علاقتى بالتنوير بدأت فى المرحلة الجامعية الأولى حين كنت فى السنة الثانية بقسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة الآن) فى أكتوبر من عام 1944. وفى أحد أيام شهر يونيو عام 1945 التقيت أستاذى يوسف كرم بمعهد الدراسات الشرقية للآباء الدومنيكان بالعباسية بالقاهرة وكان فى حينها أستاذاً للفلسفة بجامعة الاسكندرية. وفى عام 1946 أرسلت إليه بحثا أعددته خصيصاً له وكان عنوانه «كانط والميتافزيقا». وكانط هو فيلسوف التنوير فى القرن الثامن عشر ألمانى الجنسية ويعد من أعظم فلاسفة البشرية. كتاباته عسيرة الفهم، ولا أدل على ذلك من أنه نشر موجزاً لكتابه «نقد العقل الخالص» يوضح فيه للفلاسفة ما هو غامض. وفى 18 ديسمبر 1946 تسلمت من أستاذى رسالة تعليقاً على بحثى جاء فى مفتتحها الآتي: «قرأت بحثك وإنى أهنئك فقد بذلت مجهوداً ظاهراً فى تفهم كانط وتلخيصه. ولقد فهمته جيداً وجاء تلخيصك دقيقا وإن لم يخل من الغموض». ثم توالت تعليقاته على البحث صفحة صفحة. وبعد ذلك قرأت مقالاً كان قد نشره كانط فى عام 1784 بعنوان «جواب عن سؤال: ما التنوير؟». فكرته المحورية رفع الوصاية عن العقل سواء جاءت الوصاية من سلطة دينية أو سلطة سياسية، وفى الحالتين من الوصاية فإن العقل يمتنع عن آن يكون سلطان ذاته، ومن ثم يمتنع التنوير. ومن هنا يلزم رفع الوصاية لقنص التنوير. إلا أن هذا الرفع لن يكون ممكناً إلا إذا كانت لدى العقل الجرأة فى تأدية ذلك الرفع، وهذه الجرأة لن تكون ممكنة إلا إذا أفاق العقل من سباته الدوجماطيقي، أى من نومه الذى يحلم فيه أنه مالك للحقيقة المطلقة. وقد كان لعقل كانط هذه الجرأة فأفاق ثم دعا الآخرين إلى هذه الإفاقة، وقد كان، إذ شاع التنوير فى ألمانيا وفى فرنسا إلى الحد الذى لا يقولون فيه فلاسفة التنوير إنما يقولون «الفلاسفة» وكفي. وكان من شأن إشاعة التنوير قيام الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية. وإذا كان للثورة قانون فقانونها أن لكل ثورة ثورة مضادة. وقد اشتعلت الثورة المضادة عندما استولى هتلر زعيم الحزب النازى على السلطة فى 30 يناير 1933. ومع صعود النازية فى ألمانيا صعدت الفاشية بقيادة موسولينى فى ايطاليا. وكان الفضل فى إفرازهما مردوداً إلى بزوغ مدرسة أُطلق عليها «مدرسة فرنكفورت» أو «معهد البحوث الاجتماعية» بقيادة فيلسوفين يهوديين هما: »تيودور أدورنو(1903-1969) وماكس هوركهيمر(1895-1973). نشرا معاً كتابهما العمدة لهذه المدرسة وعنوانه »ديالكتيك التنوير« (1944). فكرته المحورية أن التنوير ليس إلا خداعا للجماهير لأنه يستند الى ثقافة شعبية هى عبارة عن مصنع لانتاج سلع ثقافية نمطية مثل الأفلام والبرامج الاذاعية والمجلات، والتى كان من شأنها تحويل المجتمع الجماهيرى إلى مجتمع استهلاكى يفرز ملذات عابرة واحتياجات زائفة فى ظل نظام رأسمالى، وأن التنوير على الرغم من أنه هو المسئول عن التقدم الاجتماعى والثقافى والمادى فإنه فى طياته تكمن بذور التراجع إلى أشكال بدائية مضادة للحضارة. وعلى الرغم من أن العقل هو الفكرة المحورية وأنه أساس الحرية والعدالة والحقيقة بحيث تبدو هذه الأفكار وكأنها متجذرة فى العقل فإن التنوير سرعان ما سقط فى الشك إلى الحد الذى لم يبق فى العقل شيئا من اليقين، ومن ثم تحول إلى اللاعقل. ولا أدل على ذلك من أن هوركهيمر نشر مقالاً عنوانه «نهاية العقل» ثم كتاباً عنوانه «أفول العقل» وفيهما يقرر أن المفاهيم الأساسية للحضارة فى حالة تآكل. ثم انضم إليهما فيلسوف ألمانى ثالث اسمه جورجن هابرماس مدافعاً عن ثقافات ما قبل الحداثة التى تعادى العلمانية بعد أن كان مدافعاً عن الحداثة وعن علمانيتها وعن وضعها للعقل فى الصدارة وذلك فى كتابه المعنون «الخطاب الفلسفى للحداثة» (1985). ومعنى ذلك أن هابرماس قد انقلب على ذاته. وقد جاء هذا الانقلاب مواكباً لزيارته لايران بدعوة رسمية أعلن بعدها أنه من المشروع إقامة «حكومة الله» وأن هذه المشروعية تمنعنا من اتهام إيران بأنها ثورة دكتاتورية.والمفارقة هنا أن الاتحاد الدولى للجمعيات الفلسفية قد دعاه لالقاء المحاضرة الافتتاحية للمؤتمر الفلسفى العالمى الثامن عشر ببرايتون بانجلترا فى عام 1988. وكانت هذه المحاضرة رمزاً على بداية انزلاق الاتحاد العالمى نحو الاتجاه المضاد للتنوير. وفى عام 1990 دعوت رئيس الاتحاد إفاندرو أجاتسى للمشاركة فى ندوة بالقاهرة عنوانها «التنوير والثقافة»، وكان عنوان بحثه هو عنوان الندوة ذاتها. فكرته المحورية الدعوة إلى تنوير جديد يتجاوز تنوير كانط بدعوى أن هذا التنوير يتخذ من العقل معياراً أوحد لتقدم العلم و التكنولوجيا، وبالتالى فإنه يستبعد التراث فى حين أن التراث أيا كانت ملته فيه من الحكمة ما يرقى إلى الأسطورة التى من الممكن أن تلهمنا باتجاهات جديدة إزاء الواقع. وبهذا المعنى يمكن القول إن أجاتسى يمتنع عن المفاضلة بين تراث وآخر كما يمتنع عن المفاضلة بين التناقضات فى تراث بعينه. مثال ذلك: لدينا فى التراث الاسلامى ابن تيمية وابن رشد والأول يكفر الثانى ويقصيه. ولدينا فى التراث كذلك الوهابية وحركة الاخوان المسلمين اللتان تستندان إلى ابن تيمية وأغرقت أوروبا فى الارهاب وكانت ألمانيا هى أول بلد يلجأ إليه الاخوان المسلمون فى نهاية الخمسينيات من القرن الماضى بقيادة سعيد رمضان زوج ابنة حسن البنا. وبعدها توالى الزحف إلى بلدان أوروبية أخري. وإثر ذلك شاع مصطلح «الاسلاموفوبيا» أى الرعب من المسلمين. ومن هنا أهمية زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسى لألمانيا فى يونيو 2015، إذ تنطوى على سؤال محوري: ما هو مستقبل الارهاب فى ألمانيا بوجه خاص وفى أوروبا بوجه عام؟ لمزيد من مقالات مراد وهبة