فى لحظة فاصلة من عمر الأمة المصرية، تصبح الحاجة إلى التأسيس لقيم معرفية وجمالية جديدة تغادر المفاهيم الكلاسيكية للتنوير، اتكاء على خيال جديد ابن الآن وهنا، يعيد الاعتبار إلى قيم التفكير النقدي، والتخلص مما سماه إميل كانط بالكسل والجبن، اللذين يسجنان الإنسان الفرد فى تصورات الآخرين وأفكارهم، حيث لا ينهض الإنسان بالتفكير وإنما ينتظر غيره ليصنع ذلك، تحت وطأة الجبن العقلي، الذى مرده الخوف بتنويعاته، فيصبح الإنسان قاصرا عن التفكير الفردى الخلاق، ومتوائما مع هذا القصور، وإذا كان الغرب قد قطع أشواطا من التقدم ليحقق مفهومه المتجدد للتنوير، فإننا فى الثقافة العربية لم نزل أسرى لجملة من المفاهيم القديمة بدءا من استلهام الصيغ التلفيقية بزعم التوفيق بين التراث والحداثة، أو الجمع بين الأصالة والمعاصرة! وبدت الذهنية العربية فى اعتمادها ذلك التصور الرجراج للعالم، وكأنها تضع قدما فى الماضي، والأخرى فى الراهن المعيش، كما أصبحت تحوى خليطا من التناقضات الفادحة، والممهدة لمناخات قاسية من استبعاد المنهج العلمى فى التفكير، وتسييد النمط الخرافي، ومصادرة المستقبل لمصلحة الماضي. يتأسس خطاب التنوير على الحرية، التى يجب أن تتسع نوافذها وتتعدد، فالحرية هى الوسط البيئى الحقيقى للتنوير، وعبرها يستعيد المثقف دوره العضوى المفقود بوصفه فاعلا فى واقعه، يسعى صوب تبصير ناسه بواقعهم، وإنتاج المعرفة بوصفها شرطا للوجود وليست باعتبارها احتكارا للحقيقة. وبدا الاعتقاد الراسخ والسائد حول مركزية النخبة فى مقابل الهامش التابع الذى تمثله الجماهير، تعبيرا عن تصور قديم للتنوير، وهذا الاعتقاد الذى يقيد طاقات الفرد، ويحوله إلى محض متلقٍ سلبى للأفكار، جاوزه معنى التنوير الحقيقي، حيث أصبحت الجماهير شريكة فاعلة فى إنتاج الفعل التنويرى ذاته، عبر جدلها الخلاق مع ممثليها من النخب التى لا تصادرها وإنما تتشارك معها فى صياغة اللحظة الراهنة، وهذا الفهم يقتضى نهوضا فعليا بأدوات صناعة العقل العام من جهة، والتعامل مع التنوير بوصفه حالة مجتمعية من جهة ثانية. ولا شك أن الخطابات المبهمة التى صنعها بعض المفكرين لدينا، والتى استغلقت عليهم وعلى متلقيهم، مثلت عبئا على خطاب التنوير، ولم تتجاوز كونها اجترارا للماضى بشخوصه وأفكاره، حيث بدت فى حال من الاستنامة للقديم، والركون إلى التصور التوفيقى الجاهز، الذى لم يخلق سوى المزيد من التكريس للماضى المغلف بقشرة حداثية، فرأينا - وباختصار- تنويريين بلا تنوير فى مفارقة عبثية ومخزية أيضا!. ولا شك أن الأفكار المتطرفة التى أنتجتها الجماعات الدينية مثلت حجر عثرة أمام خطاب التقدم فى بلداننا العربية، فالعقل النقلى المحتمى بإرث راسخ من التصورات التى تقصى منهج التفكير العلمى لمصلحة التفكير الخرافي، يعزز من الارتماء فى حضن الماضى وتمجيده، فيصبح- ومن ثم- عائقا حقيقيا أمام حركة النهوض الفعلى للمجتمعات العربية وربما كانت أقسى الضربات التى وجهتها الجماعات المتطرفة للمجتمعات العربية هى سعيها المستمر لتنميط البشر بما يخنق ذواتهم الفردية من جهة، ويصادر حريتهم فى الاستقلال والإبداع والمبادرة من جهة ثانية. تقدم الجماعات المتطرفة خطابا مغلقا، ينطلق من نظرة أحادية للعالم، ولذا ترى التنظيمات الدينية فى الماضى حلا وملاذا، وتسعى باستمرار صوب أسلفة الواقع، ودفعه صوب الميتافيزيقا، ومن ثم تتعزز نقائض التنوير الذى يعد دفاعا عن العقلانية، وتغرق المجتمعات فى حال من الركون والاستنامة. ويتأسس خطاب التنوير أيضا على جناحين مركزيين، يتمثل أحدهما فى الديمقراطية، والآخر فى العدالة الاجتماعية، فالجماهير المقموعة أو التى تحيا فى واقع تتسع فيه الهوة الطبقية، تفتقد آليات التلقى لفعل التنوير الإبداعى المنتج، والمعتمد على حركة العقل الحر التى تستلزم إرادة حرة أيضا. يعتمد التنوير على تصور كلى للعالم، فالنظرة الجزئية لقضايانا الفكرية والحياتية لن تفضى إلى شيء، فتجديد الخطاب الدينى على سبيل المثال يجب ألا يتم بمعزل عن تعزيز قيم الثقافة الوطنية، والتكريس لقيم طليعية جديدة تسائل الماضى وتراجعه اتكاء على آليات العقل النقدى وروحه الحرة. تمثل الأفكار الملهمة حول قيم التنوير جذورا نظرية تستلزم معها توظيفا محكما لأدوات التنوير، ووعيا منفتحا ومسئولا تجاهها، حيث يجب أن تتشارك المؤسسات الرسمية والأهلية فى تشكيل سياق تنويري، مثلما يجب أن تراجع النخبة خطاباتها الغارقة فى الذاتية، والرضوخ إلى الماضي، والنظر الفوقى للجماهير. وبعد.. إن تعزيز إنسانية الإنسان، وتدعيم روح المبادرة، ومساءلة الماضي، والانتقال من حالة الجبن العقلى والركون صوب المناطق الآمنة فى التفكير إلى الإعمال المستمر للعقل، وعدم الاعتقاد بامتلاك الحقيقة، والنظر الكلى للعالم، والتعامل مع الجماهير بوصفهم شركاء فى إنتاج المعرفة الإنسانية المتجددة، ودحض خطابات التطرف بوصفها المظلة الحامية لقوى الرجعية والتخلف، تمثل هذه القيم آليات مركزية للتنوير، تحتاج مناخات داعمة، ومحفزة للعقل النقدى فى دفاعه المستمر عن العقلانية، التى هى جوهر التنوير، وتحضر العقلانية هنا ليس بوصفها غاية، ولكن بوصفها وسيلة لعالم أكثر رشدا، لا تُسحق فيه روح الفرد، ولا تصادر، فينتقل بإباء من وجوده الوظيفي، إلى وجوده الإبداعى الخلاق. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله ;