يروج العلمانيون عندنا لتصور الإيمان دخيلا على معتقداتنا، وهو التصور أو المفهوم الفلسفى للإيمان، وذلك فى مقابل التصور الدينى أو الإسلامى، وهو إيمان لا يصدرون فيه عن رسائل السماء، ولكن عن أصول فلسفية قال بها أرسطو عن العقل المطلق الذى هو غاية الحركة فى الكون أو القوة الموجدة للكون ونواميسه دون أن يكون لهذه القوة شأن فى تسيير أمور الخلائق، أو كما قال قائلهم إن الله موجود ولكن لا داعى لوجوده. من هذه الترهات ومثيلاتها يستقى جل العلمانيين مفاهيمهم عن الإيمان. وهو إيمان يدخل فى مفهومه كل أصحاب الديانات السماوية بل وغير السماوية أيضًا، بل يدخل فى إطاره حتى الملحدون الذين لا يؤمنون بالأديان، بل إن فرعون وهامان وجنودهما وفقا لهذا المفهوم الفضفاض من المؤمنين، وكذا أبو لهب وأبو جهل، ألم يكونوا يؤمنون بأن الله هو الخالق للكون وإن صرفوا بعض صنوف العبادات إلى غيره من الشركاء.. وإن كانوا هم لا يصرحون بهذا، ولكن مقتضى فهمهم يؤدى إلى ذلك. هو إيمان من نوع عجيب، لا يقابله كفر لأن الكفر ذاته داخل عندهم فى مفهوم الإيمان.. يكفى أن تؤمن بشىء ما، أو بقيمة ما من قيم الخير أو العدل، أو حتى تؤمن بنفسك أو بالإنسان عموما لكى تكون مؤمنا. أما الإيمان الذى تحكمه نصوص الكتاب والسنة أو تحدد طبيعته الرسالات السماوية فليس إلا تنويعات عقائدية لا تستأثر بأصل قضية الإيمان. الإيمان عندهم بلا تبعات أو تكاليف، لا يتأثر بالالتزام بالأحكام الشرعية من عدمه ولا يرتبط بالشعائر الدينية أداء أو تركًا. وهم يجدون فى تصريحات ومداهنات بعض المنتسبين للعلم الشرعى متكأ وملاذًا لتسويق تصورهم، فيعتبرون مثلا أن تكفير غير المسلمين هو فكر سلفى وهابى مناف لوسطية الإسلام وسماحته برغم النصوص القرآنية القاطعة فى هذا المعنى. والإيمان وفقًا لهذا التصور شىء مخبوء فى حنايا القلب ليس له أى مظهر خارجى من قول أو فعل، وهو جوهر ثابت لصيق بالإنسان مهما تناقضت أقواله وأفعاله مع مقتضيات الإيمان، لأن الإيمان عندهم ليس له مقتض. لذلك تراهم يستنكرون أى مظهر إسلامى ويتعجبون من انتشار القنوات الفضائية الدينية، ويعتبرون أن المرجعية الإسلامية للأحزاب وللنظام السياسى فى البلاد هى وهم وخرافة ليس لها من هدف سوى دغدغة مشاعر العامة والبسطاء، ويرون أن انتشار الحركات الإسلامية ونجاحها الكاسح فى الانتخابات الأخيرة مرده إلى انتشار الجهل والأمية بين المصريين. وهم يعانون من أمراض عدة منها الجهل المركب والحول المعرفى، فهم يعتبرون أن قول الله تعالى "أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون"، وما فى معناه من نصوص هو تفسير سياسى لنص دينى يعكس رؤية وتصوراً متطرفاً للنص، وليس هو جوهر النص.. فى حين يرددون ما فى الإنجيل من مقولة "دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر" وكأنها آية قرآنية وخطاب موجه لنا نحن المسلمين. أما حديث النبى صلى الله عليه وسلم عن تأبير النخل ونهيه للصحابة عنه، فعندما لم يثمر قال لهم "أنتم أعلم بشئون دنياكم"، فكأنهم لا يعلمون من الكتاب والسنة غير هذا النص فينزعونه من سياقه نزعًا ويجعلونه وكأنه ناسخ لكل شرائع الإسلام فى كل المجالات.. فما سوى الشعائر عندهم هو من شئون الدنيا مهما ورد بشأنه من نصوص وأحكام شرعية ثابتة ثبوتًا يقينيًا. والنصوص عندهم سوائل لا لون لها ولا قوام، تتشكل وتتلون بشكل ولون الوعاء الذى يحتويها والوعاء هنا هو العقل البشرى والقراءة الذاتية للنص..لأن النص قد مات مؤلفه ولم يعد يقل شيئًا منذ أربعة عشر قرنًا، كما يقول بعضهم، وكل حكم يستنطق به النص هو وجهة نظر القارئ للنص وليس هو المعنى الحقيقى للنص.. فلا أحد يعرف الحقيقة المطلقة، فضلا عن أن يملكها. لقد تجاوزت التخريفات العلمانية حدود استعمال العقل فى فهم النص إلى اعتبار العقل حكمًا على النص مهما كان مصدره ولو كان هو الله جل فى علاه، فهم يرون أن العقل المجرد هو مصدر المعرفة والله والأديان من المعارف التى اهتدى إليها العقل البشرى وصاغ معانيها وتصوراتها فلا يتصور أن تكون حكمًا عليه أو قيدًا على تجلياته مهما بلغ بها الشطط.. لذلك يسمون الدين ب"الفكر الدينى". إن العلمانية لا تهدف فقط كما يروجون إلى فصل الدين عن السياسة، ولكنها تهدف إلى ما هو أبعد أثرًا وأخبث مقصدا وهو القضاء على حقيقة الدين وفصله عن مصدره وقطع الصلة بينه وبين السماء، وإخضاعه لمصدره الموهوم عندهم وهو العقل. إن الإيمان الذى يصوغ الوحى أركانه وترسم الرسالات والنبوات خطوطه وتحد الكتب السماوية حدوده لا يمكن أن يلتقى قصدا أو عرضا مع هذا التصور العلمانى للإيمان، فكلاهما يسير من الآخر فى خط مواز لا يلاقيه أو يدانيه، فضلا عن أن يلتئم جوهرهما فى قلب أمرئ. " وإنا أو إياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين".