دون موقف سياسى أنت تساوى أقرب حمار يجر عربة خضار أو بالتحديد مثل بغل يشد عربة نزح المجارى. ودون موقف اجتماعى فأنت والفأر سواء، لأنك ستعيش أيامك وأنت تقرقض بقايا صفائح القمامة. وأى صفيحة قمامة لابد تكون عفنة ولها رائحة قذرة حتى فى أفخم البيوت. وإن ظننت أنك بالملابس الفاخرة ستعيش أميرا ينحنى لك الغير، فلابد أن تقف أمام أقرب مرآة لتتهم نفسك بالركاكة والغباء، لأن الأكثر أهمية من غلو الملابس هو نقاء الروح ، وإن أردت الخروج من قمقم البلاهة فعليك أن تسخر من هؤلاء الذين ظنوا أن استيراد الطعام أو الملبس من الخارج، يصنع لهم مكانة أرقى من مكانة بقية البشر فهم بلهاء لأنهم يعيشون فى مستنقع احتقار النفس، حتى ولو كانت ملابسك من عند «سمالطو» ترزى الرئيس المخلوع وحتى وإن بلغ ثمن استغفالك مائة ألف جنيه للبدلة الواحدة، فهذه الملابس لا تتطابق إلا مع الخرز الملون الذى قايض به الغزاة البيض أقوام الهنود الحمر حين احتلوا دولتهم المسماة حاليا «الولاياتالمتحدةالأمريكية». وإذا كان حجازى الرسام كما نسميه نحن فى صباح الخير قد رحل، فحياته كلها من بدايتها إلى آخر يوم فيها كانت ضد أن نكون هنودا حمرا من صنف جديد اسمه العرب. وقد يتعجب القارئ حين أكتب ذلك عن رسام كنا نضحك عندما نشاهد رسومه، ولكن الحقيقة الواضحة أن ما كشف لى عن جوهره هو بعض من لمحات عشتها معه عبر سنوات تقترب من خمسة وخمسين عاما، منذ أن كان يرسم صباحا فى مقهى إيزافيتش وهو يرتدى ملابس الجنود، ومرورا بأيام أن كان فنانا لامعا وأتسلم منه رسومه أيام أن كنت سكرتير تحرير صباح الخير من عام 1970 إلى أن استأذنت من العم حسن فؤاد مؤسس المجلة راجيا ألا تكون لى علاقة بعمل تنفيذى يومى فى إدارة المجلة، لأن العمل التنفيذى يسرق الوقت والأعصاب، وكان ذلك فى مارس 1974. وأتذكر أننى حين أبلغت حجازى الرسام بقرارى هذا قال «دع هذا العمل لزميل آخر لا يقلقه تأمل العالم كما يقلقك». وأثناء مقاومتى للصراخ حاليا حزنا على فراقه، يأتى إلى الذاكرة هذا المشهد القديم، حيث كنت أفرح بلقاء أستاذنا فتحى غانم صباح كل ثلاثاء فى حجرة الطبيبة النفسية بنت البلد التى أدارت أياما كثيرة من عمرنا بالحنان والحزم، الحاجة سعاد رضا. وبدأ الأستاذ فتحى فى عرض بعض من مشاهد أيام صباح الخير القديمة، فهو رئيس التحرير الثانى لها بعد أحمد بهاء الدين. وحكى الأستاذ فتحى عن أن جمال عبد الناصر اجتمع ذات مرة مع بعض من رؤساء التحرير - ومنهم فتحى غانم - وتوجه عبدالناصر بالكلام إلى فتحى غانم، وروى كيف أن بعضا من زواره العرب يشكون له تصوير المرأة المصرية - فى رسوم الكاريكاتير - كخائنة لزوجها حيث كان حجازى يرسم أحيانا زوجة تخفى عشيقها فى الدولاب، أو يرسم امرأة تحدث زوجها عن عدم اكتمال قدراته الجنسية. وعندما عاد فتحى غانم من الاجتماع مع عبد الناصر لم يبلغ حجازى أو أى مسئول فى إدارة التحرير عما دار فى اللقاء. فقد كان فتحى غانم يؤمن إلى ما لا نهاية بحرية الفنان، كما يؤمن أن فن الكاريكاتير هو فن تضخيم بعض من العيوب وتكبير بعض من الأخطاء والخطايا، فعين رسام الكاريكاتير تفوق أحيانا عين السياسى أو عالم الاجتماع . ولذلك لم يوجه لحجازى أى توجيه ولم يناقشه فيما يرسم. أتذكر لحظتها أننى ضحكت لأذكر أستاذنا فتحى غانم بأحد اجتماعات محررى صباح الخير فى شتاء 1961، وقدمت أنا كاتب هذه السطور فكرة تحقيق صحفى أساسه جملة كتبها تينسى ويليامز فى مسرحية «قطة على سطح من صفيح ساخن»، والجملة هى «من داخل غرفة النوم تبدأ المشكلات بين الزوجين». أتذكر ضحك الزملاء بابتسامات ساخرة. وهنا قلت لهم أن سندى فيما أحكيه يعتمد على الطب النفسى ومناقشة العلاقات بين الرجل والمرأة، وحجازى الرسام يقدم ذلك بما يتفوق على ما أقرأه من دراسات الطب النفسى، فهو البارع الكاشف من خلال رسومه الساخرة عن أنانية الرجل أثناء الحب، وهو يرسم أحيانا أنوثة المرأة التى تشتاق احتياجا إلى ارتواء فعال، وكيف أن الرجل يطلب من المرأة أن تكون «مريم المجدلية» وهى بين أحضانه، ويطلب منها أن تبدو كقديسة لا يلمس تفكيرها الخطأ أو الخطيئة عندما تخرج من البيت، ورغم ذلك فكلنا نسمع ما يحدث فى أرجاء الكون من خيانات النساء للرجال، وخيانات الرجال للنساء. وإذا كانت رسوم حجازى ضحكات تكشف عن تلك الأمراض، فلماذا لا نناقش تلك الأمراض بعيون العلم ؟ وذكرت للأستاذ فتحى كيف أنه طالبنى أن أكتب فكرتى هذه فى مذكراتى الخاصة إلى أن يتجرأ المجتمع على مناقشة خباياه فى الأعمال الصحفية، فحتى الروايات التى كتبها إحسان عبدالقدوس لا تسلم من مناقشات وزوابع سياسية على الرغم من أنها لا تكشف كل الوقائع، ولكن الأمر يختلف بالنسبة للكاريكاتير، لأن الكاريكاتير ساخر بطبيعته. وبالفعل كتبت الفكرة فى مذكراتى الشخصية، وأخذت أتابع رسوم حجازى التى سبقت فى كثير من الأحيان ما توصل إليه علماء وأطباء علوم الجنس فى أرجاء الأرض. ورغم ذلك فكل تلك العلوم لم تخرج إلى النور إلا بعد منتصف الستينيات، وما كان قبلها من دراسات هى مجرد دراسات تمهيدية ،ولكن حجازى سبق العلم برسم كل ما يكشف عن حقائق إنسانية تخص المرأة وتخص الرجل بشكل ضاحك. الموقف السياسى لحجازى الرسام شديد البساطة ويحتاج إلى دراسات يقوم بها الدارسون للماجستير أو الدكتوراة فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية إن أرادوا معرفة التسجيل الاجتماعى والسياسى لأحداث المحروسة. فحجازى ابن سائق القطار الذى عاش فى طنطا رأى بعيون التمرد رحلات القهر التى تعيشها أى عائلة لا تجد الكفاف من قوت اليوم، الزوجة المنكوشة الشعر التى تربط رأسها بمنديل بقوية، والأطفال المتناثرين فى أنحاء غرفة ليس بها سوى سرير متهالك، ولمبة جاز تضىء المكان، وطبلية عليها ما لا يكفى من طعام العائلة. ولأن الأب سائق قطار فقد كانت ظروفه أفضل بكثير من ظروف الغير، وكانت براعة الأب فى الخط الجميل هى السلوى التى يلتقى على جسرها الأب والابن . ولكن الابن الذى يعيش مع أفراد أسرة يصل الأبناء فيها إلى أحد عشر ابنا تدفع المراهق كى يفكر فيما يمكن أن يحققه لنفسه وللعائلة بعيدا عن أكتاف هذا الأب، ولذلك يروى أن حجازى ترك امتحان الثانوية العامة ليصل إلى القاهرة عام 1954 وليضرب بأقدام الحظ أبواب مجلة التحرير التى كانت تصدر أيامها إلى أن صدرت صباح الخير عام 1956. وليستقبله سيد الإيمان بأن بداخل كل فنان درجة من خصوصية العبقرية ما يحتاج إلى فرصة مصحوبة بتقدير، هذا السيد هو أستاذنا حسن فؤاد، فيفتح لرسوم حجازى صفحاتها، وتبدأ الرسوم بسيطة مرتجفة بقوة البدايات، ثم تزدهر الرسوم تباعا لتتألق موهبة يصعب أن يوجد نظير لها، فالخط الذى يبرز الرسم ويحمل الفكرة عند حجازى يبدو معجزة، وهو يعبر بفصاحة شديدة أكثر وضوحا من عشرات الكلمات، وهذا ما يتألق بشكل أخاذ عبقرى فى الرسوم التى صاحبت رحلة كاتبنا الكبير عبد الله الطوخى عندما قرر أن يرحل هو وحجازى عبر نهر النيل من القاهرة إلى أسوان على ظهر المراكب الشراعية أو على ظهر «بوابير البحر» التى تحترف نقل البضائع. ويمكن لتلك الرسوم أن تضاهى بلا أدنى جدال ما تركه لنا علماء الحملة الفرنسية من رسوم . ومازلت أتمنى أن يصدرها المحرك الكبير للنشر فى أيامنا هذه الأستاذ الدكتور أحمد مجاهد رئيس الهيئة العامة للكتاب، فهى رسوم يمكن أن تعيد للإنسان بهجة الإحساس بأنه ينتمى إلى بلد اسمه مصر. ويزداد التألق بهاءً عندما قدم حجازى مع قصائد شاعرنا فؤاد قاعود رسوما لتغوص كل من القصائد والرسوم فى الوجع المصرى والإنسانى، فضلا عن الرسوم المصاحبة ل «الحضرة الزكية»، وهى السيرة النبوية بقلم سيد شعراء العامية وإمامهم فؤاد حداد. طبعا لا يمكن الحديث عن حجازى الرسام دون الكشف عن واحد من أضلاع الحلم الذى تأسست موهبته لتنادى به وهو «العدل الاجتماعى»، ومن يرصد رسوم حجازى يمكنه أن يرى السخرية المريرة من حياة أهل البذخ السابحة فى عشق الأشياء دون أن يكون لها جوهر إنسانى. وهو من ترصد الفساد فى بداياته الأولى عند تأسيس القطاع العام والذى تولى قيادته أشخاص لا يؤمنون حقيقة بأن العدل الاجتماعى هو هدف سعى عبدالناصر لتحقيقه، إلا أن جمال عبد الناصر آثر فى عديد من المواقع أن يعتمد على أهل رضوخ أسماهم أستاذنا محمد حسنين هيكل «أهل الثقة» ولم يكونوا كلهم مثل المهندس محمود يونس الذى أشرف وأدار عملية تأميم قناة السويس ثم أدار القناة من بعد ذلك، ولم يكن هناك رجال كثيرون مثل المهندس صدقى سليمان الذى أدار مسئولية بناء السد العالى أو مثل أمين هويدى الذى جعل مبنى السفارة الأمريكية مكشوفا بكل ما يجرى فيه أثناء إدارته لجهاز المخابرات، ولم يكن عند عبدالناصر آلية يكتشف بها قيادات فى مستوى محترم مثل هؤلاء، لأن العديد من أهل الرضوخ حاصروه، فتوهم جمال عبدالناصر أنهم قادرون على تحويل الأفكار التى تنبع من قلب أحلام البشر إلى وقائع حية، ولذلك كان من السهل أن نرى وجوها - شائهة - أيدت عبدالناصر بالتصفيق ولم تخلص للأفكار التى آمنت بها الجماهير. هل أنسى يوم الهزيمة البشع فى الخامس من يونيو من عام 1967 وكيف تجمهر عدد من قيادات كانت تنتمى إلى التنظيم الطليعى الذى أسسه جمال عبدالناصر ليحمى الثورة، تجمعوا أمام مبنى قيادة الثورة - أحد المقارات الأساسية للتنظيم الطليعى - وكانوا يرغبون فى استعادة استمارات عضويتهم كى يعدموها أو يتخلصوا منها خوفا من أن يأتى الأمريكيون من بعد الإسرائيليين، ويقوموا بالتعرف على المؤيدين لجمال عبدالناصر . وطبعا تناسى هؤلاء أن عبدالناصر كان يحلم لبعض الوقت أن يؤيدوا الأفكار قبل تأييدهم للشخص. كنت أظن أنى واحد من قلة تعرف أن العدوان على مصر قادم لا محالة، كنت ألمس ذلك أثناء وجودى فى باريس عام 1965، ولكن الحقيقة التى وضحت أمامى فيما بعد أن العدوان الإسرائيلى الأمريكى على مصر لابد أن يأخذ وقتا تزداد فيه الكثرة غير المؤمنة بالقومية العربية والعدالة الاجتماعية، فضلا عن رصد آفاق محيطات الجهل النشيط المصحوب بالغرور والعاجز عن التعلم، وكانت تلك هى مواصفات القيادة العسكرية المصرية ممثلة فى عبد الحكيم عامر. ولكن حجازى الرسام كان واحدا ممن يعرفون تلك الحقيقة ويلمسونها فى كل كاريكاتير سياسى، كاريكاتير لايلمس أشخاصا بأعينهم، ولكنه يشخص حالة يعيشها الوطن، ومن يجمع الكاريكاتير السياسى لحجازى سيجد مقاومة ورصدا للانتهازية السياسية ويجد كشفا لحقائق الطبقة الجديدة. حين بدأت حرب الاستنزاف عام 1969 كان حجازى كواحد من أبناء هذا الجيل يعيش شجن الرغبة فى تحقيق الحلم الصعب والبسيط فى نفس الوقت، حلم الوطن العربى غير المقهور . ولا أنسى أن ثار فى وجهى بصوته الهادئ حين كشفت له ما توصل إليه علمى من أن أحد حكام دولة خليجية، قام بالاطمئنان إلى أن قوة إسرائيل ستذيق مصر الويل فى حرب يونيو، حيث كان اصطياد جمال عبدالناصر قد تم بعد معايرته بأن إسرائيل تحتل قسما من بلده اسمه شرم الشيخ، فطلب إجلاء القوات الدولية الفاصلة بين مصر وإسرائيل منذ عام 1956، ولم يصدق حجازى فى أن واحدا من حكام الخليج قام بمراجعة خطة العدوان على مصر مع مندوبى المخابرات الأمريكية والإسرائيلية فى أوروبا، واستبشع حجازى هذا الأمر، فليس من المعقول أن يطلب حاكم عربى هزيمة مصر وركوعها، ولكنه عاد مرة أخرى ليتذكر التاريخ من أيام محمد على وحتى جمال عبدالناصر فقبل على مضض حدوث هذا الخبر، خبر مراجعة حاكم عربى لخطة الهجوم على مصر فى مساء الرابع من يونيو 1967 . وتركزت رسومه عن زوارنا من السياح العرب فى كشف هذا الولع بالمرأة دون القدرة على إقامة علاقة غير مغشوشة معها. وما أن جاء يوم توقيع مبادرة روجرز بإيقاف إطلاق النار وتثبيت القوات على الجانبين دون أى تحرك، هنا قام حجازى برسم بندقية على فرخ ورق كبير وقام بتمزيقها وإعادة لصقها ممزقة على فرخ آخر، ويقف أمامها إنسان مصرى متسائلا: «لماذا ؟» وكنت أمارس فى تلك الأيام مهمة سكرتير تحرير صباح الخير، وطبعا كنت أعلم أن النكتة لن تنشر لأن الرقيب لن يوافق عليها، وضحك العم محمود السعدنى رئيس تحرير صباح الخير فى تلك الأيام بمشاركة أستاذنا لويس جريس، ضحك العم محمود وقال: «حلوة .. ولكن حرب الاستنزاف توقفت من أجل هدف آخر». وكان العم محمود يعلمه، وهو استكمال بناء مواقع قواعد صواريخ الدفاع الجوى. قال حجازى الرسام لى يومها: «من المهم أن نلتفت إلى أن المنطقة العربية يجب ألا تقع بأكملها فى جيب البنطلون الأمريكى»، كان يعلم أن سياسة الولاياتالمتحدة هى وضع كل المنطقة العربية فى جيب البنطلون الأمريكى، فالخليج الذى طردت القومية العربية منه إنجلترا، صار تحت حماية القواعد الأمريكية . والشوكة التى فى حلق قوى الاستعمار والتى اسمها جمال عبدالناصر يتم إنهاكها بإبداع ملموس. وعندما تفجرت المقاومة الفلسطينية، كان حجازى من أكبر المشجعين لها، وهو من قدم أكثر من كتاب ورسم لمنظمة التحرير وهو من شارك مع الموهوب الكبير محيى اللباد فى عملية إصدار سلسلة الكتب من الدار الرائعة والتى كان اسمها «الفتى العربى»، تلك الدار التى اختفت مطبوعاتها حاليا، لا أدرى لماذا ؟ هل لأن رجال الأعمال الفلسطينيين الذين أنشأوها نالهم الوهن ؟ وما أن قامت حرب أكتوبر1973 حتى كان حجازى بكل عشقه للبساطة مع جنودها ومقاتليها كرسام يملك قدرة التعبير. ولكنه كان يخشى تماما من أن تكون مبادرة روجرز التى وقعها جمال عبدالناصر هى بداية تحويل الصراع العربى الإسرائيلى من صراع وجود إلى صراع حدود، وعندما جاءت لحظة صناعة الكرامة الهائلة فى السادس من أكتوبر عام 1973 كانت رسوم حجازى تضىء القلب ويفرح لها الوعى، وتزدحم بشجن القدرة على صناعة النصر . وما أن انتهت الحرب حتى رأينا لعبة خنق مصر تحت سحابة من الصوت العربى العالى «الدم العربى ليس أغلى من البترول العربى»، ووسط هذا الصوت العالى كان إمداد مصر بما تحتاجه من غذاء يمر من نفق ضيق رسمته كلمة نطق بها وليم سايمون وزير خزانة الولاياتالمتحدة، الكلمة القائلة: «لا مانع من إبقاء أنف مصر فوق الماء .. أما فمها فلا يجب أن يرتفع فوق الماء». وطبعا زارنا كيسنجر ليجلس مع أستاذنا محمد حسنين هيكل ويطلب منه أن يتحدث عن أحوال مصر وقدرتها على التفاوض مع إسرائيل. وعندما أصر أستاذنا محمد حسنين هيكل على أن يكون الحديث شاملا الأمة العربية بجميع دول المواجهة مع إسرائيل، لم يقبل كيسنجر. وهكذا أمسك كيسنجر بخريطة الوطن العربى كى يقص موقع كل دولة وحدودها بمقص الخلافات؛ لتكون كل دولة عربية محصورة فى حدودها، وبينها وبين جاراتها من المشاكل ما يحول بينها وبين التلاقى . وكان هذا إيذانا ببدء نهاية الحلم العربى الذى دفعت فيه مصر الكثير، وليغرق الخليج والعراق وليبيا فى الثراء غير المبهر، وتناسى أهل الثراء أن ثرواتهم يتم استنزافها بلعبة «تسليم المفتاح»، أى أن تقوم شركات وهيئات ومصانع الولاياتالمتحدةوإنجلترا وفرنسا ببناء كل ما تتمناه دول البترول دون أدنى تدخل من أبناء تلك الدول ودون تشغيل لأبناء الدول العربية التى لاتملك ثروة إلا أيدى وعقول سكانها. وسنوات حكم الرئيس السادات التى شهدت الانفتاح شهدت أيضا كيف صورت خطوط حجازى هذا الهلع الاستهلاكى الذى ضرب المجتمع فى ضمير العديد من أبنائه . لهثنا وراء الاستهلاك بينما كان حجازى ملتفتا إلى أهمية الحياة فى ضوء الضرورة، سرير وكرسى وترابيزة رسم، وأدوات طعام، ولا شىء أكثر. وفى تلك الفترة قام حجازى بالتركيز على الرسم للأطفال، فهم الغد القادم، أما الكبار السكارى بخمر الاستهلاك الأرعن، فقد غضب منهم حجازى وخاصمهم . وما أن قتل السادات وتولى مبارك حتى واصل حجازى رصد ما يفعله الانفتاح بالضمير المصرى من تزييف وتزوير . وما أن جاء مارس من عام 1989 حتى أيقن حجازى أن بقاءه فى القاهرة أو فى صباح الخير لم يعد يؤدى قيمة ما ؛ فقد سادت الركاكة وارتدى الذل ثياب القيادة، وتمسح الكذب بكلمات النفاق الرخيص تعظيما وتفخيما ل '' أبو علاء '' المدعو حسنى مبارك، مادام الكذب والذل والركاكة يضمنون خمر الحصول على أعلى درجة من المال للارتواء بجنون الاستهلاك، وصار المطلوب هو إدمان التصفيق ومحاولة إذابة خريطة مصر فى كوب رئاسى يحتسيه كل صباح رجل لا يليق بحكم مصر اسمه حسنى مبارك، ففى ذلك الوقت كان عبد الشكور شعلان قد دق أبواب مصر ليفرغ ثرواتها فى جيوب قلة من أبناء الطبقة الجديدة من رجال الأعمال، وكان جمال مبارك قد بدأ فى شراء ديونها بأزهد الأسعار من بنوك العالم ثم يقوم عموم المصريين بتسديد هذه النقود إلى جمال مبارك، ولم يكن هذا الأمر مقصورا على مصر وحدها، بل صارت لعبة اختزال الأوطان العربية فى أشخاص حكامها هى الهدية المسمومة التى قدمها كيسنجر للمنطقة العربية بأجمعها ووجد لها مهرولين فى ركاب النفاق العلنى . وقرر حجازى أن يغادر القاهرة إلى طنطا مسقط رأسه الأول، وقام بتسليم مفتاح الشقة التى كان يستأجرها لصاحب البيت، وكان يستطيع أن يأخذ منه ما لايقل عن مائة ألف جنيه نظير إخلائها، لكنه رفض تناول جنيه واحد، فقد سلمها دون خلو مثلما استأجرها دون خلو. وطبعا كان صاحب العمارة مذهولا من سلوك رجل لا يطمع فيما ليس له . كان حجازى واحدا من قلة تعى أن الاستعمار الجديد يزحف على المنطقة العربية من خلال تفتيت القوة العربية إلى صراعات جانبية، أبرزها على سبيل المثال لا الحصر، تلك الحرب العراقية الإيرانية التى استنزفت من أموال الخليج مئات المليارات من الدولارات، ثم تجىء حرب صدام المزقوق عليها من الولاياتالمتحدة ليخرج مدحورا بجيوش عربية، وتربح شركات الاستعمار الجديد عشرات المليارات من الدولارات ثمنا لإعادة البناء، ثم تأتى حرب الولاياتالمتحدة على صدام حسين ليتم هدم العراق وليعود إلى العصور الوسطى، ثم يتم استنزاف مدخرات العراق فى شكل '' بالات من الدولارات '' يتسلمها أبناء الطوائف، وقد حكى لى شريف بسيونى عميد معهد القانون الجنائى الدولى من أن بعضا من قادة الطوائف كان ينقل الدولارات عبر شاحنات إلى البيوت، ويرفض قائد أى طائفة أن يمد مدرسة بجوار بيته بمائة دولار لإصلاح ماسورة مجارى . وفى أثناء ذلك نمت وترعرعت خراطيم الجشع للطبقة التى تحكم مصر من رجال الأعمال لتستنزف تلك الطبقة كل ما أنجزه المصريون من قطاع عام، وتحولت عظام أجيال إلى ثروات، واشترى حسنى مبارك حكاية التوريث، إلى أن ضج عموم المصريين ليخرجوا فى ثورة الخامس والعشرين من يناير . لم أسمع رأى حجازى فى تلك الثورة قبل أن يرحل . وإن كنت أتمنى ألا تكون مجرد تكرار لثورة 1919 التى صنعت ديمقراطية لها أحزاب ركيكة وبرلمان شائه يناقش حجاب المرأة بدلا من أن يناقش تطوير صناعة الاعتماد على النفس ؛ لنظل فى حالة دوران حول أنفسنا عبر أحزاب من ورق تنحنى للسراى أو السفارة ثم تتناحر وتتنافر على اللاجدوى، إلى أن قامت ثورة يوليو . لم أسمع رأى حجازى فى أن تشجيع الولاياتالمتحدة للهوس المرتدى عباءة سطحية من فهم خاطئ للإسلام، فهو عملية تكرار للخديعة التى مارستها الولاياتالمتحدة من قبل لشباب مصرى وسعودى ومغاربى وجزائرى كى يخوضوا حربا لهزيمة السوفييت فى أفغانستان، ثم قهرهم من بعد ذلك ليرتكبوا حماقة لم يعرفوا أن من أثارها هو إعادة السيطرة على بلادهم بأجمعها، وأعنى بذلك حكاية الحادى عشر من سبتمبر 2001 ، فقد كان ضرب برجى التجارة العالمية بنيويورك هو إيذان بإثارة الرعب فى الخليج وبيع الفائض من التسليح له، وإعادة احتلاله سواء بقاعدة العديد فى قطر أو بزيادة القوات فى بقية القواعد الأخرى بالجزيرة العربية. لم أسمع رأى حجازى الرسام فيما جرى فى ليبيا، فهو وأنا وكل من له علاقة بخريطة الأمة العربية كان يعلم أن القذافى مريض نفسيا تسرب من فضاء فصام الشخصية ليجلس فى القصر الرئاسى بليبيا، وأن الولاياتالمتحدة كانت قد رسمت له - كما رسمت لغيره - سيناريو عليه أن يتحرك فى تنفيذه ليجد نفسه فى مواجهة نهايته. ومن المؤكد أن حلم العروبة إن صحا من نومه وشكوكه وألقى بعيدا عنه أثقال عدم الثقة، من المؤكد أن هذا الحلم يمكن أن يحقق للعرب تنمية جادة، وقدرة على صناعة سلاح بدلا من استيراده . وحماية الثروات الثمينة من ألا تضيع كثمن لما لا نستهلكه . ولابد أن روح حجازى تسخر الآن ممن يؤمنون أن الاقتصاد الحر المستنزف لعموم البشر هو الطريق إلى الرغيف والبيت، لأن أصحاب هذا الاقتصاد فى العالم الغربى يثورون فى مدنهم ضد هذا الاستنزاف لهم، وأن مصالح حكوماتهم تبيع لهم حروبا جديدة فى المنطقة العربية من أجل استنزاف مدخرات العرب، تلك المدخرات التى بلغت عند حاكم واحد هو القذافى مائة وأربعين مليار دولار كانت كافية لتنمية الشمال الأفريقى بأكمله ومعه كل من سوريا ولبنان . ولكن كان على هذا الحاكم أن يلقى نفس مصير صدام لأنه لم يلتفت إلى أن الثروة عبء ما لم يحسن استخدامها فى بناء مجتمع عربى متآلف، ولكن القذافى - مثل غيره من حكام العرب - استمرأ البقاء ذليلا فى جيب السروال الأمريكى . ولعل مغادرة حجازى لنا فى تلك الأيام هى قمة التمرد على البقاء فى جيب هذا السروال العفن . روح حجازى رسام الكاريكاتير تطلب منا ألا نتنافر فهناك أجيال ترغب فى أن تعيش بكرامة، والطريق إلى تلك الكرامة عليه الانتباه إلى مغامرات ومؤامرات الاستعمار الجديد الذى تديره إمبراطورية شر مكونة من الشركات المتعددة الجنسيات وحكومات بلاد ترغب فى بقاء تعداد الثمانين مليون إنسان مصرى فى حالة تنافر لا حالة تماسك . ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد، وأنت تضم فى رحاب جنتك الآن روح متصوف عاشق لكرامة البشر.