بصخب لافت مر عيد العمال، وبصخب مثله كانت توابعه!. وربما بدت السياقات المحيطة بالحدث ذاته دافعة لمزيد من الحراك المعتاد فى العالم، عبر تظاهرات تدافع عن حقوق العمال وتسعى للمزيد من انتزاع الحقوق المشروعة، فرأينا ذلك فى عواصم ودول مختلفة، من بينها «تركيا / أردوغان»، التى عصفت بالعمال فى عيدهم عبر إجراءات وممارسات قمعية استخدمتها الشرطة ضد المتظاهرين. وفى الداخل المصرى لم يترك الإخوان المسلمون وحلفاؤهم من المتاجرين بالدين فرصة المزايدة المجانية، محمولين على تزييف فعلى للواقع من جهة، ومتاجرة بقضية مركزية من قضايا أمتنا المصرية من جهة ثانية، فرأينا ما فعله الإخوان من تحريض للعمال على العنف، واستغلال قميء لمشكلات حقيقية فى متن الحياة العمالية المصرية، خاصة فيما يتعلق بتجريم الإضراب، وما يعنيه من إهدار لنضالات الطبقة العاملة ودفاعها المستمر عن حقوقها المشروعة، والتى انتزعتها عبر عشرات السنين من الدأب والإرادة والعمل المستمر. وفى المشهد الذى لا يتغير لمجموعات محدودة تخرج فى الشوارع فى أداء تمثيلى مدفوع الأجر، وبطريقة أقرب لمجاميع الكومبارس فى المسلسلات الرديئة، يتبنى المتطرفون الجدد الممثلون لتحالف وهمى قوامه الإخوان ومن والاهم من الإرهابيين حملة عبثية، تقطر بالانحطاط والكراهية صوب كل ما هو مصرى ووطني، وتصب مزيدا من الزيت تأجيجا لنيران لا هم لهم سوى إشعالها، وتعاير العمال بطريقة رخيصة ومهينة فى آن بشأن تجريم الإضراب، وتتخذ من «الخازوق» شعارا لحملتها التى طافت بها بعض الشوارع فى الإسكندرية. ففضلا عن الخيال العقيم والمتآمر فإن ثمة تخليا مطلقا عن قيم الوطنية المصرية وإعلان العداء السافر للأمة المصرية ولدولتها الوطنية الجديدة التى تحاول استعادة معنى الدولة ومفهومها بعد جملة من الالتباسات والتناقضات التى شابت العقود الأخيرة. وبينما يعتقد معدومو الخيال من المتطرفين بأنهم يوظفون القضية لصالحهم فإنهم فى واقع الحال يسخرون من نضالات لم يعرفوها ورجال لم يقابلوهم يوما ما، وفى نفس الوقت يتزايد معدل العنف اليومى والترويع عبر أفعال إجرامية غادرة للإرهابيين، الذين يصرون على استقبال العمال وغيرهم من الطبقات الشعبية الكادحة بالمزيد من الدم والقنابل!. تحمل الحركة العمالية المصرية تاريخا نضاليا بامتياز، بوصفها تعبيرا عن الكفاح اليومى للمصريين، ولم تكن الحقوق التى انتزعها العمال عبر تاريخ من العذابات والتضحيات سوى جانب أصيل من جدارية الإرادة والحياة لملح الأرض الحقيقي، بدءا من التأسيس لنقابة عمال السجائر، ومرورا بالإضراب الشهير لعمال الترام، ووصولا إلى كفاح العمال فى مصانع الغزل والنسيج بامتداداتها فى عموم البلاد. لكن المفارقة المؤسية أن يتاجر اليمين الدينى بتخلفه، وانحيازه العقائدى إلى تراكم رأس المال، بقضايا العمال، التى لم يكن للإخوان أى حضور فيها على الإطلاق، ولم يقدموا أية نماذج مضيئة للحركة العمالية المصرية مثلما فعلت القوى الوطنية بتنويعاتها، ومن المخزى أن يزايد رأسماليو اليمين الديني، من أتباع النمط الاستهلاكى فى رؤية العالم، والموصولين بخيط الرأسمالية العالمية فى أسوأ تجلياتها وأقبحها، على قضية لم يكونوا جزءا منها يوما ما، بل يثبت التاريخ أن الإخوان المسلمين وقفوا كثيرا مع السراى والملك والإنجليز ضد نضالات العمال قبل ثورة يوليو المجيدة، وكانوا أكثر الفرحين بإعدام خميس والبقرى عقب ثورة يوليو 1952، وبما يعنى أن الرأسمالية الهشة لقوى اليمين الدينى من السماسرة وتجار العملة لم تكن قط فى صفوف العمال، ولن تكون أبدا. تبدو التصورات الماضوية حاكمة لنظرة اليمين الدينى لقضايا العمال ومصائرهم، فالقوى الرجعية ترى الأوضاع فى ثباتها وجمودها، واستقرارها الرتيب، وتسعى طيلة الوقت للحفاظ على التراتبية القائمة تحت مظلة عقائدية ترسخ لفكرة الرضا الزائف، وتكرس لجمود الحال، وبما يحيل إليه المعنى من تسويغ لفكرة الثبات، وضرب لفكرتى الحراك الاجتماعي، والجدل الخلاق الذى تبنى عليه الأمم، وربما كان الخطاب الدينى المهيمن أثناء حكم الجماعة الإرهابية يدعو إلى مزيد من الانصياع والقبول بالواقع، وبدت الميتافيزيقا حاضرة وبضراوة. يبقى أن تصل مصر لصيغتها التى تخصها بعيدا عن التنميطات الاقتصادية الكلاسيكية، والتى أغرقتنا فى تبعية معطلة لقوى التقدم لدينا، وبما يعنى الحاجة إلى انحيازات اجتماعية واقتصادية بنت ناسنا من جهة، وبنت زمانها من جهة ثانية، وعبر هذا الفهم يمكن أن يتأسس واقع جديد، يحفظ آمال الناس وأمانيهم فى غد أكثر جمالا وعدلا وإنسانية، شريطة أن تنظر الدولة المصرية لقضايا العمال بوصفها جزءا أساسيا من قضية التطور بتجلياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. وبعد.. تبدو قضية العمال قضية لمصر ذاتها، ولوطن فى طور البناء، ولدولة تسعى لاستعادة عافيتها من جديد، ولذا فليس أقل من اهتمام أشد، وتكريس لفكرة العدالة الاجتماعية، وانحياز واضح للقوى المهمشة والممثلة للسواد الأعظم من المصريين، أملا فى بناء مختلف، يليق بأمة تبني، وأيد تعمل، وبشر يسطرون التاريخ الفعلى للوطن. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله