أكتب هذا العنوان وأنا أعلم أولاً أن الجمعية العامة للأمم المتحدة أطلقت على عام 2001 عام الأممالمتحدة للحوار بين الحضارات. وأنا أعلم ثانياً أن جامعة الدول العربية عقدت مؤتمراً فى نوفمبر 2001 عنوانه «حوار الحضارات: تواصل لا صراع» وأنا أعلم ثالثاً أن ثمة ندوات ومؤتمرات دولية انعقدت من أجل إرساء دعائم حوار الحضارات. ولكنى أعلم كذلك أن قرار الأممالمتحدة مردود إلى ما أحدثه كتاب صموئيل هنتنجتون المعنون «تصادم الحضارات وإعادة بناء نظام عالمى» من جدل كوكبى حاد. ومع ذلك فإن هنتنجتون ينحاز إلى القول بالحضارة الواحدة وهى الحضارة الغربية لأنها صانعة الحداثة، والحداثة، سلباً، تعنى أن الدولة ليس لها دين معين، وبالتالى فإنها تسمح بالتعددية والتقدم، والحداثة، إيجاباً، تعنى التحضر والتصنيع وحكم القانون والفردية والتمثيل النيابى، ومن هذه الزاوية فإن الحداثة لا تعنى أنها مسار غربى إنما تعنى أنها مسار حضارى. وتأسيساً على ذلك يمكن القول إن رباعية الديمقراطية «العلمانية ونظرية العقد الاجتماعى والتنوير والليبرالية» قد حدثت فى الغرب ولم تحدث فى مصر. والسؤال إذن: لماذا حدثت الرباعية هناك ولم تحدث هنا؟ حدثت هناك بسبب بزوغ علماء وفلاسفة كانوا على وعى بمعيار التقدم الحضارى الذى يتجه من إبطال إعمال العقل بسبب غلبة الأسطورة إلى إعمال العقل بسبب غياب الأسطورة. وفى ذلك الاتجاه سار كورنيكس وجليليو وبرونو ولوثر ولوك وكانط وجون ستيوارت مِل، فى الفترة من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر. وكان من إبداعاتهم بزوغ رباعية الديمقراطية. ولم يحدث عندنا بسبب بزوغ اثنين من عمالقة النضال ضد إعمال العقل وهما ابن تيمية وسيد قطب، وأنا أربط بين الاثنين على الرغم من تباعد المسافة الزمنية، إذ الأول من القرن الثالث عشر والثانى من القرن العشرين لأنهما الأساس الفكرى لحركة الإخوان المسلمين. قال ابن تيمية فى كتابه المعنون «درء التعارض بين العقل والنقل»: «إن ما هو ثابت بالسمع فهو ثابت سواء علمنا بالعقل أو بغير العقل ثبوته أو لم نعلم بثبوته لا بعقل ولا بغيره. وإذا كان الشرع يقوم على السمع فيجب تقديم الشرع عند التعارض مع العقل، وتقديمه أيضاً عند التعارض مع إجماع الأمة لأن الإجماع يستلزم طاعة العقل للسمع. وهذه الطاعة تستلزم تنازل العقل عن استخدام المجاز فى تأويل النص الدينى لأن هذا النص لا يقبل المجاز. ولهذا فمن يخرج على الإجماع يكون موضع تكفير بالضرورة». أما سيد قطب المنظر لحركة الإخوان المسلمين فقد قال فى كتابه المعنون «المستقبل لهذا الدين»: إن الثقافة المصرية ثقافة إسلامية وبالتالى يلزم بترها من الثقافة الغربية بسبب أن هذه الثقافة مصابة بمرض «الفصام النكد»، والفصام النكد يعنى الانفصال عن واقع شحيح النفع. وهو يقصد بذلك الواقع «النهضة وعصر التنوير والثورة الصناعية فى أوروبا». والبديل عن هذه الثقافة «حاكمية الله» فى كتابه المعنون «معالم فى الطريق» حيث يقول: «إن مملكة الله لا تقوم بأن يتولى الحاكمية فى الأرض رجال ينطقون باسم الآلهة كما كان الحال فيما يعرف باسم «الثيوقراطية» أو الحكم الإلهى المقدس، ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هى الحاكمة. وحين تكون كذلك تكون هذه هى الصورة الوحيدة التى يتحرر فيها البشر تحرراً كاملاً وحقيقياً من العبودية للبشر، وتكون هذه هى الحضارة الإنسانية. ومعنى ذلك أن مدلول الحاكمية لا ينحصر فى تلقى الشرائع القانونية من الله وحده. إن الشريعة تعنى كل ما شرعه الله لتنظيم الحياة البشرية، وهذا يتمثل فى أصول الاعتقاد وأصول الحكم وأصول الأخلاق وأصول السلوك وأصول المعرفة أيضاً. وأظن أن هذا الفكر الإخوانى قد تغلغل فى مؤسسات الدولة بوجه عام وفى مؤسسة التعليم بوجه خاص وفى كليات التربية بوجه أخص، حيث عقول الطلاب محكومة بعقول الأساتذة، وعقول الأساتذة محكومة بأصولية كل من ابن تيمية وسيد قطب ومن ثم تمتنع رباعية الديمقراطية ويظل التناقض حاداً بين الرباعيتين المصرية والأوروبية. والسؤال إذن: هل من سبيل إلى رفع هذا التناقض الحاد لكى ندخل الحضارة؟ أظن أن الجيل القائم من المثقفين لم يعد صالحاً للبحث عن جواب لأنه يثرثر فى قضايا لا علاقة لها بالرباعية. وإذا كان ذلك كذلك فنحن فى انتظار جيل قادم قد يكون صالحاً للبحث عن جواب.