ليس ثمة مشروع فكرى تحتاجه الأمة المصرية الآن أكثر من استئناف عملى لتنوير حقيقي، يدفع بالمسارات المجتمعية هنا وفى عالمنا العربى إلى أفق أكثر رحابة وعقلانية، فانقطاع محاولات التجديد المستمر للبنية المعرفية الماضوية الحاكمة للذهنية العربية فى النظر للعالم والأشياء، حمل آثارا قاسية على الواقع العربي، الذى ارتمى فى حضن التصورات الخرافية عن العالم، ووجدت فيه تيارات الإسلام السياسى أرضا خصبة للهيمنة الفكرية بغية تنفيذ مشروعها الماضوى والوهمي. ولاستئناف مشروع التنوير على نحو جاد، يعيد الاعتبار لقيم الدفاع الحق عن العقلانية، لا بد من الوعى باشتراطات اللحظة الراهنة، ومناخاتها المرتبكة أيضا، وأول شيء يجب الوعى به فى هذا السياق يتصل بأن التنوير لا ينمو فى الفراغ، والفعل التنويرى هو ابن سياق سياسى وثقافى دافع للحريات، يتوافر داخله مناخ داعم لحريات التفكير النقدى والبحث العلمي، وحرية التعبير، أما الأمر الثانى فيتعلق بغايات التنوير لتنحو صوب قيم العقلانية والحداثة والاستنارة والإبداع، ويصبح ذلك جزءا أصيلا من جوهر وجودها الإنسانى وجدارا حاميا ضد محاولات الاستلاب لوعيها الجمعي. وفى عالمنا العربى ليس ثمة لحظة أقسى من هذه اللحظة، كى نستدعى قيم التنوير لتصبح حائط الصد الفكرى أمام التبعية بشقيها، بدءا من التبعية للماضى السحيق، والذى توظفه الجماعات المتأسلمة لمصلحتها، وتجعل منه وصيا على الراهن، وآلية مستمرة لمصادرة المستقبل، حيث كل شيء حاضر عندنا، وكل اختراع بشرى سبق وأن جاء ذكره فى الموروث، وبما يعنى أن الماضى ليس فحسب ملاذا مستمرا لنا، ولكن الأدهى من ذلك هو إشاعة أجواء من الاستنامة والقناعة الزائفة بأننا الأفضل، وهذا التصور الاستعلائى يبدأ لدى قطاع واسع من الجمهور العام بأن الحضارة الغربية رجس من عمل الشيطان، ويصل عند التيارات المتأسلمة إلى حد امتلاك الحقيقة المطلقة، والانطلاق فى القول والفعل اعتمادا على هذه القناعة، وبما يفضى فى النهاية إلى تكفير الكل طالما كانوا مخالفين لهم فى الرأى والاعتقاد. أما الشق الثانى للتبعية فهو التبعية الذهنية للمركز الأورو أمريكى فى إنتاج الأفكار، وهذا الشق يبدو جهدا نخبويا أكثر، ويستلزم أولا وجود نخبة حقيقية تعى ظرفها التاريخي، وتحولات العالم وتعقيداته المتشابكة، والأهم أن توجد لدينا نخبة تسهم فى منتج الفكر العالمى تنظيرا وتطبيقا، نخبة لا تتوجس من الغرب وترى فى داخلها أنها أفضل منه، وكأنها امتداد للجماعات المغلقة فكرا وروحا، وفى الوقت نفسه تدرك هذه النخبة أن هناك مراكز متعددة لإنتاج المعرفة والأفكار والثقافة فى العالم، وأنها لا يجب أن ترتمى فى حضن مركز بعينه، دون أن تمتلك العقل النقدى الذى هو شريطة الوجود لأى مثقف حقيقى فاعل فى واقعه، وقادر على إنتاج أفكار جديدة، تعد صدى للوعى الطليعى والمساءلة والمراجعة النقدية المستمرة، وليست صدى للتسليم والاستنامة والكسل العقلى والجبن الفكري. والأمر هنا يتصل أيضا بفكرة القوة الناعمة التى لا غنى عنها لاستعادة الدور المركزى المصرى فى الفضاءين العربى والدولي، ولكنه يستدعى مفكرين حقيقيين يؤمنون بإمكانات التغيير، ويدركون الجدل المستمر بين السياسى والثقافي. إنه وبعد انقطاع عن محاولات التجديد المستمر للبنية المعرفية الماضوية المسيطرة على ذهنية المجموع، والتى تجعلنا فى فخ التابع للماضي، نصبح الآن أمام لحظة فارقة فى راهن الأمة المصرية والعربية، فالجماعات المتأسلمة جعلت التكفير شعارا، واتخذت من السلاح عنوانا، وكل شيء أصبح الآن على المحك، فالأفكار الظلامية التى لم يستطع تراث التنوير المنقطع أن يقضى عليها، وجدت طريقها بين بعض القطاعات الاجتماعية، بل ولدى كثير من النخب المتثاقفة التى تحيا برطان حداثى وعقل رجعي، وأصبح أمثال هؤلاء يمثلون الظهير الفكرى للرجعية، فيمارسون هذا الدور المشبوه فى الدعم الفكرى للجماعات المتطرفة عبر تنظيرات فارغة وخطابات وهمية تكشف عن بؤس الوعى العام من جهة، وتغلغل المنحى الماضوى فى التفكير من جهة ثانية. ليس هناك أجل من استئناف التنوير، ودعم مناخاته، والخروج من أسر التصورات الملتبسة عنه، من قبيل طرح الرؤى القديمة بوصفها أفكارا جديدة، مثل تجديد التراث، بينما نحن بحاجة حقيقية إلى مجاوزته ومساءلته أيضا. وبعد.. فى ظل معركة نبيلة يخوضها القلب الصلب للدولة المصرية ضد الجماعات التكفيرية ومشايعيها من دول وأنظمة، يصبح لزاما علينا، وفى الآن وهنا أن نتعامل مع التنوير بروح جديدة، ووفق خيال مختلف، باعتباره شكلا من أشكال المقاومة للقبح والتطرف والأبنية المعرفية الجاهزة. إن استئناف التنوير قبلة حياة للعقل المصري، وروح جديدة تمنح الحياة المصرية والعربية حيوية خاصة، تؤسس للعقلانية والعلمية والتفكير المنهجي، منفتحة على كل القيم الفلسفية والإنسانية النبيلة، حيث الحق والخير والجمال، وإنسانية الإنسان. لمزيد من مقالات د. يسرى عبد الله