قرية الغُصنة الواقعة فى مركز المطرية بمحافظة الدقهلية، وتبعد عن القاهرة العاصمة بنحو 200 كيلو متر، واحدة من المناطق القليلة الشهيرة بصناعة القوارب أو المراكب، حيث اقترنت بها هذه الحرفة منذ 400 سنة. .............................................. عُرفت صناعة القوارب فى مصر، منذ عهد الفراعنة، حيث حُفرت رسومها على جدران المقابر والمعابر، كما عُثر على مراكب الشمس بجوار هرم خوفو الأكبر فى منطقة أهرامات الجيزة والتى بلغ طول الواحد منها نحو 44 مترًا، كذلك يوجد ما يسمى بالمراكب الجنائزية التى ارتبطت بعصر الدولة المتوسطة. يقول عمرو الغوبارى (-صاحب ورشة لتصنيع المراكب- إن هذه المهنة طرأ عليها مراحل عدة للتجديد، فمنذ 30 عامًا دخلت مادة الفايبر جلاس فى التصنيع بعد أن كان الخشب عاملًا محوريًا فى صناعة المراكب. والغوبارى (33 عامًا) والذى يحمل شهادة متوسطة-دبلوم صنايع- يعمل فى مهنة تصنيع المراكب منذ نعومة أظافره، فقد ورثها أبًا عن جد، وعمل فى ورش خاصة بالآخرين، حتى أصبحت له ورشته الخاصة، وفريق عمله من عمال القرية. ويعمل نحو %60 من رجال قرية الغُصنة فى الورش الخاصة بتلك الصناعة. ويلفت الغوبارى إلى أن استيراد القوارب الفايبر جلاس من الخارج انتشرت منذ عدة سنوات، ويتم جلبه جاهزًا من الإمارات وقطر، واليابان، مشيرًا إلى أن سعره مرتفع حيث يصل سعر النوع الخليجى إلى نحو 70 ألف ريال سعودى. ومادة الفايبر جلاس يتم تصنيعها من قماش مصنوع من الألياف الزجاجية والتى يتم تشريبها بمادة البولى استر المعالج هو الآخر بألياف زجاجية ليعطى فى النهاية مادة خامة أو صلبة تعادل الاستيل فى صلابته وقوته. ورغم ارتفاع سعر تلك القوارب المستوردة، وكذلك عدم اتساق تصميمها مع ارتفاع مياه البحار فى مصر، إلا أنها وجدت إقبالًا عليها أثر على حركة التصنيع فى قرية الغصنة، وغيرها من القرى بشكل سلبى، مما أدى إلى انصراف جزء كبير من العمال إلى البحث عن فرص عمل فى الحقول وكذلك لجوء البعض منهم إلى الهجرة الداخلية إلى المدن الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية.ويشير الغوبارى إلى أن أصحاب الورش فى قرية الغُصنة فطنوا إلى فكرة استيراد قارب من الخارج، وتقليده، مؤكدًا أنهم نجحوا بالفعل لأنهم يملكون الخبرة والأيدى العاملة الماهرة، ليس هذا فحسب بل أخرجوا منتجًا يصلح للاستخدام فى المياه المصرية، وبارتفاعات ومقاييس تناسبها، كما أن تكلفة صناعته كانت لا تقارن بالسعر المستورد، حيث يكلف القارب الواحد نحو ربع سعر القارب المستورد. واستطاع القائمون على تلك الصناعة بتقليدهم لقوارب الفايبر جلاس المستوردة أن ينعشوا تجارة القوارب مرة أخرى. ويستغرق تصنيع القارب مدة زمنية تختلف باختلاف طوله وعرضه، فالقارب الذى يبلغ طوله نحو 5 أمتار، وعرضه متران يستغرق نحو أسبوع، أما القارب الذى يبلغ طوله 27 مترا وعرضه 5 أمتار ونص المتر يستغرق نحو 20 يومًا. وعن مراحل تصنيع القوارب التى يدخل فى صناعتها الخشب وهى الأكثر شيوعًا يقول الغوبارى ل”الأهرام”، تدخل أنواع عدة من الأشجار فى صناعة القارب، فالعمود الفقرى للقارب يُصنع من خشب أشجار الكافور والتوت، ويتكون من أربعة قطع واحدة عند موتور القارب والأمامية عند ما يسمى بالبدن أو الجسد، ويصنعان من أشجار الكافور لصلابته وقوة تحمله، ثم قطعتان على الجانبين ويصنعان من خشب التوت، والذى يتميز بالشكل المنعوج ولا يصاب بالتشرخ، لافتًا إلى يتم تغليف القارب من الجوانب من سقالات بيضاء من الخشب السويدى ويتم استيراده من السويد، حيث ينمو فى الغابات. الحاج محمد إبراهيم، صاحب مخزن للأخشاب التى تدخل فى صناعة القوارب، ويملك ورشة كذلك لتصنيعها، يقول ل"الأهرام" نضطر إلى وضع قطع الأشجار فى المياه الراكدة فى حالة واحدة، إذا تم قطع جزء من هذه الشجرة ولم نكن فى حاجة إلى ما تبقى منها قريبًا، فأنه لا يجب تركها فى الهواء الطلق حتى لا تتعرض للتسوس، والذى يؤدى بها إلى عدم صالحيتها فيما بعد، أما لو كانت الشجرة كاملة فلا يوجد ضرر من تعرضها للشمس والهواء. ويقول ابراهيم (55 عامًا)، والذى بدأ صناعة القوارب منذ 14 عامًا، إن أبيه كان تاجر أخشاب، وورث عنه هذه المهنة، ولكنه أعجب بصناعة القوارب، فاختارها مهنة له، لافتًا إلى أن ما يميزه هو خبرته فى أنواع الأخشاب وكيفية اختبارها لاختيار الأجود منها. تدخل فى صناعة القوارب أشجار التوت والسنط والكافور واللبخ، ويتم جلبها من محافظات شمال مصر مثل المنوفية والقليوبية، والشرقية، وكذلك من الجنوب حيث محافظات الصعيد. الحج إبراهيم يشير إلى أنه فى السنوات البعيدة كان الاعتماد الكلى على ما يزرعه الفلاحون من أشجار على حواف الحقول والترع، ولكن مع الوقت أصبح الانتاج غير كافيًا حيث تحتاج هذه الأشجار إلى سنوات حتى تكون كاملة النمو، ما أدى إلى حدوث حالة ازدهار لزراعة أشجار التوت والكافور وهى تعتبر غير مثمرة، فى مزارع خاصة بغرض الصناعة، ويتم بيع الطن الواحد منها بنحو 100 دولار أمريكى ويصل ويمكن أن يصل وزن الشجرة الواحدة منها نحو 15 طن مثل شجر الكافور ولكن هناك ثمة مشكلات تواجه تلك الصناعة، وليس جديدًا أن يكون ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه المصرى، هو أحد العوائق التى تواجه أصحاب الورش عند استيراد الأخشاب من الخارج، ولكن عدم وجود جيل آخر من أسطوات المهنة مستقبلًا أصبح هو المشكلة الأكبر والأهم، مما يعرض المهنة للإنقراض. ويشير الحج إبراهيم إلى أن نقص العمالة هى أكثر المشكلات التى تواجهها ورش صناعة القوارب، حيث اتجهت معظم العائلات إلى تعليم أبناءهم فى الجامعة، مما جعل لديهم طموحًا للعمل بوظائف حكومية تمنحهم استقرارًا ماديًا، أو العمل فى شركات خاصة أو حتى السفر إلى دول الخليج والدول الأوربية للبحث وراء المال والوجاهة الاجتماعية. ويشير الغوبارى ل"الأهرام" إلى أنه لن يقوم بتعليم أطفاله حرفة صناعة المراكب والتى أصبح خبيرًا فيها أو بلغة السوق "أسطي"، لافتًا إلى حلمه فى حصول أبنائه على شهادات جامعية، وأن يعملون فى مهن مرموقة تجعلهم يعيشون فى مستوى اجتماعى ومادى أفضل مما يعيشه هو. ويتقاضى العامل فى ورش صناعة القوارب نحو 200 جنيه يوميًا، ويقضى نحو 8 ساعات عمل فى اليوم الواحد، بينهما ساعة راحة. المعلم حسنى أحد العمال فى ورش صناعة القوارب، و الذى عمل بها منذ أن كان طفلًا يلفت إلى أن أجره اليومى لا يكفى لتوفير احتياجات أسرته، لافتًا إلى أن هذه الحرفة تحتاج إلى مزيد من الجهد والصبر وليست بالسهلة، حيث يستخدم أدوات يمكن أن تسبب له إصابات خطيرة مثل المنشار الكهربائى والفأرة الكهربائية التى تستخدم فى تنعيم الخشب، حيث يؤكد أنه لا توجد أية ضمانات تكفل له حياة كريمة فى حالة إصابته.