يمتلئ المكان بروائح الدم والرصاص، فالمتطرفون أعملوا القتل، والإرهاب صار لغة الإسلاميين الوحيدة التى يعرفونها، يريدون تكريس الطائفية فى المنيا وتحويلها إلى منطقة توتر دائم، تحولات عديدة شهدتها المدينة الجنوبية بقراها المختلفة، ربما تعد صدى لتحولات مجتمعية عاصفة صاحبت سنوات السبعينيات من القرن الماضي، حيث هجرة المصريين إلى بلاد النفط، وتحول العقل العام عبر إدارة سياسية اعتقدت أن فى القضاء على القوى التقدمية بأطيافها المختلفة قضاء على الإرث الناصرى ذاته، فكان تهيئة المناخ للجماعات الإسلامية كى تفعل فعلها، لكنها وبسبب من خطابها المتكلس، ووعيها الماضوى بدأت فى اختطاف الوطن ذاته، عبر تغييب ممنهج للعقل، وتوظيف للنمط الخرافى فى التفكير، وبدا العقل العربى فى محنة لها جذورها التاريخية من جهة، ومظاهرها الراهنة من جهة ثانية. واستمر الحال حتى اغتيال الرئيس السادات، وبدأت التيارات الدينية تأخذ شكلا جديدا يدعى بعضها الاعتدال على نحو ما حاول الإخوان صنعه فى عهدى السادات ومبارك، غير أن الجوهر المتطرف للجماعة لم يكن غائبا عن أى قاريء حصيف للمشهد المصري، وأمعنت جماعة الإخوان المتطرفة فى تمثيل دور الضحية، وفى الوقت نفسه كانت هى الحاضنة المركزية لجماعات العنف الدموى التى تجلت فى التسعينيات عبر موجة إرهابية ضربت مصر بقوة، وكان انسحاب الدور الاجتماعى للدولة من القرى والنجوع فرصة سانحة للتكريس للخراب الإخوانى الذى حل بناسنا فى بر المحروسة. ثم كان القفز على الثورة المصرية فى يناير 2011 ومحاولة اختطافها عبر وجوه جديدة وصيغ مختلفة، وبدأنا فى الانتباه أخيرا إلى تلك العلاقة الجدلية بين قوى الرجعية فى عالمنا العربي، وقوى الاستعمار الجديد فى العالم، وبدأت محاولة ممجوجة لتفتيت الوطن العربى عبر مخلب القط الإخوانى وأذرعه الممتدة من نخب العولمة الجديدة التى قدمت غطاء نظريا للإرهاب، وإطارا فكريا ماكرا لتبرير التطرف. وبدا ذلك كله ضربا للهوية الوطنية فى مقتل، فى محاولة لتمييع معناها، وإنكار جذورها الحضارية المتعددة، ومحاولة تأميمها لصالح ثقافة القرون الغابرة. ولم نكن فى الحقيقة أمام اختطاف للهوية قدر ما كنا أمام اختطاف للمستقبل، عبر تمرير الماضى وجعله النافذة الوحيدة التى ننظر منها، فى مفارقة مخزية تكشف عن عداء واضح لحركة التاريخ فى اندفاعها المستمر صوب الأمام. يعادى خطاب التطرف مفهوم الهوية الوطنية، ويختزل الهوية فى معنى أحادى الطابع، فيقدم الجماعة الدينية على الوطن، وتصبح الأمة لديه حكرا على تصور دينى أو أيديولوجي، فيخرج المخالفون فى العقائد والأفكار حينئذ، ويتم الالتفاف على معنى الوطن ذاته، ويتم استبعاد المعنى لصالح نقيضه، فمفهوم الدولة الحديثة التى قطعت البشرية أشواطا فى الوصول إليه، يتم ضربه عبر تمرير مفاهيم متطرفة مثل الحاكمية التى نجد صداها لدى أبى الأعلى المودودى وسيد قطب معا، وما تفضى إليه من تكفير للمجتمع، ووصمه بالجاهلية التى تبدو فى عرفهما أشد تعقيدا من الجاهلية الأولي، لأنها مزيج من جاهليات مختلفة، وأصبحت هذه الأفكار المنحرفة والمسمومة من المفاهيم المؤسسة لخطاب التطرف، والحض على حمل السلاح ضد الدولة والمجتمع، لتشتد المأساة أكثر، ويزداد البون الشاسع بيننا وبين العالم المتقدم، ففى اللحظة التى تتجه فيها المجتمعات الإنسانية صوب العمل، والبناء، والمبادرات الخلاقة، والتفكير الحر، والإنتاج الإبداعى والمعرفي، اتجهت المجتمعات العربية صوب التكريس للتكفير، والقتل، والقمع، والمصادرة. وفى هذه الأجواء البائسة، يبدو خطاب التقدم فى مأزق حقيقي؛ لأنه بحاجة أولية إلى مساءلة الماضى وليس تجديده، حيث كنا ولا نزال بحاجة إلى أن نكون فى الآن وهنا، ولسنا بحاجة إلى أن نظل هناك فى الماضي!. إن تهيئة المناخات الداعمة لحريات الرأى والتعبير والبحث العلمى والتفكير، والإيمان بالحق فى الاختلاف، والنظر إلى العالم من زوايا مختلفة، بوصفه كيانا متحولا باستمرار، وليس بنية جامدة، والتخلص من الأوهام المحيطة بالذات الجماعية، والمبالغة المجانية فى تقدير الذات، مكونات أساسية فى خطاب التقدم المرتكز على قيم العقل النقدي، والتصورات الطليعية فى النظر إلى الحياة والعالم والأشياء، فإذا اعتقد المصرى أن جذوره الحضارية متنوعة، وأدرك أن التعدد قيمة، وأن الحياة ابنة الاختلاف المنتج، ساعتها فقط يمكن أن نشير إلى أن ثمة تنوير حقيقى قد راكمناه، وأن صناعة الأمل ستبدأ من الإيمان الحقيقى بقيم التسامح والاستنارة وقبول الآخر، وساعتها أيضا ستكتشف مصر صوتها الحقيقى الكامن فى وجدانها الجمعى حين تشكله قيم الحرية والعدل والمساواة، وحين يتأسس وعى الفرد على أن إنفاذ القانون ملاذ المجموع، وطريقه صوب دولة المواطنة التى لا تعرف تمييزا من أى نوع، سنكون قد عرفنا بوصلتنا بحق، وهذه البوصلة هى عين الأمل، عين الحقيقة، وساعتها أيضا لن نكون مثل طفل جورج أمادو وهو يصارع مكبلا فى حقول الكاكاو، ولن يتمكن منا العمى الذى أصاب شخوص رواية خوزيه ساراماجو، فأحال حياتهم إلى جحيم. وبعد.. فى لحظات دقيقة من عمر أمتنا المصرية يستمر الفرز الموضوعي، ويصبح الوطن هو البوصلة، وتصبح أشواق الجماهير صوب الحرية، والعدل الاجتماعي، وإنسانية الإنسان غاية حقيقية، مثلما تصبح مجابهة التخلف، والاستبداد، والظلم الاجتماعي، وتحالف الفساد والرجعية، خطوات مركزية لا غنى عنها لو أردنا بناء جديدا ومختلفا، يسع المشروع الوطني، ويؤسسه، ويقترب بنا وبناسنا من عالم أكثر جمالا وإنسانية. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله ;