«يزهو انسان هذا القرن بأن له عدواً، وبأن عداوته ترقى إلى حد الاعلان عن ضرورة إبادته، وهو على وعى بأنه وهو يبيده إنما يبيد الحضارة». دارت فى ذهنى هذه العبارة وأنا أقرأ كتاباً كان قد أصدره فيلسوف بريطانى اسمه كارل بوبر فى عام 1945، أى إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية تحت عنوان «المجتمع المفتوح وأعداؤه»، وكان يقصد أفلاطون من القرن الرابع قبل الميلاد وهيجل وكارل ماركس من القرن التاسع عشر الميلادي. وكان يرى أن الثلاثة معادون للحضارة. والمفارقة هنا أن عدو الحضارة ليس هو رجل الشارع إنما فيلسوف. ومن هنا جاءت عبارته الأولى من مقدمة كتابه على النحو الآتى: إن هذا الكتاب يثير مسائل قد لا تكون واضحة فى الفهرست. إنه يصور بإيجاز بعض المصاعب التى تواجه حضارتنا، وهى حضارة قد توصف بأن غايتها إشاعة الانسانية والعقلانية والمساواة والحرية. ومع ذلك فهى حضارة مازالت فى مرحلة الطفولة، ولهذا فهى مازالت فى مرحلة التطور بالرغم من خيانة قادتها المثقفة. والكتاب من أجل ذلك يحاول أن يدلل على أن هذه الحضارة لم تتعاف من صدمة مولدها، أى من صدمة الانتقال من المجتمع القبلى أو المجتمع المغلق بما ينطوى عليه من إذعان للقوى السحرية إلى المجتمع المفتوح الذى يحرر القوى الناقدة فى الانسان.والكتاب من أجل ذلك أيضا يحاول أن يدلل على أن الصدمة التى يحدثها ذلك الانتقال هى من العوامل التى أفضت إلى بزوغ هذه القوى الرجعية التى حاولت فيما مضى ومازالت تحاول خلع الحضارة والعودةبها إلى النظام القبلي. والكتاب من أجل ذلك ثالثاً يومئ بأن ما نسميه اليوم نزعة شمولية إنما هى تنتمى إلى حضارتنا قديماً وحديثاً. أما أنا فأثير السؤال الآتى: ما مغزى هذه العبارات التى كتبها بوبر فى مقدمة كتابه؟ إنها تعنى خيانة المثقفين أو مَنْ يقال عنهم أصحاب الياقات البيضاء أو أصحاب الجباه العريضة أو إن شئت الدقة قل الفلاسفة على نحو ما يعنيه بوبر. والسؤال بعد ذلك: مَنْ هم خونة الحضارة فى القرن الحادى والعشرين؟ إنهم الأصوليون فى كل الأديان بديلا عن الشموليين فى الأنظمة السياسية. وكان يوم 11/ 9 هو يوم خيانة الحضارة عندما حدث انفجار فى مركز التجارة العالمي. والمغزى هنا أن ذلك المركز إنما يمثل أعلى مراحل الثورة العلمية والتكنولوجية، أو بالأدق أعلى مراحل الحضارة الانسانية ومن ثم فتدميره هو تدمير للحضارة. ولكن من الظلم القول بأن الأصولية الاسلامية هى التى انفردت بمحاولة تدمير الحضارة فثمة نفر من أصحاب الجباه العريضة أو بالأدق من الفلاسفة الذين شاركوا بالتمهيد لذلك التدمير، ومن هؤلاء فيلسوفان ألمانيان هما أدورنو وهوركهمير وهما من مؤسسى مدرسة نشأت فى فرانكفورت بألمانيا ولهذا أطلق عليها اسم «مدرسة فرانكفورت». أصدرا كتاباً فى عام 1943 عنوانه «ديالكتيك التنوير». وإذا كان الديالكتيك ينشغل بالكشف عن المتناقضات فالديالكتيك الوارد فى العنوان إنما يكشف عن التناقض الكامن فى التنوير. فما هو هذا التناقض فى رأى هذين الفيلسوفين؟ فى رأيهما أن التنوير الذى يعنى إعلاء سلطان العقل قد أفرز نقيضه وهواللاعقل المتمثل فى النازية والفاشية فى أوروبا، إذ على الرغم من أن التنوير كان المسئول عن التقدم الاجتماعى والثقافى والمادى إلا أنه كان يحمل فى طياته بذور التراجع إلى أشكال بدائية مضادة. وعلى الرغم من أن العقل هو المفهوم المحورى للتنوير، وأنه أساس الحرية والعدالة والحقيقة بحيث تبدو هذه المفاهيم وكأنها متجذرة فى العقل، أى فطرية، إلا أنه سرعان ما سقط فى المذهب الشكى فلم يبق منه شيء وأصبح بعد ذلك اللاعقل. وفى عام 1941 نشر هوركهيمر مقالاً فى مجلة «دراسات فى الفلسفة والعلوم الاجتماعية» عنوانها «نهاية عقل»، وفى عام 1946 أصدر كتاباً عنوانه «أفول العقل». ارتأى فى المقال أن المفاهيم الأساسية للحضارة فى حالة تآكل سريع، وكان العقل من بين هذه المفاهيم، إذ لم يعد موضع ثقة وعلى الأخص بعد صعود الفاشية. ومعنى ذلك أن العقلانية أصبحت مخاصمة لذاتها، هذا عن المقال أما عن الكتاب فقد ارتأى فيه أن ثمة علاقة عضوية بين التنوير والتقدم التكنولوجى من جهة وبزوغ البربرية الجديدة من جهة أخرى. ومغزى هذه العلاقة أن التقدم التكنولوجى يصبح خطراً على الحضارة. وهذا هو ما تروج له الأصولية الاسلامية. ولم تكن مدرسة فرانكفورت هى وحدها المدعمة للأصولية فقد أضيف إليها تيار آخر اُطلق عليه «ما بعد الحداثة» وهو تيار لاعقلانى يرفض التأويل بدعوى أنه يرد الفن إلى معان مجردة ويقيد طاقاته المحررة للإنسان، ومن ثم فإنه يعتبر ثقافة مضادة. وهكذا يمكن القول بأن ثمة سمتين أساسيتين لذلك التيار وهما اللاعقل و رفض التأويل، وهما لا يفترقان لأن مَنْ يرفض العقل يرفض التأويل لأن وظيفة العقل، فى رأيى، لا تقوم فى وصف العالم إنما فى تأويل العالم، إذ العقل ليس صفحة بيضاء يسجل فيه ما يرد إليه من العالم إنما هو قوة فاعلة، أى يضيف من عنده بحيث يرى العالم على نحو مغاير. وإذا كان رفض التأويل هو العلامة المميزة لتيار ما بعد الحداثة فيمكن القول بأن ثمة علاقة عضوية بينه وبين الأصولية الاسلامية من حيث إنها تلتزم حرفية النص الديني، وبالتالى ترفض إعمال العقل. وتأسيساً على ذلك كله يمكن القول بأن الأصولية الاسلامية وما يماثلها من أصوليات دينية وتيارات فلسفية لا عقلانية كلها موضع اتهام بخيانة الحضارة. لمزيد من مقالات مراد وهبة