ماذا حدث في جلسات المؤتمر الفلسفي الأول الأفروآسيوي الذي انعقد في مارس1978 بالقاهرة؟ في الجلسة الأولي قال رئيس الاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية وأستاذ فلاسفة بلغاريا سافا جانوفسكي لأنه هو الذي علمهم النضال من أجل الماركسية اللينينية, ومن أجل السلام والديمقراطية والتقدم: إن الاتحاد لأول مرة يعقد مؤتمرا اقليميا في القارة الافريقية وفي مصر التي هي من أوائل الحضارات. وموضوع المؤتمر مهم للغاية لأنه يستثير عقول الفلاسفة والعلماء وشعوب الدول كلها بل البشرية برمتها, وهو بيان العلاقة بين الفلسفة والحضارة. أما محيي الدين صابر مدير المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم فقد لفت الانتباه إلي ظاهرة مهمة لها علاقة بالقضية الكبري للفلسفة والحضارة وهي وحدة القيم التي مازالت حلم البشرية. فهذا الحلم يشير إلي الوحدة البيولوجية للبشر أو الوحدة العضوية. ثم هو يشير إلي المعادلة التي بمقتضاها تكون المساواة الاجتماعية في مستوي المساواة البيولوجية, وهي الغاية التي تحاول البشرية تحقيقها منذ بداية وعيها بالحياة الاجتماعية. وفي الجلسة الأولي من جلسات المؤتمر ألقي فيلسوفان آسيويان بحثيهما. كان أحدهما باكستانيا اسمه خواجا غلام صاديق وكان وقتها رئيسا لقسم الفلسفة بجامعة بنجاب بلاهور, وعنوان بحثه الفلسفة في الحضارة الباكستانية, والآخر ياباني اسمهتوشيميستي هسومي أستاذ الفلسفة بجامعة طوكيو وعنوان بحثه الفلسفة في حضارة الشرق الأقصي, وإثر الانتهاء من إلقاء البحثين طلب الفيلسوف البريطاني السير ألفريد إير التعقيب وهو في حالة عصبية, إذ قال: لقد دعاني البروفيسير وهبه للمشاركة في مؤتمر فلسفي فاذا أنا أمام مؤتمر ديني. ولهذا يبدو أن ثمة خطأ في توجيه الدعوة. وقلت معقبا: أظن أن السير ألفريد إير قد قبل الدعوة وهو يعلم أن موضوع المؤتمر برمته مرفوض منه فلسفيا بحكم أنه من دعاة الوضعية المنطقية. وهذا الاتجاه الفلسفي يحصر نفسه في التحليل المنطقي وفي إنكار ألفاظ مثل لفظ الحضارة بدعوي أن ليس لها مقابل في المعطيات الحسية. وقال إير: نعم قبلت المشاركة ولكني قبلتها لا كفيلسوف إنما كانسان تعنيه أمور الثقافة والحضارة. أما بحثي فكان عنوانه الايديولوجيات والفلسفة. والغاية منه بيان أنه من المحال أن يكون البحث العلمي للحضارة مسألة موضوعية بحتة من غير انحياز. والانحياز مردود إلي الايديولوجيا التي تدفعنا إلي انتقاء وقائع دون وقائع أخري, وتأويل هذه الوقائع المنتقاة.وفي هذا الإطار ارتأيت أن الحضارة تتحرك من الفكر الأسطوري إلي الفكر العقلاني. إلا أن هذه الحركة لا تخلو من النكوص. وقد حدث النكوص في الحضارة الاقطاعية التي كانت محكومة بسلطة دينية مطلقة. ومع ذلك فقد واجه هذا النكوص أزمة في العلاقة بين الانسان وأخيه الانسان, بين انسان يحيا في نسق مغلق من الأفكار ضد انسان آخر يريد أن يتحرر من هذا النسق المغلق ليؤسس نسقا مفتوحا فبزغت الحضارة الرأسمالية بمرجعية علمانية. إلا أن هذا البزوغ لم يتحقق إلا بصراع ايديولوجي كانت الغلبة فيه للعقلانية استنادا إلي عصرين: عصر النهضة الذي استعاد العقل المفقود, وعصر التنوير الذي أجهز علي الحق الالهي للحاكم. واللافت للانتباه هاهنا أن فرقة رضا أقامت سهرة ممتعة اذ عرضت بعض رقصاتها المتفردة علي مسرح سيد درويش بلا مقابل. وإثر طبع أعمال المؤتمر تسلمت رسالة من فيلسوف أمريكي اسمه توماس فرنون تحتوي علي ملحوظتين: الملحوظة الأولي أن مؤتمرا من هذا النوع هو بمثابة معلم للفلاسفة المشاركين لأنه يضعهم في مناخ عالمي يسمح لهم بفهم أوسع, الأمر الذي يفضي مع الوقت إلي الاقتراب من نموذج المجتمع العالمي. والملحوظة الثانية أنني قرأت بحث سيد حسين نصر( المستشار الأصولي لامبراطور ايران) بعد قراءة بحثك فأحسست بالفارق الشاسع. إن لدينا طلابا ايرانيين في أقسام الفلسفة بجامعة أركانسس وكلهم بلا استثناء متعصبون تماما في المسألة الدينية. ولكن ما يخيفني هو أن تعثر علي تعصب ديني مختلط بنكهة ماركسية. يالها من خلطة عجيبة. وهنا ثمة سؤال لابد أن يثار: كيف كان وعي الشاه وهو يحارب اليسار في بلده بأصولية دينية تمنحه المشورة ؟ أظن أنه وعي زائف لأنه لم يكن علي وعي وهو يسلك هذا المسلك بأنه يحتضن العدو المتربص بخلعه في اللحظة الحاسمة, وقد جاءت هذه اللحظة بفضل آية الله خوميني. وإذا أردت مزيدا من الفهم فانظر إلي حال مصر في زمن السادات فماذا تري؟ السادات نسخة مكررة من الشاه وكان مصيره مثل مصير الشاه, بل أسوأ. المزيد من مقالات مراد وهبة