والسؤال إذن: لماذا هو مطلوب؟ ورد إلى ذهنى هذا السؤال إثر قراءة ثلاثة مؤلفات لاثنين من الصحفيين أحدهما له كتابان: عنوان الأول «أصحاب أفكار» (1978) وعنوان الثانى «اعترافات فيلسوف» (1997). ومؤلفهما اسمه بريان ماجى مذيع وعضو برلمان فى انجلترا. أما الصحفى الآخر فاسمه نيكولاس فيرن صحفى إنجليزى أيضا وله كتاب عنوانه «الفلسفة» (2005). والدافع وراء إصدار هذه المؤلفات ردم الفجوة بين الفلسفة والجماهير. وقد بدأ هذا الردم مع سقراط فى القرن الرابع قبل الميلاد. إلا أن هذه البداية كانت هى النهاية وذلك بسبب الحكم على سقراط بالاعدام لأنه تجاسر وحاور الجماهير فى الأسواق الأمر الذى أفضى إلى إدخال السلطة السياسية فى زنقة إيقاظ الجماهير من سباتهم الدوجماطيقى وهو على غير ما تريده هذه السلطة. ومن يومها والفلسفة سجينة الأسوار فى الجامعات. وفى القرن العشرين استعاد سارتر ذلك الردم عندما ألف قصصاً ومسرحيات تعبر عن فلسفته. إلا أنه لم يحدث تراكم لهذه التجربة السارترية فماتت مع موت صاحبها. ومع ذلك فالذى لم يمت هو حاجة الجماهير فى هذا الزمان إلى التفلسف بسبب الثورة العلمية والتكنولوجية التى أفرزت ظاهرة «الجماهيرية» ومنها ظاهرة الإنسان الجماهير. وكان من شأن بزوغ هاتين الظاهرتين أن أصبحت الجماهير فى حاجة ملحة إلى أن تتفلسف. أبدأ بالكتاب الأخير المعنون «الفلسفة» وأكتفى به فى هذا المقال، ومؤلفه نيكولاس فيرن يعبر عما يشعر به من ألم لأن الفلسفة لم تعد ثورية على نحو ما كانت عند عظماء الفلاسفة مثل أرسطو فيلسوف أثينا فى القرن الرابع قبل الميلاد أو كانط فيلسوف ألمانيا فى القرن الثامن عشر أو فتجنشتين فيلسوف انجلترا فى القرن العشرين. ثم راح يحكى عن خمس ثورات حدثت فى تاريخ الفلسفة. الثورة الأولى حدثت فى أثينا وقيل عنها إنها ثورة العقل من أجل قنص الحقيقة المطلقة التى عثر عليها الفلاسفة الطبيعيون فى القرن السابع قبل الميلاد وقالوا عنها إنها المادة واختلفوا حول كنهها فقيل تارة إنها الماء وتارة أخرى إنها الهواء وتارة ثالثة إنها النار. وجاء أفلاطون فى القرن الرابع قبل الميلاد وقال عنها إنها فى عالم آخر غير هذا العالم الذى نعيش فيه. والثورة الثانية حدثت فى القرن الثامن عشر وجاءت على النقيض من الثورة الأولى إذ أعلن فيها فيلسوف ألمانيا كانط أن المسألة الأساسية فى الفلسفة ليست فى العالم الطبيعى ولا فى عالم مفارق لهذا العالم إنما هى فى الانسان أو بالأدق فى عقله فتناوله بالتحليل فى مؤلفاته وانتهى إلى أن هذا العقل عاجز عن قنص الحقيقة المطلقة ولكنه فى الوقت نفسه لا يكف عن البحث عنها دون أن يجدها. والثورة الثالثة حدثت فى زمن الثورة الثانية التى قام بها كانط وكان فيها متأثراً بتلك الثورة التى قادها فيلسوف اسكتلندى اسمه هيوم وتدور حول التشكيك فى قدرة العقل على الوصول إلى اليقين المطلق ومن هنا آثر أن يبقى فى مجال يتسم بأن أى ظاهرة ممكن أن تحدث وممكن ألا تحدث. والثورة الرابعة أشعلها فيلسوف ألمانيا هيجل فى القرن التاسع عشر إذ لم يكن يعنيه معرفة الإنسان على ما هو عليه الآن بقدر ما كان يعنيه ماذا يكون عليه فى مستقبل الأيام، أى أن ما كان يعنيه هو التطور. أما الثورة الخامسة والأخيرة فقد قام بها فيلسوف النمسا فتجنشتين عندما وضع حداً لتجاوزات العقل وذلك بسبب اكتشافه أن للغة حدوداً ليس فى الإمكان تجاوزها وبذلك توارت الحقيقة إذ لم تعد لها وجود لا فى السموات ولا فى العقل ومن ثم لم يبق سوى قواعد اللغة التى يلزم الانشغال بها. وقد تأثر رسل بتلميذه فتجنشتين عندما أثار هذا السؤال: إذا كانت العلوم قد استقلت عن الفلسفة فماذا يبقى للفلسفة إذا أريد لها الحياة؟ وكان جوابه على النحو الآتي: لقد عثرت على مؤلفات الفلاسفة فى غرفة مكتوباً على مدخلها «نحن لا نعرف شيئاً». وأظن أن هذه العبارة قد أدت إلى عبارة أخرى تشى ببزوغ عصر جديد قيل عنه إنه «عصر ما بعد الحقيقة». وإثر الانتهاء من قراءة ذلك الكتاب للصحفى المتفلسف نيكولاس فيرن دارت فى ذهنى الفكرة الآتية: إذا كان عصر الجماهير يستلزم أن تكون الفلسفة جماهيرية لكى تتمكن من التحكم فى هذا العصر وتمنعه من السقوط فى هاوية الارهاب فيلزم من ذلك أن يكون لدينا صحفيون متفلسفون يؤدون دورهم فى تنوير الجماهير. والمفاجأة هنا أنه إثر انتهائى من صياغة هذه الفكرة رن المحمول فى صباح الخميس الموافق 8/3/2018 وإذا بصوت رقيق يقول: أنا مفيد فوزي. ثم استطرد قائلاً: أريد أن أقتنى مؤلفات ابن رشد. وإثر انتهاء المكالمة: تساءلت: هل فى إمكان الأستاذ مفيد فوزى أن يكون صحفياً متفلسفاً ويؤلف كتاباً يتفلسف فيه فى سياق فلسفة ابن رشد. لمزيد من مقالات ◀ د. مراد وهبة