ثمة مسافة حقيقية يجب أن يبقى المثقف عليها فى علاقته بالسلطة، مسافة تقربه أكثر من الجماهير، بوصفه حاملا أشواقهم الإنسانية فى عالم أكثر حرية وجمالا وعدلا، وبما يعنى أن حركة المثقف فى مجتمعه ليست منشأة فى الفراغ، أو حرثا فى الماء، بل إنها بنت سياقها السياسي/ الاجتماعي، معنية به، ومشغولة بواقع ناسه؛ بغية تبصيرهم بعالمهم، وتثوير وعيهم، وتنويره، وصولا إلى ذلك الوعى الممكن، القادر دوما على الاستشراف والتخطي، لا السكونية والثبات. من هنا يمكننا أن نرى تلك الفجوة المتسعة بين كثير من النخب الثقافية وجماهير شعبها من ناحية، وبين الأداءات المهترئة للنخب الثقافية وقناعاتها التى ترطن بها دائما من ناحية ثانية. وتكتمل دائرة البؤس السياسي/ الثقافى حين تكرس السلطة بعمد أو بجهالة- لمشهد قديم، مغرق فى فشله وفساده وماضويته فى آن، ربما انطلاقا من خيال تقليدى لا يزال يتعاطى مع الثقافة من منظور استهلاكى «ساداتي/ مباركي» الطابع، وبما يشعرك بأن السلطة أى سلطة- تحيا علاقة ألفة مع مثقفيها، وتتعامل معهم وفق صيغة سرمدية، وبما لا يليق بأمة ناهضة صنعت ثورتين مجيدتين فى غضون ثلاث سنوات وشهدت زخما سياسيا/ ثقافيا هائلا. السلطة تريد مثقفها مستأنسا، تدجنه وقتما تشاء، وكيفما تريد، ومثقفها يحيا بوجهين، وجه معها، ووجه مع جماهيره، فهو بإزائها تابع، وبإزاء جماهيره قائد رأى رطانه منذور فقط لخدمتها، ولمصالحه الخاصة، يقدمه وقت الطلب وحسب الحاجة، وهذا الصنف من المثقفين تراهم دائما مع كل رئيس وخلف أى زعيم رافعين رايات الثورة بيد، بينما يغتالون باليد الأخرى مستقبل وطن. ثمة صنف آخر يلعب فى الاتجاه المعاكس، هؤلاء يمتهنون النضال، ويتعاملون معه بوصفه حرفة، فابتذلوه ابتذالا، هؤلاء يزايدون على كل شيء، وأى شيء، على الماء البارد حتى، لم هو بارد هكذا؟!، لكنهم من جانب آخر لا يتورعون عن التكريس للفساد الثقافي، الذى زكمت رائحته الأنوف، ولا يتوقفون عن تلقى الهبات من وزارة الثقافة ويقفون بتطاول يليق بمرتزقة أمام أى محاولة حقيقية لتغييرها، ودفعها صوب امتلاك مشروع ثقافى وطنى الهوى والملامح، يعبر عن ناسنا وبيئاتنا، وثقافتنا الطليعية. إن الثورات فعل استثنائى فى حياة الأمم، لا تصنعه على سبيل الترف، أو كسر الملل، لكنها تصنعه لغاية، وتنجزه لهدف، وتبذل فى سبيله الدماء، فتبكى الأمهات جراء الفقد، ويحيا الشباب فاقدا بصره طيلة عمره، لا لشيء إلا لأن هذه الأمة حينما خرجت على نظامى مبارك ومرسي، كانت قد قررت أن تحوز إنسانيتها من جديد، لكن الثورات السليبة سرعان ما يسطو عليها جماعة إرهابية كما حدث من قبل الإخوان الفاشيين حين سطوا على ثورة يناير، أو أن يحاول نظام قديم أن يسطو عليها كما يحدث من جماعات الفلول المباركية مع ثورة الثلاثين من يونيو، ولعل ما تداولته الصحف بشأن الحوار العاصف بين المشير السيسى وعدد من رجال الأعمال جراء تأكيده لهم حتمية قيامهم بدور اجتماعى تجاه الفقراء والمهمشين، ينبئ عن أن ثمة واقعا مباركيا قديما يريد بعض رأسماليى عصر مبارك الإبقاء عليه. وعلى الدولة المصرية أن تعيد صياغة العقل العام، بما يتواءم مع اللحظة الراهنة، ويفى بمنطقها بالغ التعقد والتشابك، الذى يستدعى خيالا جديدا للتعاطى مع كل شيء، فالتصورات القديمة تكرس لواقع قديم، وفى دولة الثلاثين من يونيو من العيب أن تعود النخب الثقافية التى تمترست فى عهد الموات السياسى والثقافى المباركى لتطل علينا من جديد بوصفها معبرة عن المثقف المصرى اليوم، وممثلة لذلك «الآن/ وهنا» ، وبما يعنى أن الثورة حقا لم تصل إلى الثقافة ولم تقرب بابها قط. وعلى السلطة الجديدة التى ستتشكل بعد انتخابات الرئاسة والبرلمان أن تدرك أن نجاحها فى ولائها للناس، وفى انتصارها لهم، وفى محاولتها إيجاد آلية جديدة للفرز، بعيدا عن التفكير القديم بآلياته التى لم تغلب طيلة الوقت سوى معيار أهل الثقة على معيار أهل الكفاءة، فانتهى الأمر بنا إلى معدلات فقر وبطالة وفساد وظلم اجتماعي، وتراجع مخزٍ للدور الثقافى المصري. كما يجب على السلطة التى تتشكل الآن أن ترى فى الثقافة آلية واعدة للنهوض بالمجتمع، وألا تتعامل معها من منظور أنها ملك لمجموعة مثقفين يرطنون أكثر مما يخلقون إبداعا، وأن تضع فى حسبانها حتمية امتلاك مشروع ثقافى كبير يعد تعبيرا عن آمال الثورة المصرية وتطلعاتها وأمانيها صوب عالم حر وتقدمى ونبيل، يؤمن بكل قيم التقدم والاستنارة والحداثة والإبداع، ابن أوانه وخياله الخصب الجديد،بما يوجب حضورا بارزا ومختلفا للمنظور الثقافى فى التعاطى مع مشكلات الواقع المصرى وقضاياه، بدءا من سعى الثقافة لايجاد بنية ذهنية اكثر حداثة، مرورا بتخليق سياق تنويرى قادر على مواجهة قوى التخلف والرجعية، وصولا إلى استعادة الثقافة لدورها المركزى بوصفها القوة الناعمة للدولة المصرية الجديدة. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله