كم يدهشنى الآن، ما أتذكره من موضوعات كانت تشغل بال المثقفين المصريين منذ خمسين أو ستين عاما (وربما المثقفون فى خارج مصر أيضا)، ولم تعد تشغلهم الآن، بل ولا تكاد تخطر ببالهم. أذكر مثلا ما احتدم من نقاش حول إذا كانت الاشتراكية التى يجرى تطبيقها فى بعض البلاد العربية ( وعلى الأخص فى مصر) يمكن وصفها ب «الاشتراكية العربية»، أم يحسن الاقتصار على وصفها بالاشتراكية؟ أذكر استياء المثقفين الماركسيين من وصفها ب «العربية»، إذ كانوا يؤكدون أن الاشتراكية هى الاشتراكية فى أى مكان، وليست هناك اشتراكية عربية وأخرى ماركسية أو أوروبية.. الخ. كان أنصار النظام القائم وقتها من غير الماركسيين يفضلون وصف ما يفعله النظام بالاشتراكية العربية، إمعانا فى تأكيد أنهم ليسوا شيوعيين بل محايدون بين الشرق والغرب. ومن حسن الحظ أن اختفى مثل هذا النقاش الآن، عملا على الأقل بنصيحة شكسبير، ما أهمية الاسم؟ إن الزهرة بأى اسم سميتها ستظل طيبة الرائحة، ولكن ربما كان السبب الاساسى لاختفاء مثل هذا النقاش حول وصف الاشتراكية هو اختفاء الاشتراكية نفسها. مما أذكره أيضا من الموضوعات التى احتدم حولها النقاش فى الخمسينيات وأوائل الستينيات ما إذا كان الفن للفن أم الفن للحياة؟ كان الماركسيون والاشتراكيون عموما من أنصار «الالتزام» فى العمل الأدبى أو الفني، ويكرهون أن يدعى أحد أن الفنان لا ولاء له الا لفنه، بينما كان غيرهم ممن لا ينتمون إلى مذهب سياسى أو اجتماعى يفضلون الاعتراف للفنان بحريته، ويكرهون أن يحاسب الفنان على موقفه الاجتماعى أو على عدم اتخاذه موقفا اجتماعيا على الاطلاق. فى منتصف الخمسينيات نشر مفكران مصريان مرموقان (هما عبدالعظيم أنيس ومحمود أمين العالم) كتابا صغيرا حقق شهرة كبيرة ودارت حوله المناقشات والمناظرات، بعنوان «فى الثقافة المصرية» ، وكان يهدف إلى تأكيد رسالة معينة: أن الأدب (والفن عموما) يجب أن يقيم ليس فقط على اساس قيمته الفنية بل وايضا حسب المصالح الطبقية التى يخدمها. وقد استغرب بعض كتابنا الكبار الذين كانوا يحتلون عرش الثقافة فى مصر (مثل طه حسين وتوفيق الحكيم وعباس العقاد) أن يحاسبوا على شيء آخر غير قيمتهم الأدبية، ولكن هؤلاء النقاد الشبان كانوا يشتعلون حماسا لقضيتهم، ويعتبرون أن الأمر قد تم حسمه لمصلحتهم ولا يجوز التردد فيه. الأديب الملتزم اجتماعيا هو فى نظرهم أفضل من غيره، ولابد أن يحاسب الأديب والفنان على موقفه الاجتماعى مثلما يحاسب على ضعفه الفني. كم يلفت النظر اختفاء مثل هذه المناقشات الآن، وكم هو شيق أن نحاول تفسير هذا الاختفاء. لابد أن من بين الأسباب ما كان من انقسام العالم إلى عالمين «اشتراكي» فى الشرق و «رأسمالي» فى الغرب، واحتدام المنافسة بين الاثنين. كان هذا النقاش جزءاً من حرب باردة أو فكرية بين المعسكرين، لكن ربما كان هناك ايضا سبب أكثر عمقا، هل يجوز القول إن مسألة «الالتزام» نفسها قد أصبح مشكوكا فيها إلى حد كبير؟ قضية الالتزام أو عدمه قضية اخلاقية فى نهاية الأمر، ومن الممكن الزعم بأن نصف القرن الماضى قد شهد انحسارا فى التقييم الاخلاقى للسلوك أو الموقف السياسى لحساب الاعتبارات الاقتصادية أحيانا أقول لنفسي: كم كانت تلك الفترة من القرن العشرين (فترة الخمسينيات والستينيات) فترة جميلة ولو لهذا السبب وحده، بعد ذلك حل التنافس الاقتصادى والسياسى محل التنافس الاخلاقي، ومن ذلك اختفاء أو انحسار المباهاة والتنافر بنوع الولاء أو طبيعة الالتزام، بالمقارنة بنوع الولاء أو الالتزام لدى الآخرين أو غيابهما أصلا. هل يمكن حقا أن يكون قد طرأ مثل هذا التغيير المهم على سلوك الناس وعلى ما يصدرونه من أحكام على الآخرين، بمرور الزمن؟ أعتقد أن هذا ممكن، كما أن من الممكن العثور على تفسير له. فلنتذكر أولا ما كان يتسم به زعماء مثل جون كيندى فى الولاياتالمتحدة، ونيكيتا خروشوف فى روسيا من صفات شخصية بالمقارنة بزعماء اليوم فى كلا البلدين بل قد نضيف السمات الشخصية لبعض زعماء العالم الثالث، مثل نهرو فى الهند وعبدالناصر فى مصر، ونيكروما فى غانا، وتيتو فى يوجوسلافيا.. الخ. فهل كان ظهور أمثال هؤلاء الزعماء فى ذلك الوقت محض مصادفة؟ وهل كانت سماتهم الشخصية هى السبب فيما اتخذوه من مواقف أم أن الظروف السائدة حينئذ (اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية) هى التى سمحت بظهور زعماء من هذا النوع، فلما تغيرت الظروف تغيرت ملامح الزعماء؟. أشياء كثيرة مهمة حدثت خلال نصف القرن الماضي، من أهمها فيما أظن ظهور وتطور ما يسمى ب «المجتمع الاستهلاكي». «الاستهلاك» كان بالطبع موجودا دائما، لكن المجتمع لم يكن «مجتمعا استهلاكيا»، بمعنى تقييم النجاح الفردى والسياسى بمعيار مستوى الاستهلاك..كان التقييم فى الماضى يستند بدرجة أكبر بكثير على قيم اخلاقية، بينما تراجعت هذه القيم خلال نصف القرن الماضى لحساب التقييم الاقتصادى مثل هذا التغيير، لابد أن يترتب عليه تغيير فى نوع الزعماء وقد يكون هو السبب فى اختفاء مناقشات كانت شائعة فى الخمسينيات والستينيات، من نوع : «هل هذه اشتراكية عربية أم اشتراكية فقط؟» أو «هل الفن للفن أم الفن للحياة؟». لمزيد من مقالات د. جلال أمين;