فى زيارة أقل ما يوصف بأنها تاريخية وإنسانية فى نفس الوقت لجلب السلام إلى المنطقة العربية والشرق الأوسط. قام فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف بزيارة تاريخية هذا الأسبوع إلى إيطاليا للمشاركة فى فعاليات المؤتمر العالمى للسلم، حيث التقى الإمام الأكبر لأول مرة بابا الفاتيكان ليو 14، وذلك بهدف تعزيز الالتزام باتفاق وقف إطلاق النار فى قطاع غزة، ودعمًا للمساعى المصرية والعربية والدولية لإحلال السلام ووقف معانات الشعب الفلسطينى الشقيق. المؤتمر العالمى الذى نظمتة «سانت إيجيديو» تحت عنوان «إيجاد الجرأة للسعى لتحقيق السلم» وحضره عدد من القادة وصنّاع القرار، وفى مقدمتهم البابا والرئيس الإيطالى سيرجيو ماتاريلا، وملكة بلجيكا ماتيلد، إلى جانب نخبة من رموز الأديان والمفكرين من مختلف أنحاء العالم. وفى كلمته، أكَّد فضيلته أنَّ مفهوم العدل المطلق هو القاعدة الذهبيَّة التى قامت عليها السَّموات والأرض، وجعلها الله ضامنةً لحقوق الإنسان فى المساواة والحرية والكرامة والأمان والسلام، والإخاء الإنسانى بين البشر على ما بينهم من فوارق العرق والجنسِ واللون والدين واللُّغة. وأوضح شيخ الأزهر، أنَّ إغفال الحضارة المعاصرة- وعن عمدٍ- لهذه القيم تسبَّب فى الحروب العبثيَّة التى فرضت على شعوب فقيرة لا تملِك من العدة والعتاد ما ترد به أيدى المعتدينَ من قُساةِ القلوب ومتحجرى الضَّمائر والسَّاخرين من كرامة الإنسان، ومن حرمته التى حذَّر الله من المساس بها فى كتبه السماويَّة ووحيه المقدَّس، إضافةً إلى الأزمات الاقتصادية كالفقر والبطالة والمجاعة، وتقسيم العالم إلى شمال ثرى مترف، وجنوب فقير مُثقَل بالحروب والمجاعات، وبالديون والأمراض والأوبئة، وأزمات بيئيَّة ناتجة عن استنزاف الموارد الطبيعية، وغير ذلك من منغصات العيش، ومكاره الحياة. وقال إنَّ الأزمات الاجتماعيَّة التى تترصَّد الشعوب وتعبث بعقائدها ومقدَّساتها وثوابتها الدينية والأخلاقية، ولا تكفُّ عن تربصها بمؤسسة «الأسرة» وتصدير بدائل شاذة تنكرها الأديان والأخلاق، وتنفِّر منها الأذواق السليمة الصحيحة، وترفضها الفطرة الإنسانية التى توارثها الناس من عهد آدم عليه السلام وإلى يومهم هذا. وبَيَّنَ فضيلته أن ما ينقص إنسان هذا العصر هو: «أخلاق العدل والعدالة»، التى أدى غيابها إلى اضطراب شديد فى المفاهيم والمعايير الفارقة بين حدود الخير والشر، والحسن والقبح، والصواب والخطأ، حتى صار أمرًا مألوفًا أن نرى الظلم وقد تزيَّن بزى القانون، والتسلط والهيمنة وغطرسة القوة تفرض على الفقراء والضعفاء باسم النظام العالمي، والمآسى وانتهاك الحرمات يبرر بدعوى المصالح والأغراض. وأضاف الامام الأكبر فى كلمته بأن الحروب التى ابتلى بها شرقنا الآمن لعبرة، فهذه الحروب ما إن تبدأ شرارتها الأولى حتى تبدأ معها متواليات من الدواهى والفظائع، من هدم للدُّور على رؤوس قاطنيها، وتشريد لآلاف النساء والشيوخ والشباب، وتجويع للأطفال حتى الموت، وتمتع بانتهاك كرامة الإنسان، والتَّنكيل به على مرأى ومسمع من العالم المتحضِّر فى قرنه الواحد والعشرين، وبئست حرية تصادر على الضعيف حقه المقدَّس فى الحياة على أرضه، وبئست عدالة تسمح باقتراف هذه المنكرات وتسوغها. وأكَّد شيخ الأزهر تقديره للدول التى اعترفت بالدولة الفلسطينية خلال اجتماعات الأممالمتحدة الأخيرة، حيث قال فضيلته: «لا يفوتنى فى هذا المقام أنْ أُعرِبَ عن خالصِ التَّقدير للدولِ التى بادَرتْ إلى الاعترافِ بدولةِ فلسطين، وأحييها على هذه الشُّجاعة التى تُجسِّدُ صحوة الضَّمير الإنسانى وانتصاره للحَقِّ الفلسطينى المسلوب، وكُلُّنا أمل أنْ يكون هذا الاعتراف خطوةً عمليَّةً على طريقِ تمكين الشَّعب الفلسطينى من نَيْلِ حقوقه المشروعة، وفى مُقدِّمتها إقامة دولته المستقلَّة وعاصمتُها القُدس الشَّريف»، مشيرًا فضيلته إلى أنَّ المجتمعَ الدولى اليوم مجمع على أنَّ حَلَّ الدَّولَتين هو الطَّريقُ الأوحَد لتحقيقِ السَّلام بالمنطقةِ والعالم، ولا سلام فى الشرق الأوسط دون إقامة الدولة الفلسطينية، مؤكدًا فضيلته كذلك تقديره لمواقف الشرفاء من أحرار العالم: نساء ورجالًا، وأطفالًا وشيوخًا فى كثيرٍ من أقطار العالم، الذين اهتزَّت أصواتهم لاستنكار مجازر غزَّة التى أبكت قلبَ الإنسان، وذبحت ضميرَه، وسوَّدت صفحة التاريخ الحديث. وأكَّد فضيلته أن هذا المشهد الذى يجثم على صدورنا منذ أكثر من عامين- ليكشف عن خلل خطير فى بنية النظام الدولي، واضطراب بالغ فى سياساته، وأنَّ «السلام الدولي» بات أمره رهنًا بموازين القوة وعنفوانها، وتجارة الأسلحة ومكاسبها، والحروب واقتصاداتها، وكل ذلك فى معزلٍ تامٍّ عن ميزان الحق والإنصاف، وعن صوت الواجب ونداء الضمير، وتوجهات الفطرة التى فطر الله الناس عليها، ومنطق العقل الذى جعله الله أعدل الأشياء قسمة بين الناس. وشدَّد شيخ الأزهر على أن هذه «الأزمات المركبة» إن دلَّت على شيء فإنما تدل على اضطراب شديد أصاب النظام العالمي، وأفقده الاتجاه الصحيح، وجرَّأه على الكيل بمكيالين، بل بمائة مكيال إن لزم الأمر، وإن هذه العلة، أو هذا المرض الخلقى الذى أصاب العدالة الدولية فى مقتل لا يمكن تفسيره إلا على أساس العنصرية البغيضة، والطغيان فى الأرض، وهو ما يتنافى جذريًّا مع قوانين «العدل المطلق» الذى أرسى قواعده الإسلام الذى أؤمن به، بل أرسَتْه جميع الرسالات الإلهية من قبله، وآمن به كبار الفلاسفة من أفلاطون وأرسطو مرورًا بالفارابى وابن رشد، ووصولًا إلى فلاسفة أوروبيين معاصرين، آمنوا بأخلاق الواجب والضمير الإنسانى الخالد. وتابع: «علينا أن نعلم أنَّه عندما يغيب العدل فإنَّ الظلم يحل محلَّه، ومع مظالم الناس تغيب القيم وتتلاشى، ويفقد الإنسان إنسانيته تحت أقدام المصالح والأطماع الماديَّة الهابطة والاستقواء والاستئساد الكاذب، وحين يسلب الضعيف حقه، ويكرم الظالم على استلاب هذا الحق، وحين يغدو الإنسان رقمًا تافهًا فى حسابات السياسة وسلعة رخيصة فى اقتصاد السُّوق، عند ذلك ندركُ أنَّ الحقَّ قد غربت شمسه، وأنَّ العالم يهوى فى فراغ أخلاقى ينذر بانهيار الأنظمة قبل انهيار قيمها وأخلاقها». وأضاف شيخ الأزهر قائلًا: ولأجل ذلك تحرك الأزهر الشريف، ومجلس حكماء المسلمين، وحاضرة الفاتيكان، لإطلاق وثيقة «الأخوة الإنسانية» التاريخية، التى وقعتها مع أخى الراحل، قداسة البابا فرنسيس، فى أبوظبى عام 2019م. وقد أوضحنا فيها أن السلام ليس أمرًا سلبيًا يتمثل فى غياب السلاح، فهذا مما لا سبيل إليه بحال، بل هو أمر إيجابى ووجودى يتمثل فى حضور العدل، وبينّا أن العدل ليس انتصارًا لطرف على آخر، وإنما هو انتصار للإنسان على نوازع الأنانية والهيمنة والأطماع المادية التى تسيطر على مسرح حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسلوكية. ولفت إلى أنَّ الذكاء الاصطناعى قد أصبح إحدى القوى المحرِّكة التى تحدث فارقًا كبيرًا فى المجتمعات، لذا فإنَّ علينا دورًا أخلاقيًّا يتمثل فى تسخير هذه التقنية لبناء مستقبل أكثر إنصافًا وعدالة للبشرية، وعلينا أن ندرك أنَّ حراسة قيمنا ومواريثنا الروحية والدينية فى استعمالات هذه التقنية الجديدة ليس خيارًا ترفيهيًّا، بل هو التزام أخلاقي، ومسئولية إنسانية كبرى. ولا أبالغ لو قلت: إنَّنا اليوم نقف أمام مفترق طرق حضاري: إمَّا أن نترك هذا الاختراع الجديد يكرِّس التقهقر الحضارى والأخلاقي، أو أن نستخدمه كقوَّةٍ دافعة لتصحيح المسار الإنسانى. وأوضح: «كنتُ قد بدأت مع أخى الراحل البابا فرنسيس، فى صياغة «ميثاق» لأخلاقيات الذكاء الاصطناعى، ولكن، وقبل أن يكتمل أمرها، شاءت الأقدار وظروف مرضه ووفاته بأن يتأخر إصدار هذه الوثيقة المهمة، واليوم، تعمل فرق مشتركة من الأزهر الشريف والفاتيكان ومجلس حكماء المسلمين من أجل إكمال هذه الوثيقة، لتكون مرجعًا أخلاقيًّا وإنسانيًّا عالميًّا ينظم العلاقة الصحيحة بين الإنسان وما تنتجه يداه من تقنيات حديثة، ويضمن أن يظلَّ الذكاء الاصطناعى خادمًا للإنسان لا سيفًا مصلتا عليه». واختتم شيخ الأزهر بتأكيد أنَّ العالم اليوم أحوج ما يكون إلى عدالة تعيد إليه سكينته، وإلى إحياء ضمير إنسانى يدرك أن الظلم- وإن صغر- شرارة قادرة على إحراق السلم فى أى مكان، وأنَّ كل إنسان يُظلم فى هذا العالم، هو جرح لا يندمل فى جسد الإنسانية كلها، وأنَّ هذا العالم لن ينهض من كبواته إلا إذا آمن بأن العدالة هى القانون الأعلى للحياة، وأنَّ السلام هو ثمرتها الطبيعية، مضيفًا: أنَّ سبب الفساد اليوم، الفصل بين الأخلاق والإيمان، ومحاولة الإبقاء على الأخلاق واستبعاد الإيمان، وحين يفقد الدين الإلهى توجيهه للأخلاق، تصبح الأخلاق فى مهبِّ الريح، كما تصبح أداة للصراع وللجشع وسحق الفقير والضعيف. Untitled-1