قناة السويس الجديدة ليست مُجرد ممر مائى إضافى، بل مشروع قومى استراتيجى أعاد صياغة مكانة مصر على خريطة التجارة العالمية. ففى عام 2014، جاء القرار الجريء بحفر ممر موازٍ للقناة الأصلية، ليكون «مشروع التحدي» فى الجمهورية الجديدة، ورسالة واضحة بأن المصريين قادرون على الإنجاز رغم التحديات الاقتصادية والسياسية. المشروع، الذى افتُتح فى 2015 بعد تنفيذ قياسى لم يتجاوز عامًا واحدًا، حقق طفرة فى زمن عبور السفن، حيث قلّل فترة الانتظار من 11 ساعة إلى نحو 3 ساعات فقط، ورفع القدرة الاستيعابية اليومية من 49 سفينة إلى ما يقارب 97 سفينة. هذا الإنجاز انعكس مباشرة على التصنيف الملاحى العالمى لمصر، وجعل القناة أكثر تنافسية أمام الممرات البحرية البديلة. والأهم أن هذا المشروع العملاق تم تمويله شعبيًا بالكامل، إذ جمع المصريون 64 مليار جنيه خلال ثمانية أيام عبر شهادات استثمار، ليصبح مثالًا على تلاحم الشعب والدولة فى تحقيق حلم وطنى كبير. هذا التمويل الشعبى أعطى القناة الجديدة بُعدًا رمزيًا يضاف إلى بُعدها الاقتصادى والاستراتيجي. اليوم، ينظر الخبراء الدوليون إلى القناة الجديدة باعتبارها ركيزة أساسية فى دعم حركة التجارة العالمية، وضمان استمرارية مصر كممر ملاحى لا غنى عنه، وكعلامة فارقة على قدرة الدولة على تنفيذ مشروعات كبرى بأيدٍ مصرية وإرادة وطنية. بدايات الفكرة فكرة توسيع قناة السويس لم تكن جديدة، فقد طُرحت منذ السبعينيات دون تنفيذ، خلال عهد كلٍّ من الرئيس الراحل أنور السادات وحسنى مبارك. وفى عام 2014 جاءت الموافقة النهائية من الرئيس عبد الفتاح السيسى ضمن خطة التنمية الكبرى فى الجمهورية الجديدة، بدوافع اقتصادية واستراتيجية حاسمة. عانت مصر من عجز فى العملات الصعبة بعد أحداث 2011 وخلال حكم الجماعة الإرهابية، مع نمو اقتصادى ضعيف وضغوط اجتماعية، وافتقار تدفق العملة الصعبة إلى المشروعات الاستثمارية، إلى جانب تراجع السياحة والتحويلات. وهو ما ألزم الاقتصاد المصرى بضرورة إنشاء مصادر جديدة للدخل، فجاء المشروع كمحور للتنمية الوطنية وتحقيق الاكتفاء الذاتي، والاعتماد على الشعب المصرى فى عملية التمويل. الإعلان والتنفيذ انطلق المشروع رسميًا فى 5 أغسطس 2014 بحضور الرئيس عبد الفتاح السيسى ومنتسبى هيئة قناة السويس والهيئة الهندسية للقوات المسلحة بقيادة اللواء مهندس أ.ح كامل الوزير، رئيس الهيئة آنذاك، حيث ضُبطت مدة التنفيذ بشكل دراماتيكى إلى عام واحد فقط بدلًا من ثلاث سنوات. بلغت التكلفة الرسمية لتوسيع القناة «الهندسة الملاحية فقط» حوالى 59.4 مليار جنيه (9 مليارات دولار)، وذلك لزيادة الطاقة الاستيعابية من 49 إلى 97 سفينة يوميًا، بما يقارب الضعف. وبالتوازي، شملت خطة تطوير محور القناة عدة مشاريع صُرف عليها نحو 30 مليار جنيه، منها إنشاء مدينة جديدة، 7 أنفاق، مناطق صناعية ولوجستية، مزارع سمكية وتكنولوجية (منها بركة غليون) فى محافظة كفر الشيخ. التمويل الشعبى تم تمويل المشروع عبر طرح شهادات استثمار للمواطنين المصريين محليًا، بالإضافة إلى الاقتراض من البنوك المحلية. وقد صُمم التمويل ليبقى مغلقًا أمام الاستثمار الأجنبى لضمان السيطرة الكاملة للدولة. بلغت تكلفة المشروع نحو 8.2 مليار دولار، جُمعت أغلبها عبر شهادات استثمار شعبية بعائد 12٪ سنويًا. قبل 2015، كانت القناة أحادية الاتجاه بنسبة كبيرة (وضع القوافل)، ما يستدعى انتظارًا يصل إلى 18 ساعة فى ظل ازدحام، وعبور محدود للسفن ذات الحمولة المرتفعة. بعد التوسعة والافتتاح فى 2015، أصبح بالإمكان عبور السفن فى اتجاهين فى معظم المسار، مع تقليل زمن الانتظار إلى حوالى 3 ساعات فقط، ما خفض زمن العبور الكلى إلى نحو 11 ساعة. زيادة الإيرادات بلغ عدد السفن العابرة 2019 نحو 18,880 سفينة (1.207 مليار طن)، وخلال 2021 بلغ 20,649 سفينة بإيرادات قياسية بلغت 6.3 مليار دولار، وارتفعت فى 2022 إلى 8 مليارات دولار، لتبلغ الذروة التاريخية فى 2023 بإيرادات 9.4 مليار دولار، عبر 26,434 سفينة (1.568 مليار طن). ارتفعت القدرة اليومية إلى 97 سفينة. فى 2024، شهدت القناة تراجعًا حادًا فى حركة السفن إلى 13,213 سفينة، بانخفاض 50٪ مقارنة بعام الذروة، كما انخفضت الإيرادات من أكثر من 10.25 مليار دولار فى 2023 إلى نحو 3.991 مليار فى 2024، بخسارة تُقدَّر ب 7 مليارات دولار. بحلول 2025، ارتفعت حركة السفن والإيرادات قليلًا، وشهد شهر مارس زيادة بنسبة 2.4٪ فى عدد السفن، و7.1٪ فى الحمولة، كما زادت الإيرادات بنسبة 8.8٪ عن يناير 2025، رغم استمرار الضغوط الأمنية. فى ديسمبر 2024 تم بنجاح اختبار توسعة الطرف الجنوبى للقناة (10 كم)، ما رفع طول القسم ثنائى الاتجاه إلى 82 كم، وزاد القدرة بمقدار 6-8 سفن يوميًا، لتحسين الأداء فى حالات الطوارئ. ومن المتوقع التشغيل الكامل فى الربع الأول من 2025، مع إصدار خرائط ملاحية محدثة، مما سيعزز من مرونة الملاحة وقدرة التحمل فى القناة. كما تدرس هيئة قناة السويس مشروع توسعة جديدًا، يتضمن دراسات بيئية وهندسية، استنادًا إلى البنية الجيولوجية والملاحية، وقد تستغرق هذه الدراسات نحو 16 شهرًا. مُضاعفة القدرة الفريق مهاب مميش رئيس هيئة قناة السويس الأسبق قال إن فكرة حفر قناة السويس الجديدة جاءت لمواجهة تحديات المنافسة الدولية من ممرات بديلة مثل القطب الشمالى أو الممر الإسرائيلى المقترح، وإنها زادت مرونة القناة وقدرتها على استيعاب الزيادة المتوقعة فى حركة التجارة العالمية، وأكّد أنها جعلت من مصر مركزًا لوجستيًا عالميًا. وأوضح اللواء د. محمد الغبارى مدير كلية الدفاع الوطنى الأسبق، أن قرار الحفر كان استراتيجيًا بامتياز وليس اقتصاديًا فقط، وأن القناة الجديدة أضافت بُعدًا حيويًا للأمن القومى المصري، من خلال امتلاك ممر مائى مزدوج قادر على العمل حتى فى حالات الطوارئ. محمد شُرَين النجار استشارى النقل البحرى الدولي، أشار إلى أن المشروع عزز مكانة مصر كعقدة لوجستية عالمية، وجعل المنطقة الاقتصادية لقناة السويس قبلة للاستثمارات الأجنبية، خصوصًا من الصين وكوريا. الدكتور عمرو السمدوني، خبير النقل الدولى واللوجستيات أكد أن القناة الجديدة فتحت المجال أمام تدفق استثمارات ضخمة فى قطاعات مثل السيارات والأدوية والوقود الأخضر، وأشار إلى أن المنطقة الاقتصادية تهدف لأن تكون مركزًا اقتصاديًا عالميًا فى الصناعة والنقل البحري. الدكتور ياسر شحاتة خبير التنمية المستدامة يرى أن مشروع قناة السويس الجديدة غيّر خريطة الملاحة عالميًا، وأسهم بشكل فاعل فى تعزيز مكانة مصر التجارية واللوجستية، وخفض زمن انتظار السفن، ما زاد من تنافسية القناة عالميًا. اقرأ أيضا: