو بآخر يقوم باستنزاف العاملين معه ويتفنن في هدر كرامتهم. --- الحقيقة الواضحة التي علينا أن نتمسك بها هو أن نطبق بأمانة تعمير مصر من أقصاها إلي أقصاها، في الأراضي الموجودة سواء في الصحراء الغربية أو في سيناء، ولا مفر من أن نسترد تلك الأراضي بقوة الجهاز المنوط به ذلك، وقد شدد الرئيس علي ضرورة تطبيق الحماية لأراضي الدولة، من لعبة التسقيع والبيع، فالنقود ليست كل شيء، بل هي وسيلة لا أكثر ولا أقل. ولا يمكن للخيال ألا يتوقف عند مشهد الدكتور زكريا عزمي وهو يرفض مشروع تشغيل المستشفيات بتوقيت له ثمن بعد الظهر وتوقيت مجاني في الصباح، وأطلق نكتة حارقة حين قال «المريض حين يحتاج إلي علاج فالأمر ليس كدخول السينما من حفلة تذكرة الدخول صباحا تكون زهيدة، وتذكرة حفلات بعد الظهر تكون مرتفعة. ولكن يبدو أن حاتم الجبلي قد حسم أمره فنفذ ما أراد من خصخصة لمستشفيات الدولة بأكملها بقرار أقل ما يوصف به أنه قرار غير جدير بالتقدير، وقام بتوجيه رصاصة قاتلة لما نحلم به من عدالة اجتماعية، فكيف لمصاب بالمغص الكلوي - مثلا - إثبات أنه فقير؟ أكتب هذا وأنا من تعرضت في العام السابق لمأساة من أشد لحظات إحساسي بالإهانة علي مر تاريخي، حين دهمتني أزمة قلبية استدعت تركيب ثلاث دعامات في شرايين قلبي. وأفقت بعد خروجي من غرفة العمليات علي وجه أسامة سرايا رئيس تحرير الأهرام، وتعجبت من ذلك، إلي أن أخبرتني أستاذة الرعاية الحرجة عالية عبد الفتاح بأنها أخبرته باحتياج مركز الرعاية الحرجة لثمن الثلاث دعامات الدوائية التي تم تركيبها لي ، فأكد لها أن الأهرام وروز اليوسف قد تقاسما ثمن الدعامات، وأقر وأعترف أني خلال خمسين عاما من العمل بمهنة الصحافة لم أستطع توفير مبلغ اثنين وأربعين ألف جنيه هو ثمن الدعامات الثلاث، أكتب هذا وأنا علي ثقة من أن المحترم سعيد راتب الذي كان يشغل وقتها منصب رئيس هيئة التأمين الصحي، لم يكن ليتردد لتوفير تلك الدعامات - لو سمح له القانون بذلك - فالتأمين الصحي الذي اشتركت فيه وسددت اشتراكاته لمدة تقترب من الأربعين عاما لا يدفع ثمن الدعامات الدوائية، بل يدفع فقط ثمن الدعامات العادية والتي تصلح أحيانا وتفشل في أحيان أخري. ولم أرق ماء وجهي، لأن كلا من أسامة سرايا وكرم جبر قد أعفياني من مسألة التوهان في دهاليز التأمين الصحي. -- ينفجر سؤال «هل تحقيق العدالة الاجتماعية أمر مستحيل في مصر؟ يجيب عن ذلك القرار المحترم الذي أصدره سامح فهمي وزير البترول يوم الأربعاء الماضي بتعيين كل خريجي هندسة البترول بشركات البترول العاملة في مصر المحروسة. والعدالة الاجتماعية أيضا ليست صعبة، بدليل ثقتي في أن أحمد زكي بدر وزير التعليم أصدر قرارا بأن يصرف للعاملين بقطاع الكتب مكافآت تعينهم علي تحمل أعباء حياتهم وأولادهم. وأظن أن أحمد زكي بدر سيري بعيون صادقة مع نفسه ومع مسئولياته، أن حكاية تحويل المدارس القومية إلي مدارس تجريبية فيه إجحاف بفكرة التعاون، فالمدارس القومية هي جمعيات تعاونية، والمدارس التجريبية هي مدارس تابعة للوزارة بشكل مباشر. ولابد أن الوزير أحمد زكي بدر سيعيد النظر في قراره الذي صدرت ضده أحكام من القضاء. ولابد للوزير أيضا أن يحيل أي مخالفة من مخالفات مجلس إدارة أي جمعية تعاونية للنيابة العامة، فمن السهل جدا أن يوجد خلف القضبان أي لص أثري بغير طريق مشروع عند عضويته لمجالس إدارة تلك المدارس، وليس من الصعب علي الوزير أن يعقد اجتماعات ويراقب السلوك التعليمي في تلك المدارس، لا لشيء إلا لأنها مدارس يمكن أن تخرج ما يحتاجه المجتمع من أعداد لائقة بالعمل في بلادنا، عكس كل المدارس الأجنبية التي يتخرج منها أبناء الصفوة، وهم «مسخ بشري» لا يجيدون الكلام باللغة العربية. ولو أجرينا بحثا بينهم لوجدنا أن فكرة الولاء للوطن بعد قضاء 12 عاما من الدراسة بالمدرسة الكندية أو الإنجليزية أو غيرها، هذا الولاء يكون مشكوكا فيه ، لأنه يقوم كل صباح بتحية علم البلد الذي يرفرف علي تلك المدرسة، سواء أكان علم كندا أو علم فرنسا. وطبعا أثق أن أحمد زكي بدر لا يريد أن يترك التعليم للقطاع الخاص فقط، حيث يتم تجفيف جيوب ومدخرات العديد ممن يلحقون أبناءهم بمدارس القطاع الخاص، وتمثل مدارس الجمعيات التعاونية التابعة للمعاهد القومية منقذا للعديد من الأسر . وعلي الوزير أن يراجع سجلات الخريجين من تلك المدارس ليجد أنهم صفوة الصفوة. ويمكن للرجل أن يفرض سلطانه بالقانون علي حسن أداء العمل في تلك المدارس بجانب إصلاحه لبقية منظومة التعليم. -- هل نتأثر بأحداث تونس؟ لم يحسم أحد هذا الأمر بفهم لقدرات مصر قدر الفنان فاروق حسني وزير الثقافة، حين صرح أثناء حواره مع الزميل خيري رمضان علي شاشة التليفزيون المصري، حين قال بوضوح: أن ما جري في تونس هو مرآة يمكن أن ننظر فيها، فنبتعد عن مواطن الخلل التي حدثت هناك، ونصلح من أمر ما يجب أن نصلحه». وفاروق حسني فنان يري الحقيقة بعيون التجرد، ولا يدخل في متاهة التردد أو الخوف، فهو من استوعب تاريخ مصر من أقدم العصور وحتي كتابة هذه السطور، وولاؤه لقيادة الرئيس مبارك لا يمكن لأحد أن يشكك فيه. --- للقارئ أن يعلم أني تعمدت تناول آراء البشر الحريصين علي صيانة هذا الوطن، بطرس بطرس غالي الذي تربطه مودة كبيرة مع الرئيس حسني مبارك، وفضيلة الإمام الأكبر الشيخ الطيب، ونيافة البابا شنودة اللذان صانا مصر بالتآزر، والجليلة المحترمة فايزة أبوالنجا. وغير هؤلاء من أساتذتي إحسان عبد القدوس، وفتحي غانم، والراحل الجميل متي المسكين. ولم ألجأ إلي أي صاحب اتجاه غير نابع من تجربة الدولة المصرية الحديثة من رموز المعارضة، كي أثبت لنفسي وللقارئ أن في نسيج ما هو قائم في هذه الدولة طاقة عمل قادرة علي حمايتها.