تميز عام1978 بأنه كان بداية تحول في الفكر الفلسفي مناقض لفكر فلسفي كان قد أنشأته في فيينا جماعة من علماء الفيزياء والرياضة. وكان رئيس هذه الجماعة موريتس شليك(1882-1936) فيلسوف وفيزيائي ألماني اغتاله رميا بالرصاص أحد تلاميذه. قال إن لديه مبررين لاغتياله: المبرر الأول أن فلسفته الحادية, والمبرر الثاني أنه أفسد علاقته مع خطيبته التي كانت إحدي زميلاته. ولكن قيل أيضا إن اغتياله كان بأمر صادر من هتلر بسبب يهوديته. كان شليك في فيينا يلتقي أولئك العلماء مرة كل أسبوع. وكان الحوار يدور حول محاولة تكوين رؤية كونية علمية, ومن ثم استبعدت هذه الجماعة علمين زائفين أحدهما هو علم الميتافزيقا الذي ينشغل بالبحث في خلود الروح ووجود الله, والآخر هو علم اللاهوت الذي يبحث في قضايا العقيدة الدينية. وحجتها في هذا الاستبعاد مردودة إلي أن موضوعات هذين العلمين تقع خارج حدود التجربة العلمية التي هي المعيار الوحيد الذي نحكم به علي مدي صدق أية قضية. أما أنا فقد ارتأيت علي الضد من رؤية علماء فيينا أن ثمة قضايا تقع خارج مجال التجربة العلمية ومع ذلك ينشغل بها العلماء. ولا أدل علي صحة رأيي من أن أحد مشاهير علماء الفيزياء النووية وهو لوي دي بروي(1892-1987) كان قد تقدم برسالة دكتوراه أعلن فيها عن نظريته المسماة ثنائية الموجة والجسيم. وتعني أن كل جسيم تلازمه موجة ولكن ليس في الامكان رؤيتهما معا في آن واحد. واللافت للانتباه أن هذه النظرية عبارة عن معادلات رياضية خالية من أي تجارب معملية. ومن هنا اعترض أحد أعضاء اللجنة العلمية علي صلاحية الرسالة للمناقشة, فاقترح أحد أعضاء اللجنة بإرسالها إلي أينشتين, وكان رده ايجابيا, إذ قال: لقد رفع صاحبها طرفا من الحجاب الكبير. وقد انتهي لوي دي بروي من نظريته الجديدة إلي نظرية أخري أرحب منها تشير إلي أن ثمة أملا في أن يكون مسار الحضارة في حالة تقدم بلا حدود مع تحفظ واحد, وهو أن العلم ليس هو وحده الكفيل بدفع الحضارة نحو التقدم. ومغزي هذا التحفظ هو أنك إذا انشغلت بالتقدم فأنت منشغل بالضرورة بمكونات الحضارة وليس بمكون واحد. وعندما أسسنا الجمعية الفلسفية الأفروآسيوية إثر انتهاء المؤتمر الفلسفي السابع عشر الذي كان قد انعقد في لاهور في أكتوبر من عام1975 فوضني المسئولون عن ذلك المؤتمر بتنظيم أول مؤتمر فلسفي دولي لتلك الجمعية بالقاهرة في مارس.1978 وقد اخترت موضوعا له الفلسفة والحضارة. وكان من بين المدعوين فيلسوفان من كبار الداعين للفلسفة الجديدة التي نشأت في فيينا وهما الفيلسوف البريطاني السير ألفريد إير(1910-1989) والفيلسوف الأمريكي ويلارد كواين(1908-2000) وترتيبه الخامس في سلسلة الفلاسفة العظام في القرن العشرين. وافق إير علي قبول الدعوة دون أن يقدم بحثا لأن الحضارة في رأيه لا تصلح أن تكون موضوعا من موضوعات الفلسفة لأنها تقع خارج مجال التجربة العلمية, واكتفي بأن يكون محاورا. أما كواين فقد رفض الدعوة بحجة أن الفلسفة ليست إلا المنطق والتحليل المنطقي, ومفهوم الحضارة يقع خارج هذا المجال. أما أنا فقد كان عندي مبرران في اختيار لفظ الحضارة. المبرر الأول إدخاله في مجال الفلسفة بعد أن كان محصورا في علم الاجتماع وعلم النفس. والمبرر الثاني أنني قد ارتأيت أنه من واجب الفلاسفة بحث الفجوة الحضارية بين الدول المتقدمة والدول النامية أو إن شئت الدقة الدول المتخلفة. وكان رأيي أن هذه الفجوة مردودة إلي غياب مرحلتين عند الدول المتخلفة وهما سلطان العقل والتزام العقل بتغيير الواقع لمصلحة رجل الشارع. وليس في الامكان توليد هاتين المرحلتين من غير المرور بعصرين وهما عصر الاصلاح الديني الذي يعني إعمال العقل في النص الديني, وعصر التنوير الذي يعني تحرير العقل من كل سلطان ما عدا سلطان العقل. وحجتي في التدليل علي صحة رأيي مردودة إلي أن الحضارة تتحرك من الفكر الأسطوري إلي الفكر العقلاني, إلا أن هذه الحركة تنطوي علي صراع بين ايديولوجيات وتكون الغلبة فيها للفكر العقلاني علي الفكر الأسطوري المتمثل في الحق الالهي للحاكم عندما يعلن أنه مسئول عن تنفيذ شرع الله. وكان هذا الرأي هو تفصيل لعنوان بحثي الايديولوجيات والفلسفة. وبناء عليه فان ثمة سؤال يلزم أن يثار: ما هو المغزي الحضاري لذلك المؤتمر؟ جواب هذا السؤال في المقال القادم. المزيد من مقالات مراد وهبة