انشغلت بمتابعة إضراب عمال الطوب فى الجيزة الذى دام أكثر من أسبوعين. وهو حدث غير مسبوق فى تاريخ هذه الصناعة وتلك المنطقة. لكنه قوبل بما يشبه التعتيم الإعلامى شبه التام. ولذا ذهبت لاستيضاح الأمر الى قرية الكداية بمركز أطفيح على بعد نحو خمسين كيلو مترا فقط جنوبى حلوان. وداهمنى خبر وفاة المناضل اليسارى والحقوقى الإنسان أحمد سيف الإسلام حمد وأنا أستعد لتخصيص هذا المقال لأحوال عمال الطوب عندنا. وهى تستدعى الى الأذهان التاريخ الوحشى الأسود لسنوات بواكير الرأسمالية وحال الأجيال الأولى من الطبقة العاملة فى أوروبا قبل نحو ثلاثة قرون وأكثر. إلا ان حيرتى فى اهتبال فرصة مقال كل أسبوعين بين الكتابة عن العمال أو عن سيف لم تدم طويلا. إذ سرعان ما اكتشفت وكأننى أكتب فى قضية واحدة. وحقيقة لا يتخيل المرء فى القرن الحادى والعشرين مثل هذه الأوضاع غير الإنسانية لتشغيل عمال صناعة الطوب باليومية فى مصر. وأمامى دراسة ميدانية ممتازة للباحثة انتصار بدر تكشف عن استخدام طرق ووسائل إنتاج بدائية وغير آمنة وتفتقد الى أبسط ضمانات السلامة المهنية، فضلا عن غياب الخدمات الأساسية مثل المياه النقية و الإسعاف. ونبهت الدراسة الى انتشار الشيخوخة المبكرة بين شباب سرعان ما يعجزون عن ممارسة أى عمل بحلول سن الأربعين. ولقد لاحظت بنفسى عند زيارة الكداية مدى انتشار إصابات العمل المفضية الى العجز الكلى او الجزئى . لكن أخطر وأعجب ما تيقنت منه هو شيوع تعاطى وإدمان حبوب الترامادول من أجل احتمال عمل بدنى شاق قد يمتد الى14 ساعة يوميا وأكثر. و حتى الأطفال العاملون فى الصناعة لم يسلموا من تعاطى الترامادول وعلى نحو جماعى. وحيث يجرى اذابته لهم فى براد الشاى. وعلى أى حال فقد حدث الإضراب على مساحة شاسعة من الريف. ونجح فى تحقيق زيادة ما فى أجور العمال. صحيح انها ليست الزيادة المرجوة أو التى تواكب الارتفاع الجنونى فى الأسعار.وصحيح ان مطلب التأمين الاجتماعى والصحى مازال بعيد المنال. لكنه بداية نضال فى مواجهة رأسمالية الترامادول المعززة بانحياز جهات رسمية للناس الواصلين الذين اخذوا فى التحريض ضد المضربين و اتهامهم زورا بانهم إخوان، مستغلين المناخ السياسى الأمنى السائد. ولقد نذر أحمد سيف نفسه للدفاع عن حقوق العمال والمضطهدين منذ سنوات الجامعة فى عقد السبعينيات. كما عرفته فاعلا ثقافيا عندما شارك فى تأسيس دار نشر القاهرة التى قدمت فى مطلع الثمانينيات العديد من الكتب المهمة خارج حظيرة الثقافة الرسمية التى لم تكن بعد قد اكتظت بالمستأنسين. وعكست اصدارات الدار وصالونها الأدبى انحيازا الى القضايا الاجتماعية والوطنية. لكن السجون غيبته اعتبارا من1983 لخمس سنوات. استغلها فى دراسة الحقوق حتى خرج ليصبح واحدا من ألمع محامى الشعب على طريق القديس نبيل الهلالى. فلم يبخل بجهده فى الدفاع عن العمال و الفلاحين والمضطهدين ومن أقصى اليسار الى الإسلاميين. وربما لا يعرف الكثير من الصحفيين أن مركز هشام مبارك فى ظل إدارة سيف كسب لهم قضية رفعها كاتب هذا المقال مع زميله عصام عبد الحميد بين عامى 2003 و2005 لاعادة انتخابات نقابتهم الى لجان الألف باء ولانهاء تأثير لجان المؤسسات. وهكذا انتزع المركز ضمانة ديمقراطية للعمل النقابى فى أوج بطش وفساد أباطرة الإقطاع الصحفى السياسى ممن جمعوا بين مناصب رؤساء مجلس الإدارة والتحرير والنقيب وعضوية حزب مبارك. وبالفعل استطاع أحمد سيف ان يحول مركزه الحقوقى الى فضاء حر لانشطة الدفاع عن المضطهدين والحالمين بالحرية والعدل فى هذا الوطن، متحملا بذلك أعباء النضال على أكثر من جبهة فى الحقوق السياسية والاجتماعية. ولاشك انه شخصيا وأسرته استمرا يدفعان ثمن هذا النضال المتعدد الجبهات والى الآن. ولن أنسى كلماته فى ندوة نظمها بالمركز هذا الصيف للاستماع الى شهادات أهالى المحتجزين على خلفية سياسية، وذلك قبيل أسابيع معدودة من اجرائه عمليه القلب المفتوح. وقتها عبر بصدق عن خشيته ألا نجد أسوأ من أحوال حقوق الانسان فى بلادنا الآن إلا تلك الفترة التى أعقبت هزيمة الثورة العرابية وبدء الاحتلال البريطانى عام 1882. كما دعا الجميع للتوحد لمواجهة هذه المخاطر. وبعد الندوة بأيام جرى اعتقال ابنته الصغرى سناء وحبسها متهمة بخرق قانون التظاهر الجائر. ولتلحق بشقيقها علاء عبد الفتاح. ولعل فى محنة أسرته الصغيرة وزوجته الدكتورة ليلى سويف وقد تحولتا الى أيقونة صمود مايشبه بؤس وقسوة رأسمالية الترامادول .وهى التى اندثرت مثيلاتها من العالم المتحضر قبل أكثر من قرنين. ففى مصر عام 2014 أيضا وقف الأب سيف يوما ما ليتأسف لأبنائه أنه أورثهم زنازين مازالت تبتلع المعارضين فى السياسة والفكر. وسخر من أن ابنته الوسطى منى ولدت وهو فى سجون مبارك وان حفيده خالد جاء ووالده علاء فى سجون المجلس العسكري. وهاهو نفسه يرحل عنا الآن ونجلاه علاء وسناء فى السجون. ولاشك أن الطريق الى إنسانية المصريين وحقوقهم الاجتماعية والسياسية مازال طويلا برغم نضالات أمثال سيف وعمال الطوب . لكن الزخم الشبابى الذى أحاط بمولد إضرابات العمال هناك فى قرى الجيزة وكذا برحيل سيف هنا فى القاهرة يفيد بأن شيئا تغير فى هذا البلد، وانه لايمكن العودة بعقارب الساعة الى الخلف. لمزيد من مقالات كارم يحيى