«يحزننا كثيرًا أن نرى خريجًا حديثًا يتقدّم لوظيفة فى وسيلة إعلامية، وهو لا يعرف من هو طه حسين، أو توفيق الحكيم، ولم يقرأ رواية لنجيب محفوظ، أو يشاهد فيلمًا لصلاح أبو سيف، ولم يطّلع على ما قدّمه صلاح جاهين، لم يدخل مكتبة، ولم يزر متحفًا أو يحضر مسرحية أو عرضًا فى الأوبرا، ولم يسمع أغنية لسيد درويش. هذا الشاب الذى يتقدّم ليعمل فى مجال الإعلام، ماذا يمكن أن ننتظر منه إذا التحق فعلًا بالعمل فى وسيلة تتعامل مع جمهور متنوّع ثقافيًا واجتماعيًا؟ ماذا سيضيف إلى الإعلام إذا أصبح مذيعًا أو مخرجًا أو مصورًا أو صانع محتوى؟ نحن كما نحتاج إلى التدريب على مهارات التكنولوجيا الذكية؛ نحتاج أيضًا إلى التخلص من الأمية الثقافية». بهذه الكلمات أنهت د. درية شرف الدين، وزيرة الإعلام الأسبق ورئيس لجنة الإعلام والثقافة والآثار بمجلس النواب؛ كلمتها فى المؤتمر الدولى المشترك الأول لكليات ومعاهد الإعلام تحت عنوان «التعليم والإنتاج الإعلامى فى الوطن العربى فى ظل التطور التكنولوجي» والذى استضافه فندق موفنبيك مدينة الإنتاج الإعلامي، تحت رعاية وزارة التعليم العالى والبحث العلمي، وشارك فيه عدد من أساتذة الإعلام وواضعى السياسات والخبراء فى المجال. وقد شددت د. درية فى حديثها على أن الإعلام بحاجة إلى توافر الحد الأدنى من الأدوات التى تجعله مقنعًا، يصدّقه الناس، بدلًا من أن يغلقوا التلفزيون أو الراديو ويتجهوا إلى متابعة وثائقيات خليجية أكثر إقناعًا وأكثر جذبًا. وهو ما يبرز معه سؤال مهم؛ ماذا ينقصنا لنحقق ذلك؟ هل ينقصنا الكفاءات البشرية المؤهلة؟ أم تنقصنا التكنولوجيا الحديثة؟ أم نفتقر إلى المناخ المهنى والجو العام المناسب؟ والإجابة أننا ينقصنا الكثير؛ التدريب، والمهارات، والكفاءات. مضيفة: «نحن نعيش فى ظل منظومة تعليمية نعرف ملامحها فى مراحل التعليم الابتدائى والإعدادى والثانوي، ونعانى جميعًا من آثارها وتداعياتها فى كل المجالات. شباب ينتقلون من مرحلة لأخرى وهم عاجزون عن الكتابة بلغة عربية سليمة. شباب يجهلون تاريخ بلدهم، ويقضون نصف أعمارهم فى ملاحقة ما تبثه وسائل التواصل الاجتماعي، ويتشرّبون منها سلوكيات وأخلاقيات معظمها جاءهم عن طريق جهاز يحمله كل منهم فى يده، ولم نُعلّمهم كيف يستخدمونه بطريقة سليمة، فالتكنولوجيا وحدها قد تُصبح خطرًا إذا لم يُدرك مستخدمها خطورة الرسالة الإعلامية، ولذلك عملية التدريب على التكنولوجيا الحديثة وتعليم مهارات استخدامها؛ يجب أن تقترن بالمعرفة العامة بأساسيات الفنون الأخرى: السينما، المسرح، الموسيقى، الفن التشكيلي، وأيضًا التاريخ والأدب. فنحن بحاجة إلى إعلاميين يرتقون بوعى الناس، ويقودون جمهورهم نحو مستقبل أجمل، فى وطن أفضل». وهو ما أكدته – كذلك – الإعلامية هالة أبو علم؛ خلال حديثها عن تجربتها بعد التخرج من كلية الإعلام، وما لمسته من فارق بين التعليم الأكاديمى والواقع العملى بين أساتذة المهنة، قائلة: «كان العامل المشترك بين جميع الإعلاميين الكبار، بل حتى العاملين البسطاء من حولهم، هو قدرهم الرفيع من الثقافة. لقد كان هناك أساتذة كبار فى هذا المجال، أساطين بحق، وكانوا بمثابة قدوة لنا، تعلمتُ منهم أكثر مما تعلمته من الكتب، وهو ما اختصر على سنوات طويلة من المعاناة والتجريب. أما اليوم، فالمشكلة الحقيقية ليست فى القدرة على تعامل الطلاب مع الأدوات الحديثة، وإنما فى كيفية خلق عقل واعٍ مثقف، يمتلك أدواته الإعلامية ويتقن اللغة العربية، قادر على فهم عقل المتلقي، والتأثير فيه، وإقناعه، واحترامه». ولذلك ترى أبو علم أن تفعيل ميثاق الشرف الإعلامى اليوم بات ضرورة ملحة وواجبة التطبيق بكل قوة على من يظهرون على الشاشات أو يتحدثون من خلال الميكروفون، لأن التجاوزات قد أصبحت كبيرة ومقلقة. توضح: «من المؤسف أن نرى ونسمع اليوم بعض المذيعين والمذيعات وهم يقدمون محتوى دون مستوى الذوق العام، أو بكلمات وأسلوب متدنٍّ. التدريب الذى نطمح إليه اليوم لا يجب أن يكون فقط على التقنيات، بل على الهوية المصرية والعربية، وعلى التمسك بالثوابت، وبالأخلاقيات، والمعايير التى نريد غرسها فى المتلقي. نحن نحتاج إلى الثقافة، ثم الثقافة، ثم الثقافة. القراءة أهم من عبور الحاجز الرقمي، وأهم من أى تقنية يمكن تعلمها بسهولة. لقد كان عبد الوهاب مطاوع نموذجًا يُصدّق بمجرد أن يتحدث، لأنه أداءه لم يكن تمثيليًا، ولا بحركات بهلوانية، أو صوت عال، أو خطاب خاو. كان صادقًا وبسيطًا، وهذا ما نحتاجه اليوم». وتأكيدًا على ذلك؛ قال مدير الجلسة د. عصام نصر، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة وعميد كلية الاتصال الأسبق بجامعة الشارقة؛ إن الجيل الحالي، على الرغم من أنه يمتلك شغفًا فطريًا تجاه التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، إلا أنه بحاجة إلى منظومة تعليمية متطورة، قادرة على إثارة شغفه المعرفى الحقيقي. فالعالم من حوله يتغير بسرعة، بينما بعض أنظمتنا التعليمية جامدة فى مكانها. مضيفًا: «نحن بحاجة إلى أن نجهّز الطالب لعالم جديد، نعلّمه كيف يتعامل مع الإعلام بلغته الجديدة، ونؤكد له فى الوقت ذاته على أخلاقيات المهنة. فمع الأسف، التطور التكنولوجى لم يصاحبه تطور فى القيم. وهنا تكمن الخطورة؛ الذكاء الاصطناعى أداة، يمكن أن تكون وسيلة للتقدم الحقيقي، أو وسيلة للعبث والابتذال، حسب من يستخدمها. السؤال الجوهرى هو: كيف يمكن أن نُسخّر الذكاء الاصطناعى لخدمة التغيير البنّاء، والتقدم الإنساني، وتحقيق رسالة الإعلام الحقيقية؟». وعن امتلاك الوعى والرسالة والصدق؛ تحدَّثت المخرجة هالة جلال فى جلسة أخرى، قائلة: «لديّ روايات وحكايات أريد إيصالها للناس. ما يهمنى هو أن تكون صادقة، وأن تعبّر عما فى داخلى تمامًا. لا أقدم أفلامًا لأُسلّى الناس. مع كامل احترامى لمن يرى الفن والإعلام وسيلة للترفيه، لكننى لا أرى الأمر كذلك أريد أن يتأثر الناس، أن يبكوا ويضحكوا، أن يُلهموا ليجدوا حلولًا لمشكلاتهم، أن يعثروا فيما أقدّمه على أشخاص يُشبهونهم، فيشعروا أنهم ليسوا وحدهم. أن يشعروا بالعطف، والرحمة، والإنسانية. نحن اليوم قادرون – من خلال هذه الأدوات الجديدة – على إعادة بناء الأماكن التى دمرتها الحروب أو الزلازل، وإعادة تقديم صورة غزة على شاشة التلفزيون». واستكمالًا للحديث عن الفرص التى توفرها الأدوات الجديدة والمتطورة، تمنى المخرج مجدى أبو عميرة لو أن تلك التقنيات أتت مبكرًا، لربما أنقذت مسلسل «ذئاب الجبل» الذى واجه أزمة كبيرة بعد وفاة صلاح قابيل وعبد الله غيث أثناء التصوير، أو أعانته فى مسلسل «التوأم» بدلًا من استخدام «الكروما»، لكنه يشدد على أنها – فقط – أدوات، بينما الحس الإنسانى واللمسة الفنية الحقيقية، لا يصنعها إلا إنسان مبدع، من معاناته ورؤيته وذائقته الفنية، فالتكنولوجيا تخدم الفن، لكنها لن تستبدل الروح الإنسانية فى الإبداع. وعن أسباب تراجع الدراما المصرية صرَّح: «خلال أحد مؤتمرات الدراما، سألنى الأستاذ هشام سليمان سؤالًا مباشرًا: أيهما أهم فى صناعة العمل الدرامي، النص أم التمويل؟ فأجبت دون تردد: النص، ثم النص، ثم النص. فالنص هو حجر الأساس فى بناء العمل الفني، ثم يأتى الإخراج فى المرتبة التالية. لكن للأسف، هذا الترتيب قد انعكس تمامًا الهرم انقلب سابقًا، كنا ندخل العمل الدرامى ونحن نمتلك سيناريو كاملًا من 30 حلقة، مكتوبًا، ومدروسًا، ومتماسكًا. لكن الآن؛ أعترف أننى خلال العام الماضى وقعت فى خطأ، حين بدأت مشروع مسلسل وأنا لا أملك سوى خمس حلقات فقط، والباقى كان يُكتب «على الهوا» أثناء التصوير، دون مراجعة حقيقية. وهذا انعكس سلبًا على جودة العمل، وأدى إلى ما يمكن وصفه بالقص واللصق».