تبدو الحاجة ملحة إلى تفكيك مصطلح التطرف إلى بنياته الأساسية، وصولا إلى جوهره المضطرب، بغية الوصول إلى آليات ناجعة لمجابهته، ومواجهة تغوله فى ظل سياق سياسي/ ثقافى لم يتخلص بعد من أسر الصيغ الرجراجة، التى لم تزل ترى فى الجمع ما بين المتناقضات حلا وسطا، وفى المؤالفة ما بين المتنافرات توفيقا وتأليفا، لنصبح فى نهاية المطاف أمام تصورات تلفيقية للعالم ترتكب تحت مظلتها الكثير من الكوارث، وتفضى بالتبعية إلى المزيد من الأخطاء. يبدو التطرف تعبيرا عن تصور يقينى للعالم، يعتقد أصحابه فى فهمهم لمنطق الأمور وطبائع الأشياء أكثر من غيرهم، ويرون أنفسهم يملكون عين الحقيقة، وجوهرها، ومن ثم فالعالم لديهم يدور ما بين فكرتى الحق والباطل، التى تأخذ بعدا عقائديا لديهم، يزداد رسوخا جراء انطلاقهم من رؤى محددة سلفا، قطعية الدلالة فى عرفهم، سابقة التجهيز فى نهاية المطاف. يتمحور التطرف حول الفكرة الدينية، ويتخذ منها غطاء فكريا وأيديولوجيا، ويستدعى خطاب التطرف المقدس دائما، ويضعه فى مواجهة الدنيوي، ويسعى صوب إيجاد وعى زائف للجماهير عبر محاولات الترهيب والترغيب التى لا تتوقف، والوعود التى لا تنتهي، بدءا من الرخاء الأرضى على غرار الجملة الشهيرة للجماعة الإرهابية نحمل الخير لمصر، التى تحولت إلى جملة عبثية على أيديهم، ووصولا إلى مفاتيح الجنة السماوية وصكوكها. يسعى خطاب التطرف إلى وضع البشر فى خانة الأتباع، وأصحاب الخطاب هم وحدهم السادة، وعلى التابع أن يتبع شيخه أينما كان، والتابع مستباح دائما، فهو إما كافر أو عاص فى أحسن الأحوال، وفى كلا الحالين يظل غنيمة متجددة لسيده المؤمن، فالتنظيم الإرهابى داعش على سبيل المثال يتفنن فى سبى النساء واغتصابهن، ويجد من الذرائع والتبريرات ما يفتى به ويعلنه فى تبجح شديد يليق بخليط مدهش من المرتزقة وتجار الدين وصنائع الاستخبارات العالمية. غير أن الفكرة الرئيسية تظل كامنة فى استدعاء النص الدينى وقت الحاجة لتبرير كل الجرائم الإنسانية التى ترتكبها التنظيمات الدينية المتطرفة. يتسم خطاب التطرف بأنه يقينى إذن، يكره السؤال، ويمقت الشك، ويتعامل أصحابه مع غيرهم من منطق استعلائى محض، هو ابن المسلمات بامتياز، وابن التصورات الماضوية للعالم والأشياء، يخاصم اللحظة ويعاديها، ويعتبر الراهن أقل شأنا، وأن أفضل العصور ما كان، وليس ما هو كائن، ولا ما سيكون. يخاصم التطرف العقل، ويعاديه، ويسعى للهيمنة عليه، وإقصائه دوما من الحيز الحياتى للبشر، ولأن الخطاب العقلى شاك ومتسائل بطبيعته فهو يقف على طرف نقيض من خطابات التطرف الغوغائية التى لا تكتفى باستبعاد العقل بل لا تتورع عن إهانته صباح مساء، وكأن هذا التاج الإنسانى الذى منحه الله للناس ليفكروا به، ليس أكثر من آلة للركون والاستسلام لواقع الاستبداد والتطرف الدينى. لتفكيك التطرف أيضا لا بد من مراجعة الموروث بكل تنويعاته، هذه المراجعة التى يجب أن يتجاوز العقل النقدى المصرى والعربى من خلالها حيز المس من الخارج والارتماء فى أحضان مقولات بالية لم تنتج شيئا ذا بال فى واقع الحال، من قبيل تجديد التراث، إلى حتمية قراءة التراث قراءة عقلانية، مستنيرة، جديدة ومختلفة، يوضع فيها موضع المساءلة والمراجعة النقدية، التى لا تتخلى عن موضوعيتها وانحيازها إلى جوهر اللحظة بتجلياتها المختلفة. يملك خطاب التطرف تفسيرا أحاديا للعالم، يرى الناس من خلاله إما أخيارا وإما أشرارا، وتختفى لديه المنطقة الرمادية تماما، على الرغم من أنها المنطقة الإنسانية المحضة، فالناس فى جوهرهم ليسوا ملائكة ولا شياطين، ومجاوزة هذه التصنيفات البالية أضحى ضرورة منهجية وإنسانية لإيجاد بنية فكرية أكثر إنصافا ورحابة. يبدو خطاب التطرف فجا، لا يعترف بقيم الدولة المدنية ولا بتجليات الدولة القومية الحديثة فى العالم، فالمخالفون فى العقيدة فى عرف المتطرفين حقوقهم منقوصة، هم مواطنون من الدرجة الثانية، لا تجوز تهنئتهم فى الأعياد والمناسبات، وبذلك يضرب المتطرفون فكرة المواطنة فى مقتل، ويوجدون مناخات متجددة من الكراهية، التى تعد السمة المركزية فى خطابات التطرف جميعها، حيث تغيب قيم التسامح وتحل محلها أجواء التعصب الذى يستحيل إلى عنف، يمثل الطور الأخير من أطوار البناء العقائدى لفكرة التطرف، وما تمثله من خطابات يمينية متهافتة، موصولة فى جانب مهم منها بالخطابات الاستهلاكية التى ملأت العالم، وبالتصورات الرأسمالية المتوحشة المهيمنة على مقدراته، وربما هذا ما يكشف عن العلاقة الجدلية القائمة دوما ما بين الاستعمار الجديد والرجعية، حيث تدعم بعض القوى الكبرى الكيانات الرجعية فى العالم الثالث من أجل تمرير مصالحها وخططها فى الهيمنة والتقسيم وفقا لأطماعها التوسعية. وبعد.. لمجابهة خطاب التطرف لا بد من تفكيكه أولا، ومحاولة مجاوزة كل الصيغ التلفيقية التى تبلورت على نحو واضح بدءا من حقبة السبعينيات من القرن الماضي، وبما يعنى أيضا حسم خيار الانحياز إلى دولة مدنية خالصة، لا تعرف المزاوجة ما بين السياسى والديني، وخلق سياق تنويرى حقيقى ينهض على جناحى الثقافة والتعليم، اللذين يجب أن يصبحا جزءا من مشروع الدولة الوطنية وفى متن أولوياتها، أما حالة الخمول العقلى والاعتقاد فى أن كل شيء عظيم طالما أن كل شيء ساكن، فهذا للأسف - عين المأساة ونهايتها فى آن. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله