قامة قصيرة معتدة بذاتها .. عقل راجح خارق الذكاء ونظارة سميكة أصبحت من دواعى شهرة أى مثقف جاد .. جاكت متهدل, محشوة جيوبه بالأوراق وكتب الجيب .. سيجارة مشتعلة لا تفارق يديه, وكأن الأفكار تبعث من رمادها .. إمارات نضج تنضح بها ملامحه المتواضعة الجمال .. براعة فنية وقوة تعبير وعمق ونفاذ وتعدد فى الملكات الإبداعية بصورة قلما تنعقد لأحد .. متواضعاً .. غير مدع. صريحاً .. يخجل من الألقاب .. لا يضيع دقيقة من وقته دون حيثيات, مستغرقاً فى فهم الكون .. رابط الجأش قلما يبكى على حد تعبيره فى كتابه «الكلمات» .. حلم بأن يصف الأشياء حال رؤيته لها ولمسها واستخلاص فلسفلتها فكان له ما أراد.. قادراً على استثارة نوازع التمرد والرفض .. ديناميكياً يكره التحجر فى الآراء بسيطاً.. متجرداً مما يثقل الآخرين إنه «بولو الصغير» أو جان بول سارتر أهم فيلسوف فى فرنسا فى القرن العشرين، كان دوماً شخصية كبرى فى آرائه ومواقفه وتجلياته الأدبية والفلسفية .. منذ صغره خطط لأن يكون «أسبينوزا وستندال فى آن» أى فيلسوفاً وأديباً .. منذ أن أبصرت عيناه النور فى عاصمة النور فى 21 يونيو عام 1905 ، وهو العام نفسه الذى ولد فيه إمبراطور الموضة الفرنسية «كريستيان ديور» وكأن القدر قرر أن يجمع بينهما ليتصدر الثانى الموضة النسائية .. فيما يقوم الأول بصناعة أشهر موضة فكرية ستشهدها فرنسا (الفلسفة الوجودية) وستقوم بتصديرها للعالم ممهورة بتوقيع سارتر .. الذى ولد فى أسرة برجوازية يتيم الأب «ضابط بحرى» فتعهده جده بالرعاية والحنان والقراءة والاطلاع فاستطعم عظمة الكتاب وسره وهو لم يبلغ الثالثة بعد .. وبفضل هذا الجد الذى كان يدّرس اللغة الفرنسية للأجانب عرف «بولو» الشئ الكثير عن كتاب «المطالعات الألمانية» ونتيجة لإهمال هذا الجد أيضاً فقدت عينه اليمنى البصر .. أما الجدة فكانت تقص عليه الحكايات الخيالية .. لكنه كان
يفاجئها بخيال أكثر سحراً ويتولى إعادة رواية القصة على مسامعها بصورة جديدة يتحول فيها الطفل إلى ذئب لمجابهة ذئب آخر. ولد مفطوراً على نداء الحرية يثمنها بكل نفيس .. انطبق عليه قولنا المأثور «الولد لخاله»، والخال كان طبيباً قدم خدمات جليلة للقارة الإفريقية استحق عليها جائزة نوبل فى السلام.. درس الفلسفة فى المدرسة العليا ودرسها فى الليسيه كوندورسيه وكان الأول على أقرانه، فيما كانت صديقته الذائعة الصيت سيمون دو بوفوار هى الثانية .. تم تجنيده أثناء الحرب العالمية الثانية وأسر ثم أطلق سراحه .. ولكن التجربة تركت آثار عميقة غائرة .. تجلت فى تحوله من الدرجة الثالثة فى سلم المقاومة إلى الدرجة الثانية .. وقرر أن يقاوم بسلاحه (الكتابة) .. كانت فرنسا ترزح تحت عدوان الألمان وحكومة فيشى الموالية له - ولم يدع يوماً كما نشاهد الآن أنه كان «الميدان» – آثر أن ينضم إلى أعضاء المقاومة لحماية مسرح الكوميدى فرانسيز من أى تخريب ألمانى. نضج وعيه السياسى الذى اعترف بأنه كان متواضعاً ولكن الحرب أنضجت كل ملكاته على نار هادئة .. فكتب فى مذكراته : «بعد عشرة أعوام من التأمل وصلت إلى نقطة تحول حاسمة : لم يعد مطلوباً غير ربتة خفيفة». تجلى تطوره من خلال قناعته بعدم صلاح أى «خلاص شخصى» وأصبح شأنه شأن جوتيس بطل مسرحيته «الذباب» : مستعداً لقبول أى نظام جمعى لا ينكر حريته الخاصة .. حين سئل عن أسباب تعاونه مع الشيوعيين أجاب : إذا كنت تأمل فى منع أى حرية يمكن أن تتحول إلى طغيان لا تبدأ بإدانتها وأنت لا تملك القدرة على جذب الاهتمام .. لكى يكون لك قدرة على التأثير يتعين عليك المشاركة فى النضال مع الجماهير .. فقد ربط الأخلاق بالسياسة بطريقته الخاصة .. تعرف على بوفوار أو «بفر» كما كان يدللها عام 1929 ولم يفترقا حتى وفاته عام 1980 وكانت شاهدةً على كل تفاصيل حياة هذه الشخصية الطاغية ولم تكن ظلا ولكن لها مدارها الخاص .. حتى إنها كانت شريكته فى المقاومة وفى تأسيس التجمع الديمقراطى الثورى الذى أسسه بسبب ظروف الحرب. عام 1947 أصدر فى الولاياتالمتحدة كتاب «جمهورية الصمت» وهو عنوان مقالة له عن العمل السرى أثناء أهوال هذه الحرب العبثية التى أفقدت العالم خمسين مليوناً من البشر.. كان يرى أن ثورة الفرنسيين على الاحتلال كانت «ثورة رمزية فى مدينة رمزية والتعذيب وحده هو الحقيقة الواقعة .. لم نكن أكثر حرية مما كنا تحت سيطرة الألمان لقد فقدنا جميع حقوقنا وأهمها حقنا فى التعبير .. كنا نتلقى الإهانات علناً وكان لزاماً أن نبقى صامتين .. وكنا نرى على الجدران وفى الصحف صورة كريهة لا معنى لها لا تمت لواقعنا .. ولكن سلطات القهر تريد منا أن نصدقها .. وبسبب كل هذا كنا أحراراً أكثر من أى وقت .. أصبحت الكلمة غالية شأن إعلان المبادئ .. كل إيماءة لها وزن وقيمة واستطعنا بفضل كل الظروف الشديدة الوطأة أن نعيش بغير قناع .. كل منا سأل نفسه نفس السؤال: إذا ما عذبونى هل سأصمد ؟ .. كلمة واحدة كانت كافية لاعتقال عشرة أو مائة .. أليست هذه مسئولية كاملة .. إظهار حريتنا فى إطار الوحدة الكاملة، هكذا بالدم والدموع تشكلت جمهورية هى الأقوى بين سائر الجمهوريات فيما عرف كل مواطن أنه يعتمد على فرد آخر مثلما يعتمد على نفسه بحرية، وحين اختار نفسه باختيار حريته فقد اختار الحقيقة كل الحقيقة». وهكذا بعد انتهاء الحرب تم تنصيب سارتر رائداً للفلسفة الوجودية .. يجلس حوله المريدون فى مقهى دى فلور بباريس يقرأون عليه إنتاجهم .. ينتظرون قدومه متأبطاً قصة كلاسيكية كبيرة الحجم مستعارة من المكتبة العامة .. ويستدفئون معه بكمية الفحم الإضافية التى كانت تتوافر فى هذا المقهى الذى كان سارتر من دواعى شهرته .. واستطاع أن ينزل الفلسفة من برجها العاجى إلى هذا المقهى رأسا؟ً حيث كان يكتب فيه بصفة شبه يومية لساعات طوال واعتاد أن يسود ما لا يقل عن ثلاثين صفحة يومياً .. كان صاحب عزوة أدبية توأمها هؤلاء الطلبة وبعض الأصدقاء. قضى سارتر عاماً فى المعهد الفرنسى فى برلين لدراسة هدجر وهوسرل سعياً للوصول لأسلوب فلسفى يقربه من الواقع، فكانت الفلسفة الظاهرانية هى من هيأت له إعلاء الوعى واشتهرت عباراته الفلسفية الغامضة التى عرفها العالم أجمع «الوجود فى ذاته» «والوجود لذاته» وترجم د. عبد الرحمن بدوى كتابه الضخم «الوجود والعدم». لم يكن العبث من وجهة نظره فكرة مجردة ولكنه يتكشف دائماً من عجز البشر، لذلك فهو لا ينفصل عنا .. كان يعتقد بوجود كيمياء بين النقيضين – أحياناً – تجعلهما متماثلين جداً وكان يطلق على صديقه ألبير كامى «نقيضى المطلق» حيث تباعدت وجهات نظرهما إزاء الأحداث وحين مات كامى نعيه سارتر بقوله «التباعد أسلوب آخر للوجود معاً». صداقات سارتر وحياته متعددة حافلة بأشهر الأسماء «برتراند رسل .. وبول نيزان صاحب تعبير «كلاب الحراسة» وميرلو بونتى وأندريه جيد .. بيكاسو وأندريه مالرو» .. كان يستشعر أن شهرته أحبطت هجمات عديدة استهدفته من اليمين واليسار صاحب الأدب الملتزم ومجلة الأزمنة الحديثة وكتاب نقد العقل الجدلى والمتخيل ونظرية الانفعالات .. كان يرى أن بوسع الكاتب أن يستحوذ على جمهور بأكمله إذا قال له ما يفكر فيه بصدق، حتى وإن لم يكن بوضوح كامل .. الكتابة التزام لابد للكاتب أن يستوعب زمانه بقوة وأحكام فليس لنا غير هذه الحياة لنحياها .. أن كل كلمة لها نتائجها وكل صمت أيضاً .. واستطاع سارتر أن يفك شفرة سر انجذاب الناس للماركسية لإحساسهم بالانتماء لقضية أكبر من ذواتهم. كانت مواقفه من حركات التحرر والمقاومة واحترام إرادة الشعوب من أبرز أسباب ذيوع صيته فى الوطن العربى، فكان مناصراً لشعب الجزائر ضد بلده المستعمرة وطالب البعض ذات يوم «بإعدامه» .. استنكر العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 وكان على وفاق مع ماركس لا الماركسية .. وانحاز للحزب الشيوعى وكتب يوماً : «كل عدو للشيوعية كلب».. لكن بعد اجتياح الدبابات الروسية للمجر كتب عن شبح ستالين .. وأنهى علاقته بالشيوعية إلى غير رجعة،، بل إنه يعد من أشهر من تنباؤا بانهيار جمهوريات الاتحاد السوفيتى «كانت الاشتراكية بضاعة مستوردة والثورة مصنوعة من فوق والجيش الأحمر فرضها» .. كان جيفارا محط إعجابه وكاسترو يحظى باحترامه حتى ظهر بعض طغيانه واستنكر قمع ربيع براغ فى تشيكوسلوفاكيا وشارك فى مظاهرات الطلبة فى باريس عام 1968 .. وحين طالب اليمينيون باعتقاله قال ديجول عبارته الشهيرة : كيف أعتقل فولتير ؟ كانت أفكاره تعد «منفستو ثورى» لكل شباب العالم العربى، فهو «صاحب الجحيم هو الآخرون» وشعار الحرية المتفرد «لست السيد ولا العبد لكنى حريتى» .. كان بعض من تعلموا منه مثل ميشيل فوكو ورولان بارت وبورديو لهم آراء صريحة تنتقد عدم التفاته للمخاض الفكرى الذى كان يتشكل عقب إطلاق نفير الوجودية التى وضعت الفرد أمام اختياراته ومسئولياته، لأن العالم قد ودع الوجودية وتهيأ لاستقبال البنيوية .. ولكن هذه الصفوة الفلسفية لم تغفله حقه الأدبى .. وأقر بورديو بالظاهرة السارترية على حد تعبيره لأن سارتر تحول لبؤرة استطاعت أن تجمع شتات «المثقف الكلى» لأول مرة تصاحبنا كتب روايات وقصص قصيرة ومقالات ونقد أدبى .. ظل دائماً ثورياً على طريقته .. حضر سارتر وسيمون دوبوفوار وكلودلانزمان مدير تحرير مجلة الأزمنة الحديثة إلى القاهرة بدعوة من إصدار «الطليعة» وجه الدعوة لطفى الخولى وتوفيق الحكيم باسم مؤسسة الأهرام فى فبراير 1967 للاطلاع على التجربة المصرية فى عهد عبد الناصر والوقوف على حقيقة موقف القضية الفلسطينية ومشكلة اللاجئين فى غزة .. ولكن للأسف لم تثمر الزيارة سياسياً فيما يتعلق بهذا الهدف، لأن لانزمان كان صهيونياً يهودياً ترك أثراً سلبياً بتدخلاته وتعليقاته السلبية ولكن فيما يتعلق بأسلوب الحفاوة ثقافياً بسارتر فقد تم تقديمه بصورة أخجلته تواضعاً على حد تعبير الكاتبة عايدة الشريف التى كانت تغطى الزيارة، فوصف بأنه ضمير العصر وابتسم وقال إننى لست حتى ضمير نفسى .. زار قرية كمشيش وصحبه د. على السمان وقابل الرئيس عبد الناصر وداعب توفيق الحكيم قائلاً : لاحظت فى مسرحياتك أن النساء أكثر ذكاء من الرجال وضحك الحكيم قائلاً : ومع ذلك أتهم بأنى عدو المرأة .. ألقى سارتر محاضرة هامة فى جامعة القاهرة عن المثقفون وهو اسم كتاب رفيقة دربه «سيمون دو بوفوار» التى ذكرت أن سارتر اقترح عليها عنوان «السحرة» وكان قد عرّف المثقف فى قول شهير «شخص يدرس أنفه فيما لا يعنيه» وفسرت العنوان الذى أقترحه عليها سارتر فى مذكراتها قائلة : «كنا نشبه أنفسنا بالسحرة المشعوذين والشعراء الذين كانت المجتمعات الإفريقية تحترمهم وتخافهم وتحتقرهم فى وقت واحد ولكن لانزمان اقترح أن يكون الاسم «المثقفون». حصل سارتر «ديناصور الفلسفة» كما كان يطلق عليه لغزارة إنتاجه على جائزة نوبل عام 1964 لكنه رفضها قائلاً : أن الإنسان لا يجب أن يكرم فى حياته أو يصبح مؤسسة وجاء فى حيثيات اللجنة : «أنه كان أحد القلائل الذين أثروا الفكر الأدبى لأنه استعان بخياله المبدع وقدراته الفائقة ، فاستطاع النفاذ إلى أعماق الناس وكان من أكثر المفكرين صدقاً فى البحث عن الحقيقة والدفاع عن الحرية والسلام .. فى 15 أبريل 1980 دفن فى مقابر مونبارناس وأوصى أن تحرق جثته ثم جاورت رماده سيمون دو بوفوار.