كان صاحب الجواب الأول عن سؤال: ما التنوير؟ هو الفيلسوف الألمانى العظيم كانط. وكان جوابه فى إيجاز: التنوير هو الجرأة فى إعمال العقل، وبالتالى الجرأة فى إقصاء الأوصياء على العقل الذين يقتلعون عقل الإنسان من جذوره ويضعون بدلاً منه عقلاً مزيفاً قابلاً للخضوع لما يبدونه من آراء من غير قدرة على النقد، أى يضعون عقلاً دوجماطيقياً، أى عقلاً يتوهم أنه مالك لدوجما، أى مالك للحقيقة المطلقة. وقد أشار كانط إلى هذا الوهم عندما ميَز بين «البحث» عن المطلق دون قنصه، وبين «قنص» المطلق إثر البحث عنه. والوهم هنا يكمن فى تحقيق عملية القنص. والمطلوب من التنوير بعد ذلك إزالة ذلك الوهم. إلا أن هذه الإزالة لم تتحقق إلا لدى هؤلاء الذين كان لديهم تلك الجرأة، وهم النخبة التى قال عنها كانط إنها تشكل «عصر التنوير» وهو عصر ناقص ولكى يكون عصراً مكتملاً يلزم امتداد التنوير إلى الجماهير فإذا امتد فعندئذ يقال عن عصر التنوير إنه «عصر متنور». واللافت للانتباه أن هذا العصر المتنور لم يتحقق منذ القرن الثامن عشر- وهو العصر الذى كان يحيا فيه كانط- حتى بداية القرن الحادى والعشرين. والسؤال إذن: لماذ لم يتحقق؟ ومن هنا يلزم أن نقول عن جواب هذا السؤال إنه الجواب الثانى، وأظن أنه يلزم استخراجه من بنية الثورة العلمية والتكنولوجية التى لم تكن متحققة فى القرن الثامن عشر، وإنما تحققت مع بداية القرن العشرين. والجدير بالتنويه، ها هنا، أن هذه البنية قد أفرزت ظاهرة يمكن أن يقال عنها إنها «الظاهرة الجماهيرية» التى أفرزت مصطلحات جديدة هى على النحو الآتى: ثقافة جماهيرية ووسائل إعلام جماهيرية ووسائل اتصال جماهيرية ومجتمع جماهيرى وإنسان جماهيرى الذى يقال عنه «رجل الشارع». ومن هنا يمكن القول إن رجل الشارع هو جوهر الثورة العلمية والتكنولوجية بل هو جوهر العصر المتنور. والمغزى أنه دون تنوير رجل الشارع فإن الثورة العلمية والتكنولوجية تكون فى الطريق إلى مواجهة كارثة تهدد مصير الحضارة الإنسانية. وقد فطنتُ إلى هذه الكارثة عندما عقدتُ مؤتمراً فلسفياً دولياً بمبنى جامعة الدول العربية تحت عنوان «الفلسفة ورجل الشارع» فى نوفمبر 1983. وقد انفرد هذا المؤتمر دون غيره من المؤتمرات الدولية التى عقدتها فى القاهرة باهتمام وسائل الإعلام الجماهيرية، إذ كرست صحيفة الأهرام صفحتها الفكرية لأكثر من شهر لنشر ما ورد إليها من تعليقات إلا أنها اختارت منها ما هو أقل تجاوزاً لحدود الأدب على حد تعبير مندوب الأهرام الذى زارنى مرتين فى منزلى ليطلب منى الرد بعد الانتهاء من نشر التعليقات. رحبت بالنشر، ولم أرحب بالرد لأن المؤتمر ليس كتاباً من تأليفى إنما هو عبارة عن جملة بحوث ألقاها كبار الفلاسفة الذين دعوتهم وبالتالى يلزم أن يكون الحوار مع هؤلاء الفلاسفة، وهو حوار لن يتحقق إلا بعد نشر بحوثهم فى كتاب يضم أعمال المؤتمر بأكمله وهذا لم يكن متحققاً إثر انتهاء المؤتمر، ومن ثم يكون من العبث التعليق. ومن هنا فقد جاءت التعليقات فى صحيفة الأهرام محصورة فى تشويه فكر صاحب هذا المقال. وقد بلغت ذروة التشويه عندما نشر المفكر المصرى زكى نجيب محمود تعليقه على المؤتمر فى صفحة بأكملها بتاريخ 23/1/1984 تحت عنوان «وإذا الموءودة سئلت؟». والموءودة هى هيباتيا الإسكندرانية التى نذرت حياتها فى القرن الرابع الميلادى للتوفيق بين العقيدة المسيحية والفلسفة اليونانية الوثنية فذبحتها الجماهير بأمر من السلطة الدينية. وقد اختتم مقاله بما قالته له عندما التقاها فى أحد أحلامه: «إن أصدقاءك الأعزاء قد ذبحوا الفلسفة ذبحاً، أو قل إنهم خنقوها بتراب الشارع». والسؤال بعد ذلك: لماذا أسرع هؤلاء المعقبون إلى تشويه صورة صاحب هذا المقال قبل نشر بحوث المؤتمر؟ سبب ذلك، على نحو ما أرى، مردود إلى ضرورة إقصاء الفلسفة عن رجل الشارع لأنه إذا استنار فلا يمكن التمكن منه بأي أفكار متخلفة، أو بالأدق بفكر الإخوان المسلمين الذى كان سائداً فى ذلك الزمان. والذى لم يمكن من مصلحته عقد مؤتمر يكون عنوانه «الفلسفة ورجل الشارع»، والإرهاب هو محصلة التكفير مع القتل. ومن هنا نقول إن الإرهاب هو أعلى مراحل الأصوليات الدينية. ومن هنا نقول أيضاً إننا إذا أردنا القضاء على الارهاب فإنه يلزم القضاء أولاً على هذه الأصوليات إلا أن ذلك لن يتحقق إلا إذا كنا فى «عصر متنور» يضم النخبة ورجل الشارع على حد سواء، ولكن بشرط أن يكون محكوماً بفلاسفة جماهيريين. وفى عام 1997 صدر كتاب لفيلسوف بريطانى اسمه بريان ماجى عنوانه الرئيسى «اعترافات فيلسوف» وعنوانه الفرعى «رحلة فى الفلسفة الغربية» جاء فيه أن موجات الأفكار الفلسفية الجديدة مثارة الآن فى المجلات الشهرية إلى الحد الذى أصبحت فيه هذه المجلات جماهيرية. أما إذا تفاعلت القتوات الفضائية على مستوى كوكب الأرض مع جماهيرية الفلسفة فإننا نكون فى الطريق إلى وضع قادم اسمه «العصر المتنور». لمزيد من مقالات ◀ د. مراد وهبة