بدا مدهشا للغاية أن يدعو وزير الثقافة الحالي، وبحسب نص الأخبار المتواترة أكثر من ثمانين داعية للمشاركة فى ندوات رمضانية بعد الإفطار، للحديث عن الاستنارة والدولة المدنية، وغيرها من القضايا التى تهم الشعب المصري وتتصل بأهمية وجود دولة ديمقراطية مدنية حديثة«!، وبما يعنى أنه بدلا من تخليق حالة تنويرية حقيقية، فإن ثمة مغازلة للتيارات الدينية من جهة، ومحاولة لإعادة إنتاج العقل المحافظ، والتكريس له من جهة ثانية، فبدلا من أن تسعى الوزارة بهيئاتها المختلفة لخلق مناخ داعم للدولة المدنية ، لا يقبل المساومة على قيم التقدم، إذا هى لا يخرج انحيازها لقيم التنوير الحقة عن محض تصريحات مجانية للاستهلاك المحلى ، والمحصلة النهائية تفضى إلى استمرار الغياب عن التأسيس لمشروع ثقافى وطنى تنويرى وطنى الملامح والهوي، يرتكن على مناهضة الأفكار الأصولية، ومحاربة التيارات الرجعية ومجابهتها، ووصل الثقافة براهن المصريين، والتعاطى معها بوصفها حالة مجتمعية بالأساس، تؤسس لخيال جديد، وتنحاز إلى تبصير الجماهير بواقعهم، وتثوير وعيهم، وتنويره فى آن. إن ممالأة السلطة الدينية، والتكريس لهيمنتها على واقع المصريين، عبر التواؤم معها، ومحاولة خلق خطاب تصالحى استهلاكى صوبها، يعنى تخليا عن قيم العقل والخلق والابتكار، وانحيازا للماضى على حساب الراهن المعيش، وبما يشى بأن فى مأزق الثقافة تلخيصا بليغا لمأزق الثورة ذاتها، فلا يزال الوعى القديم مهيمنا، على الرغم من دماء المصريين التى سالت، والتضحيات الجسام التى كانت عبر ثورتين مجيدتين، وبدا واضحا أن ثمة انحيازا للماضى بشخوصه ولوازمه، وبناه التقليدية، ومثلما مثّل اختيار الدكتور جابر عصفور وزيرا للثقافة صدمة لدى قطاعات من المثقفين، فإن توزيره أيضا بدا تعبيرا عن خيال قديم للغاية، وتكريس لواقع ثقافى كرنفالي، يحتفى بالمظهر لا الجوهر، ويعنى باستئناس المثقف وتدجينه، بدلا من التكريس لحالة موضوعية فى الثقافة، تستعاد فيها قيمة المثقف المصري، الحامل أحلام شعبه فى غد أكثر جمالا وعدلا . وربما كان من الأولى لوزارة الثقافة أن تسائل شبكات المصالح التى تشكلت داخلها منذ نحو ثلاثين عاما، وتعمل على تطهيرها، وأن يصبح ذلك بمثابة النواة الأولى لرسم سياسات ثقافية بحق، تليق بالدولة المصرية وبالثقافة بوصفها معنى مضافا وقوة ناعمة جديرة بالخلق والابتكار. ولا بد للسياسات الثقافية المبتغاة أن تكون مستمدة من واقع المصريين أنفسهم، من حاجتهم لعالم يتأسس على استعادة المعني، والانتصار لإنسانية الإنسان، ومن ثم يتوجب تهيئة المناخ لتخليق حالة من الوعى الممكن لدى ناسنا وجماهير شعبنا، وأعنى ذلك الوعى القادر على الاستشراف والتخطي، وبذا يصبح التنوير وسيلة وغاية فى آن، لا محض واجهة مصطنعة، عبر ذهنية جديدة ترى الأشياء فى تجاورها، وتعى أن الأفكار القديمة لم تعد على الإطلاق صالحة للوجود فى المستقبل. إن استعادة الثقافة بوصفها معنى وقيمة فى حياة المصريين لا ينفصل عن قدرة الثقافة على تطويع السياسة، ورفدها بقيم جديدة، تعيد لها أخلاقيتها المهدرة، بدلا من أن تتحول الثقافة لمطية للسياسة طيلة الوقت، وعلى هذا الأساس يجب أن ترى السياسات الثقافية جدلا خلاقا ما بين السياسى والثقافي، تبدو فيه الثقافة بمثابة العقل المركب، القادر على صوغ أكثر إنسانية. كما تبدو الحاجة ماسة إلى تحرير الوعى المصري، ومجاوزة العقل المحافظ، والتقليدي، والكف عن محاولة إنتاجه، تارة بدعوى المصالحة بين المتناقضات، وتارة تحت وطأة السلطة الدينية، وتارة ثالثة تكريسا لصيغ التحالف بين الفساد والرجعية والحاضرة منذ العام 1974بعام الانفتاح الاقتصادي«، وحتى اليوم، ومن ثم فليس أقل من انحياز عارم للعقل الطليعى الجديد، ابن النّفس الراهن، والوعى المتجدد، وبذا يتأسس خيال مختلف بحق، يصبح قادرا على خلق واقع جديد، يحقق فيه المصريون ما طمحوا إليه، وما خرجوا من أجله فى ملحمتهم الثورية التى كانت أكثر جلالا مما تعتقد بعض النخب التى لم تثق فى ناسها، ولم تؤمن بقدرتهم على الرفض والثورة. إن محاولة صوغ سياسات ثقافية جديدة يقتضى التأسيس لواقع جديد، لا يعاد فيه إنتاج الحظيرة الثقافية بعقلها المدجن، ولا يختلط فيه الحابل بالنابل، فيعاد إنتاج العقل المحافظ، وهذا ما يجب أن تلتفت إليه الدولة المصرية ذاتها، لأن رهانها على المستقبل لا يجوز أن يكون رهانا عمليا على الماضي!، كما يجب العمل على خلق تماسات حقيقية بين التعليم والثقافة لدينا، بحيث تصبح المسألة التعليمية مشروعا وطنيا للدولة الجديدة، وأن يمد ذلك الخيط الواصل بين التعليم والثقافة، بحيث يصبح التعليم بمثابة المناخ العام الداعم للثقافة، وتصبح الثقافة إطارا للتعليم، ومحركا له فى آن، ومن ثم يصبح هذا التماس أساسا لمجابهة حقيقية لقوى الرجعية والتخلف، واستعادة للدور الفاعل للأفكار التقدمية. وبعد.. إن الانحياز الجسور للعقل الجديد، ومجاوزة ذلك العقل الكلاسيكى الجامد، يعد فى جوهره انتصارا لقيم الثورة المصرية ذاتها، بوصفها بدت انحيازا للخيال المقاوم فى مواجهة القمع والتكلس والرجعية، وهنا تصبح الثقافة إطارا فكريا للثورة، وعونا لها فى مواجهة خصومها، أما المهادنة والمساومة على العقل فإنها لن تفضى بنا إلى شيء، سوى المزيد من التردى الفكري، والوقوع فى فخ انحطاط تاريخى يتحمل تبعته حينئذ مثقفو الحظيرة، ومن معهم من صغار المدجنين. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله