قد يدهشك كثيرا حجم البلاهة التى يصاب بها عقل المرء حين يصدق جملة من القناعات الزائفة، تبثها مجموعات تحيا فى الماضى وتقدسه، لكن قد تستولى عليك الدهشة حقا حين لا يرى المرء الحقيقة الساطعة بأن تاريخ القتل هو عينه التاريخ الدموى لتلك المجموعات الأصولية الباحثة عن السلطة، فى بلدان ينهشها الفقر والجوع والتخلف، هذا التخلف الذى أسهمت تلك الجماعات المتطرفة بالنصيب الوافر فى حدوثه. لكن الدهشة قد تزول، والحيرة يمكن لها أن تتبدد، خاصة إذا نظرنا بعمق إلى حجم الموروثات اليقينية التى تبث ليل نهار فى أدمغة شعوبنا، والتى لا بد وأن تخلق تلك الحالة الماضوية التى تحتفى بالميتافيزيقا وتتعاطى معها بوصفها طوق النجاة الوحيد. لكن تظل المشكلة الحقيقية فى محاولة الترويج من قبل الجماعات المتطرفة لفكرة مركزية تدور حولها مجمل تصوراتهم الزائفة صوب الحياة والعالم، وتتلخص فى اعتقادهم بأنهم يحققون مراد الله فيما يفعلون!!، وهذه المغالطة الدينية والتاريخية والإنسانية تبرر لدى الأتباع السذج كل هذا الهوس بالعنف، والدماء، والتكفير من قبل هذه الجماعات الظلامية. وإذا كانت المقدمات المنطقية تفضى بالتبعية إلى نتائج منطقية، فإن الأدهى فى الأمر كله يظل متمثلا فيما يمكن أن أسميه بحالة الاستسلام للتخلف التى تهيمن على سياقاتنا العربية، والتى تتبلور فى كم التصورات الرجعية الحاكمة لحركة الناس فى مجتمعاتنا، فالخرافة مثلا لم تزل تحتل نصيبا كبيرا فى وعى الناس بالعالم، وعبر الإيمان بها وبغيرها من أدوات الميتافيزيقا يتخلق هذا الوعى الزائف الذى يحول الجماهير إلى مسخ شائه، فلا تدرك المعنى العميق لجوهر وجودها، ولا أدوارها الفاعلة فى تغيير واقعها صوب الأفضل. إن توارى قيم التقدم لصالح موروثات التخلف يفضى بالأمة إلى جحيم لا تحتمله ولا تستحقه، كما أن حاجة الدولة المصرية إلى إدراج تحرير الوعى المصرى ضمن جملة أولوياتها، وفى متنها، أضحت حاجة ملحة بحق؛ لأنه لا تنمية حقيقية دون تنمية وعى الإنسان ذاته، وهذا ما يجب الالتفات إليه حقا الآن، وبما يتسق مع الرغبة العارمة للدولة ذاتها فى التكريس لمشروعات نهضوية كبرى على غرار ما حدث فى قناة السويس الجديدة، وبما يعنى أن النظر لمحورى التعليم والثقافة يجب أن يأخذ بعدا أكثر أهمية لدى صانع القرار المصرى الآن، وأن نتجاوز فى التعامل مع هذين الملفين المركزيين مرحلة الملفات المؤجلة، لأنهما فى الحقيقة كفيلان بالتأسيس لوعى مغاير، ابن اللحظة، قادر على مجابهة الأفكار المتشددة التى تروج لها الجماعات الدينية، والتى تخوض حربا شرسة ضد الأمة المصرية جميعها. تبدو إذن محاولة بلورة وعى جديد، اعتمادا على خيال سياسى/ ثقافى مختلف، خطوة أولى وأساسية لمجابهة حالة الاستسلام للتخلف، كما تبدو الحاجة ملحة إلى فض صيغة التحالف بين الفساد والرجعية التى هيمنت على المشهد المصرى طيلة الأربعين عاما الماضية، وبما يستدعى دورا حقيقيا للدولة المصرية فى ملء المساحات الشاسعة فى متن الحياة اليومية للمصريين من تعليم وتثقيف وصحة وغيرها من الحقوق الأساسية لناسنا وجماهير شعبنا، وهذا كله لن يستقيم أبدا مع ترك الناس فريسة للأفكار المتطرفة التى تبثها منابر دينية وإعلامية، بل وسياسية أيضا، فلا تزال بعض الأحزاب الدينية حاضرة فى المشهد وتقدم خطابا عنصريا وتحريضيا فى الآن نفسه، وبما يعنى حتمية حسم الدولة الوطنية المدنية الجديدة لخياراتها التقدمية والطليعية، تكريسا لكافة عوامل التطور والتنمية والتقدم. إن مجابهة حالة الاستسلام للتخلف يوجب على الدولة المصرية أن تؤسس لمشروع وطنى يحمل انحيازاته الاجتماعية الواضحة للمنسحقين والمهمشين، ويعلى من قيم الكفاءة والنزاهة، ويدرك أن قيمة ما يصنعه يكمن فى انتصاره لإنسانية الإنسان، وتحقيق معنى التطور ومبناه، بوصفه عملية تراكمية وتكاملية فى الآن نفسه، ويجعل من غاياته الأساسية تحقيق استقلالية القرار المصري، وربما تكون ثورة الثلاثين من يونيو المجيدة قد دشنت بحق لأفق الخلاص من التبعية السياسية، لكن على الدولة المصرية أن تشق طريقها دون التفات كبير للخارج، وقواه العظمي، التى لا تعنيها سوى مصالحها فى المقام الأول، وأن تدرك أيضا أنها لا تحارب الجماعات التكفيرية فحسب، بل تحارب معها أيضا قوى الاستعمار الجديد المتحالفة مع الرجعية والداعمة لها فى آن، وأن هذه القوى بأذنابها الصغار من بعض الدول الإقليمية لا يعنيها سوى ما خططت له من قبل، وما أرادته للمنطقة، وأن خطورة مافعلته مصر، يتمثل وباختصار- فى تقويض مشروع التمدد الأمريكى فى المنطقة عبر بدائل وآليات يعتمد عليها مثل التفتيت والتقسيم وغيرهما، ولذا فإنه لا بديل أمام الدولة المصرية بناسها وجيشها ومؤسساتها الوطنية المختلفة سوى الانتصار فى المعركة، مع المضى قدما فى التأسيس لمشروع الدولة الجديدة، ودحر كل قوى التكفير، والتخلف، والرجعية. وبعد.. تبدو مصر الآن فى لحظة فارقة من عمرها التليد، ومثلما يبدو الطريق للمستقبل مسكونا بالأمنيات النبيلة، فإنه يبدو فى الآن نفسه مثقلا بالصعاب والتحديات، وفى مثل هذه المراحل الفاصلة من عمر الأمم العريقة، يستعاد دوما ذلك الجين الحضاري، ويصبح حضوره دالا ومؤثرا فى تغيير الواقع ومجاوزة عثراته، وهذا عين ما يجب أن يفعله المصريون الآن، ومثلما أبوا أن يستسلموا لتجار الدين ومرتزقة الاستبداد، فإن عليهم أن يواصلوا المسير صوب عالم يستحقونه، أكثر نبلا وجمالا وإنسانية. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله