في عام1983 ورد إلي ذهني السؤال الآتي: كيف تتقدم الحضارة؟ وكان جوابي: بتراكم المعرفة, ويكون من شأن هذا التراكم انتقال المعرفة إلي مرحلة أعلي فيحدث التقدم. والذي دفعني إلي صياغة هذا الجواب علي هذا النحو هو ما شاهدته من مسار كانت نقطة بدايته عام1978 عندما عقدت الجمعية الفلسفية الأفروآسيوية مؤتمرا دوليا في القاهرة بمشاركة الهيئة التنفيذية للاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية تحت عنوان الفلسفة والحضارة وكانت الغاية منه إدخال مفهوم الحضارة أو الثقافة في مجال الفلسفة بعد أن استبعدته الحركة الفلسفية التي نشأت في فيينا في عام1924 بذريعة أن ذلك المفهوم ليس له مقابل في العالم الحسي, وذلك استنادا إلي مبدأ تلك الحركة القائل بأنه من اللازم التحقق حسيا من أي مفهوم من المفاهيم المتداولة فلسفيا. واستمرارا لعملية إدخال مفهوم الحضارة أو الثقافة في مجال الفلسفة عقدت الجمعية الفلسفية الأفروآسيوية مؤتمرها الثاني في نيروبي بكينيا تحت عنوان الفلسفة والثقافات. وقد تأثر الاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية بهذه الفكرة فاقترحت الهيئة التنفيذية أن ينعقد المؤتمر العالمي السابع عشر في مونتريال بكندا في أغسطس1983 تحت عنوان الفلسفة والثقافة, وكان عنوان بحثي الثقافة كايديولوجيا, وخلاصته أن الثقافة في أصل نشأتها كانت ايديولوجيا أو بالأدق كانت رؤية مستقبلية ثم تحققت في الواقع فأصبحت ثقافة ثم انزلقت الثقافة في اتجاه الماضي فتحولت إلي تراث. ومع تطور الواقع يلزم تكوين رؤية مستقبلية جديدة, وهكذا. والغاية من هذه التحولات ألا يقف الانسان عند التراث بل يلزم تجاوزه من أجل مواصلة التطور. ومع ممارسة هذه التحولات يمتنع العقل عن السقوط في براثن الدوجماطيقية التي تعني توهم امتلاك الحقيقة المطلقة. إلا أن العقل لن يقف عند حد الامتناع بل يتجاوزه إلي التنوير الذي يعني ألا سلطان علي العقل إلا العقل ذاته. ومن هنا يتسم العقل بجرأة التحرر. ومن هنا أيضا يكون مغزي عبارة الفيلسوف الألماني العظيم عمانوئيل كانط كن جريئا في إعمال عقلك. واذا توافرت هذه الجرأة لدي النخبة فإننا نعيش عندئذ في عصر التنوير. أما إذا امتدت هذه الجرأة إلي عقل رجل الشارع فإننا نعيش عندئذ في عصر متنور. ومن هنا عقدت مؤتمرا فلسفيا دوليا موضوعه الفلسفة ورجل الشارع في نوفمبر1983, وكان عنوان بحثي حادث بتر في التاريخ. وكنت أقصد ب حادث بتر إعدام سقراط, إذ تسبب هذا الاعدام في انفصال الفلسفة عن رجل الشارع لأن سقراط كان يذهب إلي الأسواق ويحاور رجل الشارع. وهنا مكمن الخطر لأنه إذا تعلم رجل الشارع كيف يتفلسف امتنع بزوغ الطاغية. وبهذا المعني قال سقراط في إحدي محاوراته في إمكان الانسان أن يكون حكيما, ولكن ليس من عادة الأثينيين أن يلتفتوا إلي هذا الانسان إلا إذا بدأ في بث حكمته إلي الآخرين.وقد ترتب علي إعدام سقراط تشتت تلاميذه, فقد غادر أفلاطون أثينا. وعندما عاد إليها بعد اثنتي عشرة سنة شيد أكاديمية وتفلسف والأبواب مغلقة. والفلسفة حتي الآن مازالت تدرس في غرف مغلقة بالجامعات. ولا أدل علي ما أقول من الهجوم الشرس علي المؤتمر إثر انتهائه, إذ استمر لمدة أكثر من شهر في جريدة الأهرام. فقد قيل علي سبيل المثال لا الحصر: إن اختيار رجل الشارع ليكون محل تجارب الفيلسوف المحنك يعني وضع طبيعة ساذجة أو أرض بكر أمام مخالب فكر عويص, وأن هذا المؤتمر يعبر عن الزحف الثقافي الغريب في منهجه وأهدافه عن هذا البلد. والسؤال بعد ذلك:هل في الإمكان إزالة هذا البتر المصنوع بين الفيلسوف ورجل الشارع؟ أو في صياغة أخري: هل في إمكان رجل الشارع التفلسف؟ وأجيب بسؤال: ما أهمية أن يصبح رجل الشارع متفلسفا؟ محاولة الاجابة عن هذه الأسئلة بالايجاب مطلوبة بحكم طبيعة الثورة العلمية والتكنولوجية التي أفرزت ظاهرة الجماهيرية التي تتمثل في مصطلح الثقافة الجماهيرية. وهذه الثقافة هي التي تسهم الآن في التنمية وبالذات التنمية الاقتصادية. فلا تنمية بدون ثقافة جماهيرية, فاذا كانت هذه الثقافة مضادة للتنوير فلا تنمية. وإزالة هذا التضاد ليس ممكنا من غير نخبة متنورة. وإذا أردت مزيدا من الفهم فانظر إلي حال مصر في زمن الاخوان المسلمين: انهيار الاقتصاد مع انهيار الدولة. لمزيد من مقالات مراد وهبة