عنوان هذا المقال من وحى حدثين ثقافيين تزامنا فى عام 2003 أحدهما كتاب عنوانه «فلنتحاور مع الشرق» لفيلسوفة فرنسية اسمها سنتيا فلورى (1974-؟) أستاذة بجامعة باريس، والآخر ندوة دولية حرية الكاتب .. ومسئولية الحاكم! عقدت فى أبوظبى فى نفس ذلك العام بتنظيم من «مركز زايد العالمى للتنسيق والمتابعة» وعنوانها «العقلانية جسر بين الشرق والغرب». وعقدها كان تمهيداً لندوة أخرى يعقدها المركز مع جامعة الدول العربية تحت عنوان «دفاعاً عن الحضارة» إلا أن انعقادها لم يتحقق. فى السطر الأول من كتاب «فلنتحاور مع الشرق» تثير فلورى ثلاثة أسئلة: لماذا نحاور الشرق؟ هل ثمة حوار كان ثم انقطع؟ هل كان ثمة حوار أصلاً؟ ويبدو من هذه الأسئلة أنها تخفى «عدوا» بديلاً عن «الصديق»، ولكنها فى الوقت ذاته تحث على الحوار، أو بالأدق على حوار جديد. وهنا ثمة سؤالان: ما هو هذا الحوار الجديد؟ وكيف يكون؟ تجيب فلورى عن هذين السؤالين فى اطار مناخ ايديولوجى محكوم بثلاثة مفكرين وهم: فرانسيس فوكوياما، وصمويل هنتنجتون وادوارد سعيد. ارتأى فوكوياما فى كتابه «نهاية التاريخ والانسان الأخير» (1992) أن انتصار الديمقراطية الليبرالية، إثر انتهاء الحرب الباردة، يعنى نهاية التاريخ، أى نهاية الصراع الأيديولوجى الذى كان قائماً بين الشيوعية والرأسمالية. وبديل ذلك الانشغال بحل المشكلات التكنولوجية والاقتصادية. إلا أن هنتنجتون اعترض على هذه الرؤية وألف كتاباً يعارض به نظرية فوكوياما تحت عنوان «صدام الحضارات وصياغة نظام عالمى جديد» (1994) بمعنى أن الصدام لن يكون إلا بين كتل حضارية فى حالة عداوة. وهذه بداية جديدة للتاريخ أطلق عليها مصطلح «عصر السياسة الكوكبية» بمعنى أن الصدام لن يقف عند حد الغرب والشرق إنما يكون بين الغرب وما تبقي. الغرب هو أوروبا وأمريكا، وما تبقى هى الكتلة الروسية والصينية واليابانية والهندوسية والافريقية ثم أمريكا اللاتينية والاسلام. إلا أن هذا الصدام الجديد لن يكون بين حضارات إنما بين ثقافات، بمعنى أن الثقافة تكون بديلاً عن الحضارة، وأن تكون متقوقعة فى «هوية»، والهوية هنا تكون محكومة، فى الدفاع عنها، باَليات الحرب والاستعمار. والنتيجة انتفاء الحوار والعودة إلى الهيمنة. وفى مواجهة هنتنجتون يقف ادوارد سعيد. ففى مقابل «كتل حضارية» عند الأول يقول الثانى ب «كتلة الجهل» وهى كتلة ترى أن الايديولوجيا وَهْم وتقوم على المواجهة بين « هويات عملاقة». ومع ذلك فان فلورى ترى أنه ليس فى الامكان تجاهل العالم العربى الإسلامى عند تناول الحوار بين الشرق والغرب، إذ ثمة إشكالية ينفرد بها ذلك العالم فى إطار السؤال الآتي: ما العلاقة بين الفكر الدينى والدين، أو بين القرآن وتأويلات آيات؟ وفى صياغة أخرى للسؤال: كيف يتعامل المتدين مع النص الديني؟ وتجيب فلورى أن نصر حامد أبوزيد هو الذى أثار هذا السؤال فى كتابه المعنون «نقد الخطاب الديني». وقد أهدانى كتابه هذا إثر صدوره مباشرة، فى 31/1/1993 وجاء اهداؤه على النحو الآتي: «إلى أستاذنا جميعا الدكتور مراد وهبه.. محاولة للاجتهاد والمشاركة». ومغزى هذا الاهداء أن أبوزيد يشاركنى الاهتمام بمفهوم التأويل الذى هو التعبير الدقيق عن «الاجتهاد»، يشاركنى فلسفياً فى تناول مفهوم النص. وهذا هو ما قالته فلورى فى كتابها من أن مسار أبوزيد فى كتابه ذاك هو مسار فلسفى لأنه يبحث عن دور التاريخ والتأويل فى النص الديني. والتأليف بينهما يفضى إلى القول بتاريخية ذلك النص. ومن هنا جاء تكفير أبوزيد والتفريق بينه وبين زوجته. ومن هنا أيضاً تقول فلورى إن الحضارة العربية الاسلامية هى «حضارة النص» لأن النص هو حجر الزاوية فى تحديد علاقتنا بالزمان بل بالحداثة. والسؤال اذن:كيف يكون ذلك كذلك؟ جواب فلورى أن الزمان، عند المسلم، محصور فى «الحاضر» أى أن الزمان جملة «أنات حاضرة»، ومن ثم فإننا نكون فى الزمان وفى حداثة الزمان عندما نمارس «فعل الحاضر» . ويترتب على ذلك أن ما يزعج المسلم هو أن تجعل من الحداثة لحظة لا علاقة لها بالحاضر، ومن ثم تصبح الحداثة غريبة أو مغتربة. وقد استثمرت الأصولية الاسلامية هذا الاغتراب بإقامة تعارض بين التقويم الهجرى والتقويم المعاصر من أجل النضال ضد الهيمنة الغربية ورؤيتها للحداثة، ومن ثم يمتنع الحوار بين الشرق والغرب وهو ما تنشده الأصولية الاسلامية. وهنا تتساءل فلورى عن إمكان مجاوزة الأصوليين لإجراء الحوار، وتجيب بالإيجاب فى استدعائها لعصر النهضة فى القرن السادس عشر ، أو بالأدق لروح النهضة لأن هذه الروح تتسم بأنها ناقدة ومن ثم تنعكس هذه الروح الناقدة على الحوار فيكون حواراً ناقداً يسمح لنا برؤية الأديان فى جذورها المشتركة، بل برؤية المعارف الانسانية كلها على هذا المنوال. ومع ذلك كله فثمة سؤال لابد أن يثار: إذا كانت الأصولية الاسلامية هى المهيمنة على العالم الإسلامى ،فليس فى الإمكان مجاوزتها إلا بتأسيس تيار مضاد؟ حاولت الجواب عن هذا السؤال فى ندوة أبوظبى فماذا كان ذلك الجواب؟ الجواب فى المقال المقبل. لمزيد من مقالات مراد وهبة