كشفت الجمل التى تلفظ بها الإرهابى الليبى عبدالرحيم المسمارى الذى شارك فى هجوم الواحات الأخير ضد قواتنا الباسلة فى الحوار التليفزيونى الذى أجرى معه عن محنة حقيقية للعقل العربي، فالتصورات التى ينطلق منها الإرهابى تستبيح الدماء، انطلاقا من مشكلة بنيوية فى التراث العربي، حيث يتم تقسيم الناس إلى فسطاطين، فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر، فالعالم فى عرف الجماعات الدينية فرقتان، إحداهما ناجية، والأخرى هالكة لا محالة، ومن يمتلك كل هذا اليقين فى النظر إلى العالم، سيرى نفسه أول الناجين هو وجماعته، وسيرى أن كل المخالفين له فى العقيدة والأفكار هم من الهالكين. وهنا تكمن الكارثة الحقيقية. وتبدو إشكالية التلذذ بالقتل انطلاقا من تصورات يقينية، يرى فيها الإرهابى نفسه ساعيا صوب تطبيق شرع الله!، وهذا الادعاء الكاذب يتواتر كثيرا فى أدبيات الجماعات المتطرفة، التى تضع نفسها موضع الوصى على البشر، وتعتقد ليس فقط بامتلاكها الحقيقة ولكن باحتكارها إياها أيضا، فكل الأشياء تبدأ من عندها وتنتهي، وما العالم لديها سوى قبض ريح، حيث تحمل الجماعات الإرهابية التفسير المغلوط للدين بيد، وتحمل السلاح باليد الأخري. والعلاقة بين التفسيرات المتطرفة والقتل علاقة جدلية، ووثيقة للغاية، وهى نفسها الصلة الممتدة بين التطرف والإرهاب. فالآخر فى عرف الجماعات المتطرفة مستباح، كما يجعل الإرهابيون من أفكارهم التعسة مركزا للكون، ومن ثم يوزعون صكوكا جديدة تعود بالعالم إلى القرون الوسطي، حيث الظلام الدامس، ومعاداة العقل، وسحق إنسانية الإنسان. وفى هذه اللحظات المفرطة فى قساوتها على عالمنا العربي، سنكون بحاجة إلى نزع الغطاء عن عقل متكلس، وجامد، ارتمى فى أحضان الماضي، واعتقد أن فيه الخلاص، ولإيقاظ العقل العربى لابد من الابتعاد عن الأحكام المطلقة، التى تنطلق من رؤى يقينية ثابتة، فكل شيء قابل للمراجعة، والعالم نسبي، وهو ابن للتحول والتغيير المستمر، ويتصل بهذا الشأن اتصالا وثيقا توسيع نوافذ الحريات البحثية والفكرية، وحريات الرأى والتعبير من جهة، ومجابهة التصورات الطائفية من جهة ثانية، ومن ثم تجد القيم الكبرى مثل التسامح والتقدم والتنوير مناخا محفزا وملهما لأفكارها الإنسانية التى لا تعرف التمييز أو الكراهية. ولكى تتحقق الثمرة المرجوة من مواجهة جماعات القتل والتكفير يجب أن تتشارك مؤسسات صناعة العقل العام فى مواجهة هذه الهجمة البربرية علينا، ويجب البناء على المساحات المشتركة بين التثقيف والتعليم، وأن تصبح الثقافة عونا للتعليم، والتعليم جوهرا للثقافة، وكلاهما يجب أن يتحرر من سطوة الماضي، أما الإعلام فيجب أن يبلور الجهود المبتغاة فى المسارين الثقافى والتعليمي، وليس بعيدا عن هذا المسار البحثى والأكاديمي، فعلى الجامعات مسئولية كبرى يجب عليها أن تقوم بها فى هذه المعركة التى تخوضها الدولة المصرية ضد عصابات الجهل، فعلى المؤسسات الأكاديمية أن تنهض مراكز الأبحاث لديها لرفد العقل المصرى بقيم طليعية وخيال جديد، بعيدا عن حالة السبات الفكرى والجبن العقلى التى تسم كثيرا من المؤسسات البحثية. إن المساحات التى يأخذها خطاب الكراهية على بعض الفضائيات التى تتمسح بالدين، تحتاج فى المقابل إلى مساحات أوسع من التنوير، لصوغ خطاب متماسك، لا يكتفى بتفكيك مقولات المتطرفين فحسب، ولكن يسعى إلى تحرير الوعى المصرى والعربي، وتخليصه من حال الاستنامة الدائمة، والركون إلى الجاهز، والموروث، والتفكير العقلاني، والتأمل النقدى للعالم. وبعد.. تبدو مجابهة الفكر المتطرف، مسئولية المجموع، والخلاص الفردى هنا لن يكون مجديا، فالإرهاب لا يفرق بين أحد وآخر، لأن الإرهابى يرى كل ما عداه مخالفا له، وليس أدل على ذلك من تواتر الحوادث الإرهابية فى عواصم عالمية مختلفة، وقد أحسنت مصر كثيرا حين طالبت بمحاسبة ممولى الإرهاب، وصناعه، والمختبئين تحت عباءته القاتلة، وعلينا أن نكمل الطريق حتى لو بدا العالم المتقدم براجماتيا بأكثر من اللازم، ومستفيدا من إشعال الحرائق، حيث لابد من العمل على تجفيف المنابع الفكرية للإرهاب، خاصة أن تنظيرات التطرف ساذجة للغاية، وحججه فجة، ورغبته فى التهام العالم مدمرة، بدءا من الجماعة الأم على مستوى الممارسة الفعلية، وأعنى جماعة الإخوان الإرهابية ووصولا إلى أبنائها القتلة من داعش وغيرها، وما بين أستاذية العالم وتدعيشه حبل سرى يصل ما بين الأم والأبناء، أما الإطار العام فيتمثل فى عشرات التصورات الرجعية التى لم تجد أحدا يسائلها بحق، فيعيد للعقل اعتباره، وللحياة بهاءها. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله ;