قد يبدو غريبا إثارة مثل هذا السؤال. فقد بدأت الفلسفة بالفيلسوف اليوناني طاليس في القرن السادس قبل الميلاد فماذا جرى حتى يثار هذا السؤال الآن؟ إلا أن الغرابة تزول إذا عرفنا أن العلوم الطبيعية الحديثة نشأت في القرن السابع عشر وهىفى حالة انسلاخ من الفلسفة. ثم بدأت العلوم الانسانية تفكر في الانسلاخ أيضاً في القرن التاسع عشر. ولم يبق في مجال الفلسفة سوى اللغة. ولكن حتى هذه بدأت هي الأخرى تفكر في الانسحاب مع الربع الثاني من القرن العشرين.فقد قال الفيلسوف البريطاني من أصل نمساوي لودفيج فتجنشتين ( 1889- 1905): «وداعاً للفلسفة التي كانت تنشغل بالبحث عن التدليل على وجود الله وعن التدليل على خلود الروح. وكذلك وداعاً للفلسفة التي كانت تتوهم أنها قادرة على قنص الحقائق المطلقة. والنتيجة المترتبة على ذلك كله أن الفلسفة الحقة هي الخالية من القضايا الفلسفية». ومن هنا اختتم فنجنشتين أحد مؤلفاته بهذه العبارة «حيث يكون الكلام ممتنعاً يكون الصمت واجباً». والسؤال بعد ذلك: ماذا يكون مصير الفلسفة؟ جاء الجواب عن هذا السؤال في كتاب صدر عام 1996، أي بعد عام من الجدل الذى أُجرى بين الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتى وفلاسفة آخرين في عام 1995. أما كتاب 1996 فقد كان عنوانه «ما بعد الفلسفة: نهاية أم تحول» وهو عبارة عن جملة أبحاث لفلاسفة من مختلف التيارات، ويأتي في مقدمهم رورتى أيضا الذى هجر الفلسفة ورحل إلى الأدب. والتيارات عددها ثلاثة وهى مثارة على هيئة أسئلة ثلاثة: هل الفلسفة عبارة عن تأويلات ليس إلا؟ هل هي نظرية في اللغة وألاعيبها؟ هل هي برج بابل؟ وإذا كانت كذلك هل في امكان هذا البرج أن يفضى إلى حوار فلسفى خلاق؟ وقد قيل عن هذه الأسئلة الثلاثة أنها وُلدت من نقد فلسفة الفيلسوف الألماني العظيم كانط من القرن الثامن عشر. فإذا كان هذا الفيلسوف قد تميز بإعلان استقلال العقل بعيداً عن الوصاية سواء كانت وصاية دينية أو سياسية، كما تميز بنتيجة لازمة من هذا الاستقلال وهى استقلال الانسان من حيث هو ذات عاقلة فإن نقده قام به فلاسفة كُثر في مقدمتهم فرويد، إذ أضاف إلى الذات العاقلة الذات اللاعاقلة التي هي الأصل. وعبَر عن هذه الاضافة بمصطلحين هما «الأنا والهو». والهو هو جملة غرائز أما الأنا فهو جزء من الهو، ولكنه وحده يواجه العالم الخارجي بما فيه من محرمات ثقافية. ومن ثم تكون مهمته عدم السماح بإشباع الغرائز إلا بما يتفق وهذه المحرمات. ثم جاء ماركس وأضاف نقداً آخر بناء على تعريفه للإنسان بأنه «جملة علاقات اجتماعية». ومغزى هذا التعريف أن الوجود الاجتماعي للإنسان هو الذى يحدد وعيه الاجتماعي. وبناء عليه فإن الفلسفة تتحول إلى أن تكون هي علم الاجتماع. وأخيرا قُضى على الفلسفة بالضربة القاضية من الفيلسوف الألماني نيتشه عندما أعلن أن اللغة مملوءة بعبارات بلاغية، ومن ثم تتحول النصوص الفلسفية إلى نصوص أدبية، ويتحول الفيلسوف إلى أديب. وفى هذا الاطار حاول رورتى انقاذ الفلسفة البرجماتية الأمريكية وذلك بتحويلها إلى «ثقافة ما بعد الفلسفة» ويكون من شأنها تحرير الفلسفة من اليقين، أي من البحث عن أسس ونهايات مطلقة، أي تحريرها من أفلاطون الذى أول من دعا إلى انشغال الفلسفة بمطلقات ثلاثة: الحق والخير والجمال. والسؤال بعد ذلك: هل بديل الفلسفة نهايتها أو تحولها؟ جوابي أن البديل ليس هو نهاية الفلسفة أو تحولها إنما البديل هو تذكر الفلاسفة لمهمتهم الأصلية التي من أجلها نشأت الفلسفة.وإذا قيل عن طاليس إنه أبو الفلسفة فهو لأنه أراد أن يؤسس رؤية كونية علمية بديلاً عن الرؤية الكونية الأسطورية التي كانت متحكمة في العقل الإنساني. ومن هنا فإن أهمية طاليس مردودة إلى أن رؤيته قد أحدثت تأثيراً فيمن جاءوا من بعده وساروا في اتجاهه مع تباين آرائهم ولكنهم في النهاية أُطلق عليهم «الفلاسفة الطبيعيون» أي الذين يكتفون بالطبيعة ولا يتجاوزونها إلى «ما بعد الطبيعة» إلا أن التجاوز قد تم عند أفلاطون ومن ثم انحرفت الفلسفة عن مسارها الطبيعي. هذا ما حدث للفلسفة ما قبل الميلاد، أما ما حدث بعد الميلاد فقد تبلور في القرن الثامن عشر عندما أسس كانط «رؤية كونية» تستند إلى شعار «كن جريئاً في إعمال عقلك» لأنك لا تملك سواه. ثم قيل عن هذا الشعار إنه شعار «عصر التنوير» الذى كان يخص النخبة، ولكن بقى بعد ذلك أن يتحول عصر التنوير إلى عصر متنور وذلك بأن يمتد التنوير من النخبة إلى رجل الشارع من حيث هو محصور في عقله الأسطوري. والمطلوب تحريره من هذا العقل. وهذه هي مهمة الفلسفة في القرن الحادي والعشرين. ومن غير الانشغال بهذه المهمة تنشأ علاقة عضوية بين ذلك العقل الأسطوري والارهاب على مستوى كوكب الأرض، ومن ثم تصبح هذه العلاقة كوكبية، وعندئذ لا تقف النهاية عند الفلسفة بل تمتد إلى كوكب الأرض. والسؤال بعد ذلك: هل في إمكان ابن رشد المساهمة في منع هذه النهاية المأساوية؟ لمزيد من مقالات مراد وهبة