زخات من الرصاص تخترق صدور مجموعة من المبدعين من الكتاب ورسامى الكاريكاتير الفرنسيين، ومعهم ضابط الأمن الجزائرى الأصل أحمد المرابط، ومطاردات مثيرة لإرهابيين يحترفون القتل، تنتهى بمصرعهم، وهرج ومرج فى عاصمة النور قتل باسم المقدس يتسرب إلى أمكنة مختلفة من العالم، وما يسمى «المسئول الشرعى لتنظيم القاعدة فى اليمن» يتوعد الفرنسيين بعدم الأمان! دعك من الاسم العبثى الذى اختاره لنفسه» المسئول الشرعي»، ولنتأمل الدلالة الثقافية لاغتيال ممنهج لإحدى قلاع الحرية الفكرية فى العالم. من شهور نشرت صحيفة شارلى الفرنسية رسوما وصفت بالمسيئة للرسول الكريم، ومن قبلها فعلت الشيء نفسه صوب السيد المسيح، وصوب مقدسات تخص أديانا مختلفة، وكانت تطبع حوالى ستين ألف نسخة أسبوعيا، ولم تتهدد الإسلام أو المسيحية أية مخاطر، ولم ينقص إيمان البعض، أو يزداد إيمان البعض الآخر، فالأمر برمته لم يتعد شكلا من أشكال التعبير الجمالى ذى الصبغة الفنية المحضة، والتى لا بد أن ترى فى إطار الفن ولا شيء سواه، كما يجب ألا تحمل بأية دلالات دينية أو عقائدية. ولأن الرصاص عاجز دوما عن الحل، ولأنه يحوى داخله عجزا فكريا مخزيا، ورغبة عارمة فى تمجيد القتل، تخلقت هذه الحالة من التضامن الواسع فى العالم مع «شارلى إبدو»، ومحرريها وفنانيها، إلى الحد الذى أضحى فيه شعار « كلنا شارلي» علامة على التكريس لحرية الرأى والتعبير فى مقابل القمع والتطرف. ولأننا نحيا فى عالم يسكنه الدواعش الجدد، يخرج تنظيم داعش ويدلى بدلوه، فيثور لخليفته المزعوم، أبوبكر البغدادي، ويصف القتلة الذين نفذوا الجريمة الغادرة فى فرنسا ب» المجاهدين الأبطال»، ويظهر اسمان عربيان ليتصدرا مشهد العنف « شريف وسعيد كواشي»، وفى الكواليس تظهر حياة بومدين أيضا (فتاة فى السابعة والعشرين من عمرها غادرت إلى تركيا منذ وقت قصير)، مع أحمد كوليبالي، والتى تبحث عنها الشرطة الفرنسية الآن، كما تشير الأخبار المتواترة. والقاعدة تبارك هذا كله وتؤيد وتتوعد! سياق يضرب كل قيم التسامح والتقدم فى مقتل، ويضر بالإسلام الحنيف ذاته أكثر من أى شيء آخر، أما الأدهى فيتمثل فى أن داعش والقاعدة ومن دار معهما يعتقدان فى كونهما يمثلان الإسلام على نحو حصري، وأنهما أحق بوكالة السماء من غيرهما، مثلما يظن الإخوان والسلفيون أيضا وكل من انتمى إلى جماعة دينية خلطت الدينى بالدنيوي، وزاوجت بين السياسى والمقدس، فتاجرت بالمقدس، وأفسدت حياة البشر قتلا وتنكيلا وترهيبا وقمعا وحصارا. فعلت تيارات القتل والتكفير فعلتها فى باريس، ولم تتوقف شارلى عن الصدور، وتنوى طباعة مليون نسخة فى عددها المقبل الذى يصدر بعد غد الأربعاء، بما يعنى أن ثقافة العنف والقمع لحرية التعبير لن تفضى إلى شيء، وستعزز فى نهاية المطاف من مدونة القيم الطليعية، وأنه لا بد علينا فى عالمنا العربى أن نؤمن إيمانا عميقا - يتجاوز الحلوق والحناجر- بأن الرأى يقابله الرأي، والحجة تقابلها الحجة، والأفكار تتجادل معها أفكار موازية، أما هذا السعار من قبل قوى الرجعية والتخلف، ومشايعيها فى بلداننا صوب التكريس للمسدس فى مقابل القلم فعلينا أن نغادره وللأبد، لأن العرب والمسلمين لم يجنوا فى الحقيقة من هذا الوعى الماضوى سوى المزيد من الخراب الإنسانى والتجريف العقلي. كما يجب علينا تنقية الموروث الدينى وصوغ خطاب مختلف، أكثر حداثة، وتماسا مع اللحظة، وأن نعيد الاعتبار لقيم الثقافة والتقدم فى مواجهة الهجمة التترية الجديدة، بحيث تمثل الثقافة بحق - أداة لتحرير الوعى الإنساني، ورهانا مفصليا من رهانات المجابهة لحالة التطرف الديني، والمفضية عبر تأسيساتها التراثية إلى إرهاب تمارسه الجماعات الدينية ضد الدولة وناسها ومؤسساتها. وعلى بعض العواصمالغربية أيضا والدول المركزية فى العالم أن تفض تحالفها مع قوى القتل والرجعية والتى توظفها لخدمة مصالحها أحيانا، ومن ثم فعلينا جميعا أن نقاوم إرث التحالف بين مراكز الاستعمار الجديدة والقوى الرجعية، ولست فى حاجة إلى التذكير بالدعم السياسى اللامحدود الذى منحته أمريكا وغيرها من الدول الغربية للإخوان لدينا، ومنحهم مظلة سياسية فى العديد من المواقف والفترات! فى لحظة فارقة ومفصلية من عمر العالم جميعه يجب أن تسود جملة من القيم الجديدة، تنحاز إلى الجدارة الإنسانية، وللحريات الأساسية، ويغادر المركز الأورو- أمريكى صلفه القديم، ويتعاطى مع اللحظة من منظور أكثر إنسانية، وعدالة، فالمباديء لا تتجزأ، والإرهاب الذى صنعه الإخوان المتطرفون فى مصر يمثل الأرضية الخصبة لإرهاب يتخلق كل يوم فى أمكنة مختلفة من العالم، ومن ثم فإدانة كل الكيانات المتطرفة دون استثناء، ووضعها على لائحة الإرهاب يعد عملا مركزيا على الدول كافة أن تتوخاه. إن محاربة التطرف أضحى فريضة عالمية، ومجابهة الإرهاب بتنويعاته المختلفة خيار وحيد أمام الإنسانية فى سعيها لغد تستحقه، وتتمناه، والحفاظ على حرية الرأى والتعبير، مسألة حيوية فى عالم عماده تراسل الأفكار وتلاقحها، إن علينا ان نغادر المربع القديم الذى ننتظر فيه ماذا سيفعل بنا الإرهابيون اليوم؟ هل سيقتلون جنودنا فى سيناء، أم سيصنعون تفجيرا فى لبنان، ام سيقتلون صحفيين ورسامين فى فرنسا؟ لنخض معركة الإنسانية جميعها ضد من يسعى لتكبيلها، وقمعها، وقتل أنبل ما فيها، عبر تأميم العقل، ومصادرة الخيال، شريطة ألا تكون المعركة انتقائية ولا بإملاءات قادمة من السيد الاستعمارى المنتظر فريسته القادمة، والراعى الحقيقى لجماعات الاغتيال والقتل والتكفير. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله