لا يمكن بحال من الأحوال تبرير الهجوم الإرهابي الغادر على جريدة "شارلى إبدو" الفرنسية والذى أودى بحياة إثنى عشر شخصاً منهم شرطى مسلم اسمه أحمد. لكن الموقف لا ينبغى أن يأخذنا بعيداً عن مشكلة "حمى التطرف" التى أصابت العالم، فصحيح أن هناك تيارات دينية اتخذت منحى شديد التطرف وصل إلى حد استخدام السلاح وتبرير القتل والتدمير تحت مسمى الجهاد المقدس لنصرة الدين، وهم من فاتهم أن الدين قد جاء لتنظيم حياة الناس بما يحمله من أوامر ونواه أولها تحريم قتل النفس، وصحيح أيضاً أن هذا التطرف لا دين له إذ نشأت الحركات المتطرفة فى جميع الأديان المعروفة وغير المعروفة، وأن حصاد القتل بسبب هذه الحركات المتطرفة وصل إلى أعداد تقدر بالملايين فى كل مكان، إذ لا يجب أيضاً أن ننسي أبدأ ضحايا التطهير العرقي فى العديد من المناطق الساخنة التى شهدت نزاعات قامت على أساس العرق أو الدين. لكننا إذا أردنا أن نقضي على التطرف حقاَ فإنه يجب علينا أن لا نغفل التطرف الفكرى ، إذ أن التطرف الفكرى حين يصل إلى حد السخرية والعبث بما يعتقده الناس، لا يمكن فى هذه الحالة اعتباره حرية رأى، أو أن نستبعد وصف صاحبه بالتطرف والإرهاب ما دام لم يستخدم سلاحاً بالمعنى التقنى للسلاح الناري، ذلك أن الكلمة سلاح، فاستخدام سلاح الفكر يكون فى معظم الأحيان أقوى من القنابل، إذ يمكن لشخص ما أن ينجح فى التأثير فى أتباعه وأن يوجههم للقتل والتدمير بدعوى أنهم فى مهمة مقدسة، تماماَ كما يفعل الإرهابيون... يجب أن يدرك العالم أن حرية الرأى لا تعنى أبداً قمع الآخر أو السخرية من معتقداته ومقدساته، أو أن سب المقدسات والأنبياء أمر يمكن أن يدخل صاحبه فى مصاف المفكرين والمبدعين، إذ أن التقييم الحقيقي لشخص سليط اللسان يسب أو يسخر من الآخرين لا يعدو أن يكون سوى أنه شخص بذيء "قليل الأدب" أو ربما عديمه... من هاجموا " شارلي إبدو" هم بالفعل قتلة مجرمون لا يمكن أن يراهم شخص عاقل إلا فى هذا الإطار، لكن ما تنشره جريدة شارلي إبدو من رسوم هو أيضاً من قبيل التطرف فى حرية التعبير ، وان تلك الرسوم باستفزازها لمشاعر بعض الناس بالسخرية من المقدسات التى يعتقدون فيها حتى لو كان هذا من قبيل حرية الرأى والفكر كما يرى البعض، أمر ينافى فى الأساس مسألة حرية الآخر فى الاعتقاد... أؤمن تماماً بحرية الرأى والفكر وانتقاد أى شيء وكل شيء بحثاً عن الحقيقة، لكننى كأى إنسان عاقل متمدن مسالم متسامح، أرفض وبشدة حرية الرأى القائمة على سب الآخرين والسخرية من معتقداتهم، تماماً كما أؤمن أن القتل جريمة لا يمكن السماح بها أو غفرانها مهما كانت الأسباب والدوافع... يجب على العالم الآن أن يسعى إلى إعادة نشر قيم الحب والتسامح بين البشر، وأن يكون واضحاً للجميع أن القتل بدعوى الانتصار لإله - هو فى معتقد القاتل قادرُعلى الدفاع عن نفسه أصلاً - إنما يعد من أبشع الجرائم، وأن حرية الرأى المكفولة للجميع تتوقف عند طرف أنف أى إنسان، تماماً كما قال الفيلسوف الفرنسي سارتر، وأن السخرية من معتقدات أى شخص هى جريمة لا تقل بأى حال عن جريمة القتل لأنها فى الحقيقة قتل معنوى بسلاح غير ملموس، وانه يجب أن يحاول البشر استعادة انسانيتهم عبر نشر قيم الحب و الإخاء والمساواة، عندئذ لن يكون هناك إنسان عاقل قادر على ارتكاب جريمة عنف أو قتل مهما كانت دوافعه دون أن يشعر بالخجل من حمى التطرف. [email protected] لمزيد من مقالات أحمد محمود