كانت النتيجة تشير إلى أننا فى شهر أغسطس، الشهر الذى شهد وعد فتحى غانم لى بالتعيين فى أول فرصة، وكان العام هو 1959 بعد مرور عام طويل من السفر بين الإسكندرية موطنى وبين موطن جديد اكتشفت أنى مولود كى أحيا فيه واسمه «صباح الخير» تلك المطبوعة التى ساعدتنى باكتساب مهارة الكتابة باليد اليسرى بعد انكسار جارح شديد القسوة بالذراع اليمنى، وكان لابد من الكتابة، فكان نقل تحقيقات «صباح الخير» وأخبارها باليد اليسرى هو الملاذ من قهر الملل. كان شارع محمد سعيد الواقع خلف مجلس الوزراء هو مقر «روزاليوسف» و«صباح الخير»، مبنى متهالك لكنه شديد الأصالة، حيث نصعد سلالم متهالكة، ونلقى وجه ريتا عاملة التليفون التى ترفض التنصت على مكالمات الكتاب والرسامين عكس عم عوف التليفونيست البارع فى التنصت بقدرات أعلى من جميع أجهزة مخابرات الكرة الأرضية، ثم تستقبلك نرمين القويسنى سكرتيرة الأستاذ إحسان، وهى التى يمكن أن تضبط ساعتك على حضورها فى التاسعة وكيف تقوم بملء أقلام الأستاذ إحسان الباركر، وتضع ورقا جديدا على مكتبه، فهو يحب الورق الجديد.
وبجانب حجرتها توجد الحجرة التى كان يحتلها الأستاذ بهاء والتى تركها لفتحى غانم الذى تولى رئاسة تحرير صباح الخير من بعده.
ولا أعرف كيف اتسع الوقت لحضور المحاضرات بآداب الإسكندرية ورؤية الرائد الذى علمنا عشق معرفة الإنسان لعادات وأساليب حياة غيره من البشر وهو الأستاذ الدكتور أحمد أبوزيد مؤسس علم الأنثروبولوجيا ، هذا العلم الذى يدرس عادات وسلوك وتقاليد كل مجتمع بشرى، على طريقتين، الأمريكية والإنجليزية، والطريقة الأمريكية تعنى بجمع أكبر قدر من المعلومات عن كل تفاصيل السلوك، والطريقة الإنجليزية وهى تهتم بجمع الخطوط العريضة لسلوك كل مجتمع، ومنذ سماع أولى محاضراته صرت عاشقا لفكرة أن ندرس كمصريين عادات بعضنا البعض، فليس سلوك أهل الصعيد فى قنا هو نفس سلوك أهل دمياط أو الشرقية أو حتى الأحياء الشعبية، وقد راقبت بكل الأسى رحيل الأستاذ الفذ إلى الكويت لتسع البلدة الخليجية أحلام رجل عملاق فيؤسس عالم الفكر المجلة الرائدة فى علوم دراسة الإنسان، وطبعا كان عندنا فى القاهرة المركز القومى للبحوث ، لكن أبحاثه كانت تنقصها الرؤية الشاملة، فمن مسئوليتك أن تجمع التفاصيل، ومن أرقى مهامك أن تجعل تلك التفاصيل أمامك وهى تبرز لك الصورة العامة لمجتمعك. ولأن مصر بلد الرجل الواحد لذلك كان من عيوب د.أحمد خليفة مؤسس مركز البحوث أنه يبحث عن الولاء لشخصه قبل أن يبحث عن الولاء لعموم المجتمع، وقد أتاحت لى جراءتى أن أصطدم معه، فيصدر قرار من جمال عبدالناصر بتحجيم سيطرة الرجل على أبحاث المركز، بعد أن عرض العديد منها للبيع لمراكز البحث الأمريكية لقاء جنيهات من رصيد أمريكا بالعملة المصرية والتى كانت تحتفظ بها الولاياتالمتحدة فى مصر، وكان د. أحمد خليفة يوزع ثمن الأبحاث على أفراد المركز العاملين معه، وحين كتبت ذلك عام 1965 كان قرار عبدالناصر بإبعاد أحمد خليفة عن المركز فداخ الدوخات السبع كى يعود ليمتنع من بعد ذلك عن التجارة بالأبحاث.
استطاع فتحى غانم أن يبر بوعده لى بالتعيين فى أغسطس عام 1960 ليسألنى فى أول اجتماع تحريرى عن الهدف الذى أرغب فى إبرازه بتحقيقاتى وكتاباتى، فأجبته «أريد أن يكون دخول أى رجل وامراة إلى غرفة نومهما هو دخول اثنين عاشقين يجيدان عزف سمفونيات الحب لينجبا أبناء يستطيعان تنشئتهما على وعى بأهمية أن يختار الأبناء مستقبلهم دون ضغوط. وضحك زملائى من فكرتى التى اعتبروها عريضة وعويصة، لكن فتحى غانم قال «أنت تريد إعادة صياغة المجتمع، وهذا حق لك ولجيلك». وكانت مشاركة فتحى غانم فى تعليمنا كيفية التعرف على آفاق المجتمع المصرى هو أن نجوب مصر من صعيدها إلى دلتاها، نزور القرى والعواصم، ونشهد بناء السد، ونرفع أهات الفلاح حين يتعرض لأستغلال، نرصد الأخطاء ونحذر من الخطايا ونرفض التجارة بالدين، وتتسع قدراتنا على صناعة حق الحياة فى الدنيا كمعيار مصرى قدمته إيزيس حين أحبت أوزوريس وجاءالشرير ست ليمزق جسد الحبيب أوزوريس، فتجمعه إيزيس لتعيد رصه كجسد إنسانى ثم تتحول إلى يمامة ترقد على مركز الإخصاب فيه لتحمل بحورس الذى يخرج مقاتلا ينتصر على قاتل أبيه. وكأن تلك هى مهمتنا لا فى «صباح الخير» ولكن فى عموم الحياة المصرية.
وأثناء الجولات بين محافظات مصر يقبل منى شعراوى جمعة محافظ السويس فكرة الاتفاق مع محمود يونس رئيس هيئة قناةالسويس على فتح مراكز تدريب للعمالة الماهرة، حيث كانت مصر تحتاج تلك العمالة، لأننا نبنى السد العالى ونحارب فى اليمن ولا يمكن أن تظل هناك أيدى متعطلة لأنها لم تتعلم، فيحدث ما تمنيته على شعراوى جمعة ويضيف له محو أمية كل من يلتحق بتلك المراكز، فالمجتمع العادل يحتاج إلى الإنسان العامل. وطبعا يرتقى شعراوى جمعة فى سلم المسئوليات ليصبح وزير دولة لرئاسة الجمهورية وليؤسس معهد الدراسات الاشتراكية، ثم يتولى وزارة الداخلية لتفاجئه المباحث العامة بالقبض على أغلب المعاونين له بدعوى أنهم قد أسسوا تنظيما ضد حكم عبد الناصر. ويبتسم الرجل، فهناك لعبة ترويض وزير الداخلية بمثل تلك المؤامرات الصغيرة، ليثبت بعدها عدم أمانة من قاموا بهذا الرصد، فيحيلهم شعراوى جمعة إلى التقاعدوليعيد تأسيس مباحث أمن الدولة على أسس مختلفة. وكان من الطبيعى أن يترصده مصطفى أمين بعد القبض عليه بتهمة التجسس، وما أن أفرج عنه السادات بعد سنوات- بإفراج صحى- حتى يضع هدفا واضحا أمام عيونه وهو تدمير كل من ساهم فى رحلة بناء مصر المتحررة، وكان شعراوى جمعة واحدا من هؤلاء.
والتقى بالنماذج المضيئة فى التاريخ المصرى، من تلاميذ عبدالمنعم رياض الشهيد الذى أعاد تأسيس العسكرية المصرية ليؤهلها لا لحرب أكتوبر 1973 فقط، ولكن لتبقى على صلة بكل علوم العصر مهما تقدمت. وكان الإنجاز الباهر لتلك القوات هو ما فاجأ الدنيا فى سبعة أيام أولى من حرب أكتوبر 1973، ولعل دموع عبد الغنى الجمسى رئيس أركان حرب القوات المسلحة أثناء مباحثات فك الاشتباك وعند توقيع كامب ديفيد، لعل تلك الدموع كانت تملك شفافية الرضوخ للمطلب الأمريكى بتوزيع القوات المسلحة على أرض سيناء، وكأن كلا من إسرائيل والولاياتالمتحدة قد اتفقتا على تفريغ سيناء من القوات كى نصل إلى اليوم الذى صارت فيه سيناء مزرعة للإرهاب بدعوى الدين.
ولكن مصر لا تكف أبدا عن اكتشاف قدراتها، فإذا كان حسنى مبارك لم يسمح باستمرار يوسف صبرى أبوطالب كمحافظ لسيناء الشمالية، وهو من وضع أسس تنميتها بواسطة قبائل سيناء، وخفت هذا الأمر ليصل بتنمية سيناء إلى الترهل الذى جعلها قابلةللاحتلال باسم جماعات الإرهاب، إلا أن منصور حسن جاء فى عام 9791 محاولا لتأسيس صدق مع النفس ومع المستقبل ، ورصد فكرة الحرية المسئولة كحق طبيعى لعموم المصريين، ولأنه شخص حريص على كرامته ونديته مع أى مسئول لذلك كان خلافه مع من تجمعوا حول السادات ليبيعوا له وهم العظمة ثم يتركوه صريعا بأيدى جماعات التأسلم السياسى عام 1981 ولأتذكر يومها ما قاله لى عثمان أحمد عثمان حين سألته عام 1976 وكنت بصحبة الكاتب الراقى محمود السعدنى، سألت عثمان أحمد عثمان فى الثامن والعشرين من فبراير 1976 كم عاما تتوقع لحكم السادات ؟ فأجابنى «عشرة أعوام لا تزيد ولاتنقص» قالها كمقاول محترف فتح أبواب مصر للمال الأمريكى ولسياسة «الافتتاح السداح مداح »ولتبدأ بواسطته وعلى يديه ومن شاركوه الإيمان بتفكيك تجربة 23 يوليو كاملة ، فهاجرت الخبرات التى نحتاجها لبناء بلد مستقبل، وتم تفريغ الجامعات من أساتذة قادرين على تعليم الأجيال فنون الاهتمام بالمستقبل العام لعموم المصريين ،لنعيش حالة تفريغ الدولة من ثروة الخبرات التى تكونت على مر عقود ، ولكن الجيش المصرى احتفظ لنفسه بقدراته حين أصر المتابعون لقيادته على ألا يتخلف عن التدريب وعن التعلم الجاد بالمعاهد العسكرية ، ودائما أقول إن خريج كلية الهندسة فى أى جامعة مصرية يظل فى مستوى أقل من خريج الفنية العسكرية أو كلية الدفاع الجوى لسبب بسيط هو أن الأستاذ فى كليات الجيش يؤدى عمله تحت رقابة لصيقة لا تسمح له بالترهل، أما فى عموم الجامعات فكثير من الأساتذة أدمنوا دور البقال الذى يقتنص من قطعة الجبن بضعة جرامات ما دام الزبون لا يرى ولا يشعر. ولذلك كان من الطبيعى أن يتخرج الألوف عاجزين عن إتقان بعض مما تعلموه، فضلا عن أن تفريغ القطاع العام من فرص النمو دفع الطبيب إلى أن يعمل سائق تاكسى ودفع خريج الاقتصاد والسياسة للعمل فى محطة بنزين، والغالبية تعيش انخفاض الروح لتنتظر البقشيش.
وتمر السنون لتكون ثورة الخامس والعشرين من يناير ، هى حق مشوب بباطل ليس بالقليل ،فإذا ما قيل أن الثورة حق، فهذا عين الصدق الذى يغيب عنه جوهر وضع خريطة تنفيذ الأحلام، ولتتولى جماعة المتأسلمين حكم مصر ثلاثمائة وثمانية وستين يوما ثقيلة، إلى أن تأتى الجموع ليخرج ثلاثين مليون إنسان يقومون بتجديد معنى الديمقراطية فبدلا من شراء أصوات الصناديق بالأرز والسكر والزيت، حمل الثلاثون مليون إنسان كروتا حمراء يقولون به للمتأسلمين «كفى». وطبعا كان المشهد مذهلا مربكا لمن يسمون أنفسهم «عالم متقدم وديمقراطى»، ولو نظر أقطاب هذا العالم إلى أصابعهم لوجدوا أسنان فايزة أبوالنجا الرافضة لتوزيع مال السفارة الأمريكية على من يرفعون أصواتهم بشعارات الثورة ويقومون بخيانة عموم أحلام المصريين، ولوجدوا شابا درس علوم الهندسة الاجتماعية وهو د. مصطفى حجازى الذى تولى مسئولية المستشار السياسى لعدلى منصور رئيس الجمهورية المؤقت والذى اتصلت به هذا الأسبوع لأقول له عمرى يقترب من الرابعة والسبعين وليس فى يد أحد أن يسدى لى جميلا شخصيا. لكنى أنتمى إلى دار روز اليوسف التى لم تتأخر ليوم واحد عن كشف وقصف المتأسلمين بالكشف الواضح والجارح، لذلك تقصدها المتأسلمون عبر المجلس الأعلى لصحافة ليضعوها على حافة التجويع لعلها ترضح، وسقط المتأسلمون لكن روزاليوسف لم تسقط، فهل تنجزون كدولة إعادة تأسيس المجلس الأعلى للصحافة كان هذا الحوار يوم الخميس 22 أغسطس، وكان الرجل كريما حين أخبرنى بأن المجلس يجرى إعادة تشكيله حاليا.
لا تكف مصر عن الإمساك بقائمة أحلامها لترسم طريقها على ضوء العلم ، فهل نستطيع التفاؤل؟
أقول بمناسبة عيد ميلادى الثالث والخمسين ككاتب صحفى محترف، نعم تقول لى خبرة الأعوام أن الأحلام المصرية غير قابلة للانكسار.