على عكس ما أراد الإرهابيون الذين قتلوا بدم بارد ثمانية صحفيين فرنسيين يعملون بالصحيفة الساخرة «شارلى إيبدو»، لبث الرعب فى قلوبهم ومنعهم من نشر رسوم كاريكاتيرية مسيئة للرسول محمد عليه الصلاة والسلام، فلقد عمت موجة تضامن واسعة كل الدول الأوروبية والعالم الغربى مع الصحيفة، رفع المشاركون فيها شعارا باللغة الفرنسية «جى سوى شارلى.. نوو سوم شارلى»، أى «أنا شارلى.. نحن جميعا شارلى»، وبالطبع كان هذا الشعار ترديدا لجملة مماثلة ترددت فى أعقاب الهجوم الإرهابى على برجى مركز التجارة العالمى فى 11 سبتمبر 2011 عندما صدرت الصحف الأوروبية بعناوين بارزة «كلنا أمريكيون». ولم تكد تمضى لحظات على مقتل الصحفيين الفرنسيين، حتى انتشرت كما النار فى الهشيم كل الرسومات الكرتونية التى نشرتها شارلى إيبدو على مدى السنوات الماضية والتى احتج عليها المتطرفون ورأوا فيها مبررا لإصدار حكم بالقتل على رسامى الصحيفة، والذين لم يختصوا الإسلام فقط برسومات كرتونية ساخرة، بل كل الأديان السماوية وغير السماوية. واعتبر المسؤولون والمعلقون الفرنسيون أن ما حدث لم يكن فقط إرهابا أدى إلى سفك مواطنين أبرياء، بل محاولة لقمع حرية الرأى والتعبير التى يرون أنها مكون أساسى فى الديمقراطيات الغربية. فى وسائل الإعلام الغربية تلك يسخرون من كل شىء، بما فى ذلك السيد المسيح نفسه عليه السلام، ويصدرون أفلاما وروايات ومسرحيات تشكك فى الروايات المسيحية الرسمية. وقد تثير هذه المنتجات الأدبية والفنية حفيظة جماعات يمينية محافظة متدينة، ولكن الأمر لا يصل أبدا إلى درجة تنفيذ جرائم القتل على يد المحتجين، أو أن ترى مجموعة منهم أن الله قد منحهم الحق للثأر لدينهم عن طريق القتل. بالطبع هناك ثمن كبير سندفعه بعد أن قدم الإرهابيون هدية مجانية مجرمة لا يمكن أن تؤدى سوى إلى المزيد من تشويه صورة وفهم الإسلام فى ذهن المواطن الغربى، وكأنه كان ينقصنا المزيد من الضرر فى هذا الصدد. فمنذ هجمات الحادى عشر من سبتمبر، كل العمليات الإرهابية الكبيرة ارتكبها مسلمون، لكن الثمن المباشر الفورى سيدفعه الملايين من أبناء الجالية العربية والمسلمة فى فرنسا وأوروبا عموما. فى اليوم التالى مباشرة لعملية القتل البشعة فى مقر شارلى إيبدو انفجرت قنبلة فى مطعم مجاور لمسجد بالقرب من مدينة ليون الفرنسية، ولا أشك مطلقا أننا سنرى المزيد من هذه الهجمات على المسلمين المسالمين فى أوروبا، وهم الغالبية طبعا. وقبل يومين فقط من هجوم باريس خرجت أكبر مظاهرة معادية للمسلمين فى ألمانيا، لأنهم لا يرون فيهم سوى مصدر للمشكلات. الأسطوانة المشروخة بأن الإسلام برىء من هذا السلوك لا تكفى ولا تقنع طفلا صغيرا فى أى دولة أوروبية، فنحن نقتل بعضنا بعضا ونفخر بقطع الرؤوس، ونتساهل مع جماعات تبث منذ عقود فكرا مغلوطا بائدا تريد به إعادة بناء دولة كانت قائمة منذ 1400 عام. والعجيب أن الإرهابيين يقبلون فى دولة خلافتهم الأسلحة القتالية الحديثة والتكنولوجيا المتطورة للقتل، ولكن مع الحفاظ على ذبح الرؤوس والصلب من خلاف وقطع الأيادى والرجم وقمع النساء والتعامل معهن على أنهن أداة للمتعة فقط. إذا كنا سنبدأ ثورة فعلية فى الخطاب الدينى فإن أول ما يجب التبشير به هو قدسية الروح البشرية، وأن الله لم يقتلنا لنرهب الناس ممن يختلفون معنا فى الرأى. جى سوى شارلى لأننى أرفض القتل وسفك الدماء، وأرفض سجن صاحب أى رأى مهما كان، فالقتل والسجن لا ينهى الفكر، ولم يحدث هذا أبدا على مر التاريخ.