احتضنت مكتبة الإسكندرية فى الأسبوع الماضى مؤتمرها الثانى حول موضوع «صناعة التطرّف.. قراءة فى تدابير المواجهة الفكرية»، الذى حظيت بشرف المشاركة فيه مع ثلة كبيرة من المثقفين والإعلاميين العرب. وقد حاول المتدخلون خلال ثلاثة أيام، رصد وتحليل ظاهرة التطرّف والتطرّق إلى أسبابها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتعليمية وباقى الأسباب المتداخلة فى ما بينها، التى تؤدى فى النهاية إلى نتيجة واحدة مقلقة، وهى إفراز مجتمعات متطرّفة لدى بعض عناصرها القابلية إلى أن يتحولوا إلى جهاديين وأن يلتحقوا بصفوف التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيم داعش الذى بات يقض مضجع العالم بعدما كبر حلمه بالخلافة وتمدّد وجوده على الأرض، فتحوّل من تنظيم صغير محلى إلى تنظيم قوى دولى يحتل الأرض، ويمتلك الموارد البشرية والمادية ليتوسّع فيها أكثر. مؤتمر مكتبة الإسكندرية كان فرصة لوضع اليد على مواطن الخلل وقرع أجراس الخطر أمام ظاهرة باتت تُهدد الإنسانية جمعاء بعدما استطاعت أن تقتات من أخطاء هذا العالم ومطامعه وخلافاته وحروبه وصراعاته، سواء من أجل السلطة والمال أو من أجل الدفاع عن الوجود والاستمرارية أو الدفاع عن المصالح الأيديولوجية الضيقة، والمؤتمر كان أيضاً فرصة للحديث المستفيض عن دور الإعلام، ليس فقط فى مواجهة التطرّف، لكن أيضاً فى صناعته من خلال ندوة خُصصت لهذا الموضوع. فالتطرّف، وما يفرزه من إرهاب، بات يمثل فى اللحظة التاريخية الراهنة تحدياً عالمياً وإقليمياً تعكف المؤتمرات والندوات ومراكز القرار البحثى والسياسى على دراسة أسباب نموه وتجلياته وتدابير مواجهته، ولعل من يلعب دوراً مزدوجاً ويمكن أن يكون صانعاً أو مواجهاً للتطرّف أو الاثنين معاً فى الوقت نفسه، فى تناقض صارخ، هو الإعلام، الذى يجد نفسه اليوم فى أزمة حقيقية بعدما أسهمت موجات التحولات والتقلبات العربية، وما تخللها من تجاذبات سياسية، فى إبراز الوجه القبيح للإعلام ومدى مساهمته فى تفاقم ظاهرة التطرّف، بوعى أو دون وعى، بعدما تحوّل العديد من المحطات الإعلامية إلى منابر لنشر خطابات الكراهية والتحريض. فالإعلام فى هذه المرحلة لعب دوراً مباشراً أو غير مباشر فى نشر الأفكار المتطرّفة. فالتعبئة والشحن يخلقان أفكاراً متطرفة من حيث درجة الاعتقاد تجاه تيار معين، بعدما أصبحت ساحة التنظير متاحة للجميع، دون توجيه وتنوير حقيقى، وغاب عن الإعلام دوره المركزى فى نشر الخبر بموضوعية، وتحليله بموضوعية أيضاً، واستقطاب عقول وتطلعات الشباب، الذين هم وقود البناء والتغيير، باعتبارهم العنصر المستهدف فى الإغواء والتضليل والتطرّف. وهذا بالتحديد ما نجحت فيه التنظيمات الإرهابية، التى تخوض حملة واضحة لاستقطاب الشباب مع التركيز على صغار السن، مستغلة الطفرة التكنولوجية والحرب الإعلامية المنظمة والذكية التى تستخدمها، والتى تعتمد على التطبيقات الإلكترونية فى الهواتف الذكية، والتى تشجع على العنف، وعلى وسائل الإعلام الحديثة والمواقع الاجتماعية التى يستطيعون من خلالها بناء حملات إعلامية ضخمة لا يدفع فيها قرشاً واحداً، فى الوقت الذى تقوم فيه وسائل الإعلام التقليدية بالتعامل مع التنظيمات الإرهابية بشكل دعائى وترويجى، والهدف يكون جذب أكبر عدد من الجمهور ولو كانت المادة دموية وتسهم فى الدعاية للإرهاب. الإعلام فى ظل البحث فقط عن الربح وبيع المادة، وفى ظل غياب استراتيجية أو أجندة إعلامية خاصة، بمواجهة التطرّف والتعامل مع الإرهاب، تتبنى حملات للتوعية من خطر تلك الجماعات وتفنيد أفكارها بدلاً من دعمها بنشر بياناتها وفيديوهاتها، يبقى إعلاماً صانعاً للتطرّف ومشجعاً للإرهاب ما دام لم ينجح بعد فى مواجهتهما أو التعامل مع مختلف صورهما باحترافية كبيرة. الإعلام أمام امتحان صعب، ويجب تأهيله ليتخاطب مع الفكر بفكر. فدور وسائل الإعلام يجب ألا يبقى مقتصراً على نقل صور التطرّف وأخبار الإرهاب فقط، بل يجب أن يتعداه إلى التوعية بمخاطر الفكر المتطرّف ونقض خطاباته وتقديم صورة حقيقية للاعتدال من خلال برامج تقوم على نشر ثقافة الحوار والتسامح والانفتاح على الرأى والرأى الآخر. وأن يقدم الإعلام الصورة السلبية للتطرّف وانعكاساته على الفرد والمجتمع، ويكشف خفايا التنظيمات الإرهابية ومساراتها الفكرية وآليات عملها واستغلالها الجهل الدينى أو الحقد المجتمعى الذى يمكن أن يشعر به بعض الشباب، وكل ذلك بهدف تنوير العقول وتوضيح الصورة الغائبة عن الكثير فى مجتمعاتنا التى لا تزال تنخدع بخطابات الجهاد والخلافة والجنة والحور العين. كما يجب العمل على إنتاج مضامين إعلامية تسهم فى مواجهة التطرّف والإرهاب من خلال الدراما، الموسيقى، برامج الأطفال، برامج وثائقية.. والتعاطى مع الإرهاب بطريقة مهنية وعملية يتطلب أيضاً إنشاء وحدات رصد لدراسة التغطيات الإعلامية المختلفة لقضايا التطرّف والإرهاب، للوقوف عند نقاط القوة ونقاط الضعف وتزويد الصحفيين بالنماذج الناجحة والفاشلة لهذه التغطيات، للاستفادة منها وعدم الوقوع فى الأخطاء نفسها. الحرب أصبحت حرباً إعلامية منظمة، وإن لم يكن الإعلام العربى عند مستوى هذه الحرب، أو استمر فى إنتاج مواد تؤجّجها وتزيد من وتيرة التطرّف والعنف سنجد أنفسنا أمام واقع أشد ظلماً لأبنائه وأكثر عبئاً على الأوطان إن لم نستطع بمساهمة الإعلام وباقى مؤسسات الدولة المعنية التماسك ضد أى فكر متطرف أياً كان دينياً، سياسياً، اجتماعياً، أو ثقافياً.