جدول مواعيد امتحانات الشهادة الإعدادية العامة 2024 في محافظة البحيرة (الترم الثاني)    رئيس جامعة بنها يترأس لجنة اختيار عميد كلية التجارة    بشرى سارة للمقبلين على الزواج.. اعرف أسعار الذهب بعد الانخفاض الجديد    وزير الري يتابع تدبير الأراضي لتنفيذ مشروعات خدمية بمراكز المبادرة الرئاسية حياة كريمة    كفر الشيخ تبدأ تلقي طلبات التصالح في مخالفات البناء.. اعرف التفاصيل    أسعار اللحوم اليوم الثلاثاء.. الكندوز ب 380 جنيهًا    1.6 مليار دولار حجم الصادرات الغذائية المصرية خلال الربع الأول من 2024    الشيخ: الإعلان عن قيد شركة تندرج تحت قطاع المقاولات ببورصة النيل خلال الأسبوع المقبل    «معلومات الوزراء»: توقعات بنمو الطلب العالمي على الصلب بنسبة 1.7% عام 2024    رئيس البورصة: النظام الإلكتروني لشهادات الإيداع الدولية متكامل وآمن لتسجيل العمليات    دبلوماسي أوروبي: سيُق.تل المزيد من المدنيين في هجوم رفح مهما قالت إسرائيل    اليوم.. تنصيب بوتين رئيساً لروسيا للمرة الخامسة    باحثة سياسية: الدور المصري له أثر كبير في دعم القضية الفلسطينية    جيش الاحتلال: تم إجلاء الغالبية العظمى من السكان بمنطقة العمليات العسكرية في رفح الفلسطينية    تشكيل الأهلي المتوقع أمام الاتحاد السكندري في الدوري    دويدار: معلول سيجدد تعاقده مع الأهلي    طقس الفيوم اليوم الثلاثاء.. مائل للحرارة نهارا والعظمى 31°    التحريات تكشف سبب حريق مطعم شهير بشبرا الخيمة| صور    «التعليم» تعلن موعد تسليم أرقام جلوس امتحانات الثانوية العامة 2024    هتك عرضها والقي جثتها بالحديقة.. وصول أسرة الطفلة "جانيت" لمحكمة الجنايات لحضور أولي جلسات محاكمته    بحراسة وكلبشات.. نقل عصام صاصا إلى الطب الشرعي لإجراء تحليل مخدرات    «التعليم» تنتهي من استعداداتها لامتحانات الترم الثاني لصفوف النقل.. تنطلق غدا    التحقيقات تكشف عدم وجود شبهة جنائية في مصرع فتاة صدمها قطار في البدرشين    مدير حدائق الحيوان ب«الزراعة»: استقبلنا 35 ألف زائر في المحافظات احتفالا بشم النسيم    ياسمين عبد العزيز: «كان نفسي أكون ضابط شرطة»    لا تأكل هذه الأطعمة في اليوم التالي.. الصحة تقدم نصائح قبل وبعد تناول الفسيخ    عبد الجليل: استمرارية الانتصارات مهمة للزمالك في الموسم الحالي    مدحت شلبي يعلق علي رفض الشناوي بديلًا لمصطفى شوبير    زعيم المعارضة الإسرائيلي: على نتنياهو إنجاز صفقة التبادل.. وسأضمن له منع انهيار حكومته    كيفية صلاة الصبح لمن فاته الفجر وحكم أدائها بعد شروق الشمس    رويترز: جيش الإحتلال الإسرائيلي يسيطر على معبر رفح الفلسطيني    لاعب نهضة بركان السابق: نريد تعويض خسارة لقب الكونفدرالية أمام الزمالك    Bad Bunny وSTRAY KIDS، أفضل 10 إطلالات للنجوم بحفل الميت جالا    اليوم.. مجلس النواب يناقش حساب ختامي موازنة 2022/2023    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 7-5-2024    إصابة الملك تشارلز بالسرطان تخيم على الذكرى الأولى لتوليه عرش بريطانيا| صور    أجمل دعاء تبدأ به يومك .. واظب عليه قبل مغادرة المنزل    ياسمين عبد العزيز:" عملت عملية علشان أقدر أحمل من العوضي"    صدقي صخر: تعرضت لصدمات في حياتي خلتني أروح لدكتور نفسي    شبانة: هناك أزمة قادمة بعد استفسار المصري بشأن شروط المشاركة في بطولات افريقيا    رامي صبري يحيي واحدة من أقوى حفلاته في العبور بمناسبة شم النسيم (صور)    كريم شحاتة: كثرة النجوم وراء عدم التوفيق في البنك الأهلي    أمين البحوث الإسلامية: أهل الإيمان محصنون ضد أى دعوة    صدقي صخر يكشف مواصفات فتاة أحلامه: نفسي يبقى عندي عيلة    صليت استخارة.. ياسمين عبد العزيز تكشف عن نيتها في الرجوع للعوضي |شاهد    الدوري الإنجليزي، مانشستر يونايتد يحقق أكبر عدد هزائم في موسم واحد لأول مرة في تاريخه    اللواء سيد الجابري: مصر مستمرة في تقديم كل أوجه الدعم الممكنة للفلسطينيين    ب800 جنيه بعد الزيادة.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي الجديدة وكيفية تجديدها من البيت    إبراهيم عيسى: لو 30 يونيو اتكرر 30 مرة الشعب هيختار نفس القرار    الأوقاف تعلن افتتاح 21 مسجدا الجمعة القادمة    فرح حبايبك وأصحابك: أروع رسائل التهنئة بمناسبة قدوم عيد الأضحى المبارك 2024    «زي النهارده».. وفاة الملحن رياض الهمشرى 7 مايو 2007    هل يحصل الصغار على ثواب العبادة قبل البلوغ؟ دار الإفتاء ترد    رغم إنشاء مدينة السيسي والاحتفالات باتحاد القبائل… تجديد حبس أهالي سيناء المطالبين بحق العودة    بعد الفسيخ والرنجة.. 7 مشروبات لتنظيف جسمك من السموم    للحفاظ عليها، نصائح هامة قبل تخزين الملابس الشتوية    كيفية صنع الأرز باللبن.. طريقة سهلة    أستاذ قانون جنائي: ما حدث مع الدكتور حسام موافي مشين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد سيد احمد
نشر في الأهرام اليومي يوم 10 - 05 - 2014

بدأ محمد سيد أحمد حياته السياسية والثقافية منذ مطالع شبابه. وقرر، وهو في التاسعة عشرة من عمره،
أن يخون الطبقة التي تنتمي إليها عائلته، طبقة ملاك الأراضي والباشوات، وينزل من علياء تلك الطبقة في امتيازاتها إلى صفوف الفقراء، الذين يشكلون الكثرة الساحقة من أبناء شعبه، قام بذلك الانتقال من تلقاء ذاته، بوعي مبكر، وكان ذلك الوعي عنده إنسانياً شاملا وعميقا، وظل هذا الوعي الرفيق الدائم لتطور شخصية محمد سيد أحمد، منذ بدايات انغماسه في العمل السياسي والفكري، حتى رحيله قبل الأوان، في عام 2006. وكان قد بلغ من العمر سبعة وسبعين عاماً.
لم يرق للباشا والد محمد ذلك "النزق" الذي جعل ابنه يختار ذلك الطريق، رغم أنه، أي الوالد، كان معروفاً بعلمانيته وبانفتاحه السياسي، فقرر أن يرسل محمد إلى الخارج لاستكمال دراسته الجامعية، لكنه عاد فعمل بنصيحة بعض أصدقائه، فأرسله إلى باريس لقضاء فترة من الزمن، مع كامل العدة التي تتيح لشاب في التاسعة عشرة من عمره التمتع بما تقدمه له مدينة مثل باريس، كان ذلك في عام 1949. لكن محمد سرعان ما رأى في مدينة الثقافة باريس ما يلائم أهواءه والنزعات التي كانت تعمق عنده رغبته الجامحة في امتلاك المعرفة والثقافة في ميادينهما المختلفة، والغوص وراء الأحداث والتطورات التي كان يحفل بها عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد نتج عن الحرب تكوّن النظام الاشتراكي الذي صار يقاسم النظام الرأسمالي العالمي القديم التأثير في مجرى الأحداث، تعرّف محمد بجهده الخاص، ثم بواسطة صديقه اسماعيل صبري عبد الله الذي كان يتابع دراسته في باريس، إلى كنوز الثقافة الفرنسية، في الكتب، وفي شخص كبار المثقفين من أمثال بول إيلوار واراغون، وآخرين ممن كانوا أبطال المقاومة الفرنسية في مواجهة الفاشية، وقادته تلك المعارف والمواقف السياسية المتصلة بها إلى المشاركة مع صديقه اسماعيل في المؤتمر التأسيسي الأول لحركة السلم العالمية (1949)، التي ترأسها على مدى حياته عالم الذرة الفرنسي جوليو كوري، وأتيح لمحمد، الذي شارك في المؤتمر باسم مستعار، أن يلتقي العديد من كبار الشخصيات التي جاءت من شتى أنحاء العالم للمشاركة في ذلك المؤتمر التاريخي، وكان لوجوده في المؤتمر تأثير بالغ الأهمية على مسار حياته في المراحل اللاحقة.
كان محمد سيد أحمد منذ المرحلة الإعدادية في دراسته متميزاً في امتلاك المعارف العلمية، في ميادينها المختلفة. واستمر متميزاً في دراسته الجامعية، وهكذا، فقد أسهمت تلك العلاقة المبكرة بين شغفه بالمعرفة العلمية وامتلاكه لها وبين مشاعره الإنسانية، في امتلاك الوعي المبكر عنده، الوعي الذي قاده إلى اختيار طريقه إلى المستقبل، في استقلال كامل عن عائلته، وعن الطبقة التي كانت تنتمي إليها عائلته.
عاد محمد من باريس لينخرط في العمل السياسي في صفوف إحدى المنظمات الشيوعية، وشاركه في بعض نشاطاته في شكل عفوي شقيقه عمر ابن الخامسة عشرة من العمر. إذ استخدم عمر سيارة والده الباشا لينقل بواسطتها بعض البيانات الشيوعية، فقبض عليه، وأودع السجن. وتدخل والده فأطلق سراحه، محملاً، هو والسلطة، المسئولية عن انغماس الولد في النشاط السياسي إلى شقيقه محمد . وكانت تلك بداية خروج محمد من منزل العائلة في صورة نهائية، لينغمس كلياً في العمل الحزبي، لكنه سرعان ما اكتشف أن المسئولين عنه في المنزل السري، قبل الإعتقال، كانوا يتعاملون معه بصورة سيئة، انطلاقاً من كونه إبن باشا، فكانوا يحاسبونه على كل خطأ يرتكبه باعتباره خطأ يعود إلى كونه ما يزال يحتفظ بالأساس الطبقي لعائلته ولنشأته. لذلك كانت التجربة الأولى في العمل الحزبي لمحمد قاسية عليه. لكنها، برغم قسوتها، لم تؤثر في قناعاته. بل هو غيّر موقعه التنظيمي. وظل يمارس الانتقال من تنظيم إلى آخر تأكيداً منه أن خياره لم يكن خياراً عاطفياً عابراً. بل كان خيارا واعيا وثابتاً. الأمر الذي جعله يتحمل تبعات ذلك الخيار، في الإعتقال والتشرد والمعاناة والعسر في شروط الحياة، وهو ابن العائلة الأرستقراطية التي لم تعرف للعسر معنى.
استمر محمد سيد أحمد في نشاطه داخل المنظمات الشيوعية حتى أواسط ستينيات القرن الماضي، أي حتى المرحلة التي أفرج فيها الرئيس عبد الناصر عن الشيوعيين بعد أن حلوا تنظيماتهم ودخلوا طوعاً في الاتحاد الاشتراكي. واحتلوا،على الفور، مواقعهم في الاتحاد، كل حسب كفاءته واختصاصه وميدان نشاطه الأساسي. وصار بعض منهم، مثل محمود أمين العالم، إلى جانب رئاسة تحرير جريدة الجمهورية، أحد القادة الأساسيين في التنظيم الطليعي داخل الاتحاد الاشتراكي، الذي أسسه الرئيس عبد الناصر، وكلف شعراوى جمعة بدور المنسق العام. وكان الهدف من تأسيس ذلك التنظيم التمييز بين الطابع الجماهيري للاتحاد الاشتراكي وبين الطابع الفكري السياسي للتنظيم الطليعي، كحزب حقيقي يمارس دوره في مساندة السلطة السياسية برئاسة عبد الناصر.
في تلك الفترة بالذات بدأ محمد سيد أحمد تمايزه في السياسة عن بعض رفاقه، من دون أن يتخلى عن موقفه الفكري، كاشتراكي ذي مرجعية ماركسية. لكن استمراره في موقعه الفكري كماركسي مستقل جعله يتخلى عن الإرتباط القديم عند الشيوعيين بالماركسية كعقيدة. بل هو تعامل معها كفكر علمي، مستنداً إلى منهج ماركس الجدلي في تحليل الأحداث والتطورات وفي قراءتها وفق شروطها التاريخية، وليس خارج تلك الشروط. وعندما تأسس حزب التجمع في أواسط سبعينيات القرن الماضي من ماركسيين وناصريين وإسلاميين مستنيرين، كان محمد سيد أحمد واحداً من كبار المؤسسين، إلى جانب أصدقائه الكثر وفي مقدمتهم صديقه خالد محيي الدين، الذي اختير لكي يكون منذ التأسيس رئيساً لهذا الحزب، ثم رمزاً له بعد أن تقدمت به السن.
عندما تعرفت إلى محمد سيد أحمد في أواخر ستينات القرن الماضي كان اسمه قد أصبح إسماً معروفا في عالم السياسة والثقافة والفكر والإعلام. وكانت كتاباته تملأ الصحف المصرية والعربية ومجلاتها، وكذلك الصحف والمجلات الأجنبية. وكان يكتب بثلاث لغات: العربية والفرنسية والإنجليزية. وكان قد بدأ يتلقى الدعوات للمشاركة في المنابر والمحافل العربية والدولية، كصاحب رؤية وموقف في قضايا مصر والعالم العربي، في تلك الحقبة الحافلة بالأحداث والتطورات الكبرى، لا سيما عقب حرب حزيران والنتائج الكارثية التي انتهت إليها، والمواقف التي اقترنت بها، على الصعيدين الرسمي والشعبي. وكان أبرز تلك التطورات ما ارتبط منها بالتحول الذي حصل في مواقف الرئيس عبد الناصر، حين فتح أبواب مصر أمام التيارات الفكرية، ومنها بالأخص التيار الماركسي، وإعلانه شعاره المعروف "النضال لإزالة آثار العدوان" بالسياسة وبالدبلوماسية، وبالإعداد لمعركة التحرير من خلال حرب الإستنزاف في قناة السويس. كما كان من أبرز تلك التطورات ما ارتبط بولادة حركة المقاومة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات. وكان محمد قد انضم إلى أسرة تحرير مجلة "الطليعة" منذ بداية صدورها في عام 1966. وكان يرأس تحرير المجلة لطفي الخولي. كان محمد سيد أحمد من بين عدد كبير من كبار كتّاب مصر ومفكريها من كل الإتجاهات، لا سيما الإتجاه الماركسي، الذين أسهموا في جعل تلك المجلة واحدة من كبريات المجلات العربية، من حيث القضايا التي عالجتها، والمحاور التي نظمتها، ومن حيث الدور الذي لعبته في الحياة الفكرية والسياسية في مصر على امتداد عشر سنوات من صدورها. وهي كانت قد صدرت بقرار من الرئيس عبد الناصر بهدف القيام بذلك الدور.
في تلك الفترة، بالذات، لا سيما بعد حرب أوكتوبر في عام 1973، بدأ محمد سيد أحمد يبحث مع عدد من أصدقائه اليساريين عن الطريق الذي يحرر مصر والعالم العربي من الآثار المدمرة للصراع العربي الإسرائيلي، من خلال استعادة الأرض ووضع أسس لسلام عادل، يعطي للفلسطينيين حقهم في إقامة دولتهم المستقلة الكاملة السيادة على أرض وطنهم فلسطين. وكان كتابه "بعد أن تسكت المدافع" التعبير الواضح عن ذلك الخيار الذي دافع عنه طويلاً، رغم ما واجهه من انتقادات حادة من جميع الإتجاهات. لكنه ظل، في المواقف السياسية العامة، ملتزماً بالسياسة المعلنة لحزب التجمع. فكان يدعو للسلام العادل، ويناصر نضال الشعب الفلسطيني من أجل الحرية والإستقلال وإقامة الدولة المستقلة، معترضاً في الوقت عينه على معاهدة السلام التي وقعها السادات مع إسرائيل، حتى وإن كانت تلك المعاهدة قد اقترنت بتحرير كامل الأرض المصرية من الوجود العسكري الإسرائيلي. إذ كان يعتبر أن تلك المعاهدة قد أخرجت مصر من موقعها الأساسي في العالم العربي. إذ أدى هذا الموقف إلى خروج الجامعة العربية من مصر عقب قمة بغداد (1978)، وجعل تونس مقراً لها، عقاباً لمصر على موقف السادات المتمثل بمعاهدة السلام التي وُقّعت وفق اتفاقات كامب دايفيد.
لكن محمد سيد أحمد بدأ، في أوائل تسعينيات القرن الماضي، عقب مؤتمر مدريد الذي عقد تحت شعار الأرض مقابل السلام، بدأ مع عدد من أصدقائه وفي مقدمتهم لطفي الخولي، في إجراء حوارات مع عدد من يهود إسرائيل وبالتحديد، من المثقفين اليساريين المؤيدين لحق الشعب الفسطيني ومن مسؤولين سابقين، حوارات كانت تهدف إلى البحث عن صيغة لسلام عادل بين العرب وإسرائيل، يعطي الحقوق لأصحابها، وينهي حالة الصراع المدمرة. إلا أن الطريق إلى ذلك الهدف كان وعراً. وكان موقف محمد سيد أحمد مختلفاً عن موقف صديقه لطفي الخولي، الذي ذهب في ذلك الطريق أبعد مما يحتمل الأمر، وأبعد مما يمكن أن يؤدي إليه الاستمرار في ذلك الطريق إلى تحقيق ذلك الهدف. شعر محمد سيد أحمد بأن أفكاره وطموحاته المتصلة بهدف السلام لا تقود إلى تحقيقها تلك الحركة من الحورارت التي لا جدوى منها، والتي كانت تلقى معارضة كبيرة في الأوساط الوطنية المصرية. إذ كانت من دون سند حقيقي داخل إسرائيل، وداخل أجهزتها الحاكمة. وهكذا قرر محمد أن يخرج من تلك الحركة ويؤلف كتابه الثاني الذي حدد فيه موقفه من القضية برمتها.
وأذكر أنني، في ذلك الوقت بالذات، اتفقت مع محمد سيد أحمد وجميل مطر ومصطفى الحسيني أن نؤلف كتاباً حول القضية الفلسطينية وتبعاتها على الوضع العربي، نحدد فيه موقفاً ديمقراطياً غير مسبوق. لكن ذلك الاتفاق لم ير النور لأسباب لم أعد أذكرها.
هذا الجانب السياسي من سيرة محمد سيد أحمد ينبغي ألا يغيّب الجانب الآخر من سيرته. فهو كان مفكراً يسارياً مبدعا، متحررا من نمطية التفكير الذي ساد في صفوف الحركة الشيوعية، وأبقاها خارج التأثير في المجتمعات العربية، رغم كثرة المثقفين الذين انتموا إليها، وهم كبار في مجالات إبداعهم، ورغم النضالات الكثيرة التي خاضتها والتضحيات الجسام التي قدمتها في تلك النضالات. فقد أدرك محمد، منذ وقت مبكر، أن على اليسار عموماً، واليسار الشيوعي خصوصاً، أن يحدث تغييراً جوهرياً في أفكاره وفي سياساته وفي أشكال عمله ونشاطه، وفي صيغة تنظيمه. وكان يرى أن أحداثاً كبرى وتحولات بالغة الخطورة كانت تجري على الصعيد العالمي. وكان يرى، استنادا إلى تلك التحولات، أن على اليسار أن يثبت قدرته على اللحاق بالعصر، والاندماج في تحولاته، واختيار موقعه الخاص به في قلب تلك التحولات، لكي يكون قادراً على التأثير في الأحداث التي كانت تشهدها بلداننا منذ زمن طويل، وعلى الإسهام في إحداث التغيير المنشود. وحين انهار الاتحاد السوفياتي وانهار معه النظام الاشتراكي برمته، رأى محمد سيد أحمد أن من واجبه القيام بجهد العالم والمفكر في تحديد ملامح تلك التحولات الجارية في العالم، ما بعد ذلك الانهيار المدوي، وأن يرسم، قدر المستطاع، الملامح الخاصة لليسار العربي الجديد. فشارك في الكثير من الندوات التي نظمت تحت ذلك العنوان. وكتب الكثير من الأبحاث في المجلات العربية والأجنبية. وأجاب على الكثير من الأسئلة، إما في حوارات جرت معه، أو فيما كان يكتبه في شكل مستمر ومتواصل في جريدة "الأهالي"، لسان حال حزب التجمع، أو في المجلات العربية والأجنبية.
وأذكر أنني التقيته في عام 1981، أي قبل انهيار النظام الاشتراكي بعشرة أعوام. كان ذلك في واشنطن. التقينا في منزل صديقنا المشترك كلوفيس مقصود، الذي كان يرأس وفد الجامعة العربية الدائم في الولايات المتحدة الأميركية. وكان شريكنا الرابع في ذلك اللقاء صديقنا المشترك أريك رولو. كان محور الحديث الذي جرى بيننا نحن الأربعة في ذلك اللقاء الجميل يدور حول ما كان يواجهه العالم العربي في تلك المرحلة المظلمة من تاريخه، في ظل أنظمة الاستبداد، وما كانت تواجهه حركة اليسار في العالم العربي من ركود وتراجع. كانت همومنا المشتركة تقودنا إلى التفكير ، "التفكير الجديد" الذي صار في زمن البرسترويكا في عهد غورباتشوف عنواناً فضفاضاً لتلك الحقبة، لم يؤد الانخراط فيه إلى شيء مما كان يحمله. بل إنه، بعكس ما كان يرتجى، قاد إلى نقيضه، في نهاية المطاف، قاد إلى الانهيار الذي غيّر مجرى التاريخ الذي كانت قد دشنته ثورة أوكتوبر الإشتراكية قبل ثلاثة أرباع القرن.
في لقاءاتنا المتتالية على امتداد العقدين الأخيرين قبل رحيله، وكان آخرها في عام 2004 في مؤتمر الإصلاح الديمقراطي الذي نظمته مكتبة الإسكندرية، لم يتوقف السجال بيننا حول مستقبل حركة التغيير في بلداننا، المرتبطة باسم اليسار، وحول مستقبل الاشتركية في العالم، بعد انهيار التجربة التي دشنتها ثورة أوكتوبر. لم يملك أحد منا أي أساس للحسم في الجواب عن هذا التساؤل الكبير. لكن النقاش كان ضرورياً. وقد أسهم فيه كل منا، على طريقته. وكان إسهام محمد سيد أحمد متميزاً في ذلك النقاش. وكان من أهم ما قرأته له بحثان. الأول هو إسهامه في الندوة التي نظمها مركز البحوث العربية تحت عنوان "اليسار المصري وتحوّل الدول الاشتركية" في مطلع عام 1991، العام الذي انتهت فيه محاولات غورباتشوف لإعادة البناء (البرسترويكا) إلى القضاء على التجربة الإشتراكية بكاملها. أما الثاني فهو البحث الذي كتبه لمجلة "الطريق" تلبية لطلب مني تحت عنوان "حول مفهوم اليسار مستقبلاً". وصدر ذلك البحث في العدد الرابع من المجلة لعام 1994. في هذين البحثين يظهر عمق الفكر الذي يستند إليه محمد سيد أحمد في معالجة القضايا الكبرى في بلاده وفي العالم. وهو فكر مستقل. واستقلاليته لا تلغي المصادر الأساسية التي استند إليها في تكوينه. وهي ماركسية ماركس أساساً، مقترنةً بالجديد الذي أحدثته التحولات الكبرى التي شهدها العالم، لا سيما ما يتصل بتلك التحولات في مجال العلوم والتكنولوجيا، التي فتحت أمام البشرية عصراً جديداً، هو عصر أوتوسترادات المعرفة وأوتوسترادات الاتصالات في آن. ولأن محمد سيد أحمد هو في الأساس صاحب ثقافة علمية واسعة وعميقة، فإنه كان يخضع أفكاره ومواقفه السياسية لمنطق العالم، المتحرر من الأيديولوجيات ومن سطحية التحليلات ومن شعبوية الرومانسيين الحالمين بالتغيير من دون توفير الشروط الضرورية لجعل هذا التغيير ممكناً من الناحية الواقعية. إلا أن كتابات محمد سيد أحمد في الصحافة اليومية كانت تتناقض مع أبحاثه العلمية تلك. وقد ناقشته مرات عديدة في الأمر، واقترحت عليه التحرر من هذا الإنزلاق نحو المعالجة اليومية الخالية من التحليل العميق التي سيطرت على كتاباته تلك خلافاً لمنطق العالم والمثقف والمفكر الذي هو محمد سيد أحمد. وكان يتفق معي في ذلك. لكنه مع ذلك استمر يكتب في صحف عديدة في ذلك النمط الذي لا يعبّر عن ثقافته وعمق تفكيره وعلمية هذا التفكير.
في البحث الأول حول الاشتركية والبرسترويكا كان محمد ناقداً بعمق للتجربة الاشتراكية المحققة، من موقع العالم. ينطلق محمد في بحثه هذا حول مآل الاشتراكية، قبل انهيارها، بأن العالم قد تغيّر كثيراً، وأنه قادم على إحداث تغيير أكبر وأشمل وأعمق. كان يرى أن تلك التغيرات قد شملت المفاهيم والمقولات بفعل الإكتشافات والقوانين العلمية الجديدة. فهو يعتبر أن "السيبرناطيقا" هي من أهم العلوم التي تم اكتشافها في القرن العشرين. إذ أن هذا الإكتشاف قد أعطى للعلوم الإجتماعية بعداً جديداً ازدادت معه التعقيدات في التحليل وفي الإستنتاج. فإن هذا العلم، كما يقول محمد "يلفت النظر إلى تشابه المصالح وإلى التأثير العلمي المتبادل بين طبقة وطبقة". ويستند في ذلك إلى الفكرة الأساسية التي طرحها أنشتاين في نظريته النسبية التي تقول بأن "الواقع الموضوعي" تختلف صورته "مع اختلاف موقع المراقب". ويضيف محمد بالنص: "ليس معنى ذلك أن "الواقع الموضوعي" غير موجود لتعدد "صوره"، كما أنه لا يعني أنه غير قابل للمعرفة. ولكن هذا "الواقع الموضوعي" يجري تصوره بطرق مختلفة مع اختلاف زاوية الرؤية. ومعنى ذلك أن "الحقيقة الاجتماعية" سوف تختلف طريقة إدراكها، والوعي بها، مع اختلاف المواقع الاجتماعية. ومن هنا نشأ التسليم بأحقية التعددية وبضرورتها، وأن التاريخ يتحقق من خلال هذه الرؤى المتعارضة، وليس من خلال رؤية تجسد حركة التاريخ وحدها. بينما كل الرؤى الأخرى من الجائز دمغها بصفة مناهضة حركة التاريخ والوقوف في وجهها!!... لقد أصبح للعلم المعاصر دور في "تعقيد" السبل التي تجري بها معالجة "الواقع الإجتماعي"، وفي طرح أبعاد لم تكن مطروحة عند تأسيس الفكر الاشتراكي ووضع أصوله في القرن الماضي. ويخلص إلى القول إن "تقسيم المجتمع إلى طبقات متعارضة أصبح أمراً لم يعد من الممكن معالجته استنادا إلى نفس المقومات التي انطلق منها ماركس منذ قرن ونصف القرن". ويستند في استنتاجه هذا ، في ضوء ما قدمته الثورة التكنولوجية المعاصرة، خلافاً لما نتج عن الثورة الصناعية الأولى، "بأن كثيراً من صفات الطبقة العاملة لا تتوفر في العاملين الذهنيين. لأن هؤلاء ليسوا ممن استقر وصفهم بالطبقة العاملة. بل هم أساساً من الطبقات الوسطى. وهم موصوفون بالمثقفين". ويتابع محمد سيد أحمد: "إن فرضية ضمنية في نظرية "صراع الطبقات" هي أن القضاء على الطبقة الرجعية لا يعني التمادي في ممارسة الصراع إلى حد القضاء على البشرية ككل. وإنما يعني إنجاز حلقة أكثر تقدماً على الدوام صوب تحرير البشرية، وخلق ظروف أكثر مواتاة لازدهارها، أي أن القضاء على "جزء" من المجتمع البشري (الجزء المعطل لعملية التحرير) هو شكل من أشكال إعطاء دفعة للمجتمع كي يتقدم "ككل"، وتمكينه من التقدم بشكل أفضل. بينما الجديد في القوى التكنولوجية العصرية يشير إلى أن "صراع الطبقات" يحمل خطر تعريض البشرية ككل للإفناء الشامل، سواء بالحرب النووية، أو بتلويث البيئة، أو بالإساءة إلى الكوكب إساءة بالغة بتسخين الغلاف الجوي، أو بثقب الأوزون، الخ..."
واضح من هذا البحث العلمي الدقيق الذي يواكب فيه محمد سيد أحمد التحولات الجارية في العالم المعاصر أن معالجته لأزمة الإشتراكية في المرحلة التي كان فيها النظام الاشتراكي في بلد ثورة أوكتوبر يترنح، هي معالجة مثقف وعالم ومفكر، متحرر من الأسر الذي وقعت فيه الحركة الشيوعية ومجمل قوى اليسار في العالم العربي وفي العالم، ومتحرر من الأفكار المحنطة التي يزعم أصحابها الاستناد إلى فكر ماركس. فالمعروف، كما يعتقد كلانا محمد وأنا، أن فكر ماركس هو، أسوة بكل فكر إنساني، فكر تاريخي. وهو ما أشار إليه ماركس ذاته، حين كان يرفض تحويل فكره إلى عقيدة جامدة، وحين كان يتحدث فيما يشبه التنبؤ إلى تغيرات كبرى ستحصل في العالم في المقبل من الأعوام.
إلا أن هذا البحث الذي قدمه محمد في مطلع العقد الأخير من القرن العشرين، ظلت تغتني الأفكار الواردة فيه، كلما كان يكتشف المزيد من المعلومات عما كان يجري من تحولات سريعة وعميقة في طبيعة العالم المعاصر، ومن معارك علمية، ومن تحولات في تركيبة الكوكب الطبيعية، وفي التغيرات التي كانت تجري في التركيبة العامة للمجتمعات البشرية، في البلدان المتقدمة وفي البلدان المتخلفة على حد سواء.
في البحث الثاني حول مفهوم اليسار مستقبلاً يدخل محمد سيد أحمد في تعريف اليسار منذ الثورة الفرنسية، حتى يومنا هذا . ثم يتجاوز في بحثه المصدر الأول لكلمة يسار، ليدخل في تحديد العناصر التي تجعل "اليسار" بمدارسه المختلفة في عصرنا، من اليسار الماركسي إلى سائر مدارس اليسار، محاولاً استخلاص ما هو ضروري في الوقت الراهن لإعطاء معنى معاصر لليسار، بصفته يحمل ، من حيث المبدأ، مشروعاً للتغيير يؤمن في الآن ذاته التقدم والحرية والسعادة للبشر، في شروط العصر وليس خارج هذه الشروط. والمقصود بهذا التعريف من قبله هو أن عدداً من المفاهيم والمقولات القديمة، الماركسية أساساً، لم تعد صالحة للعصر الجديد. وصار من الضروري استبدالها بمفاهيم ومقولات جديدة معاصرة، لكي يكون بمقدور حاملي صفة اليسار بهذا المعنى أن يحققوا أهدافهم في إحداث التغيير. ومن أهم ما يلفت النظر إليه محمد في بحثه هذا إشارته إلى ضرورة فهم معنى التحولات بما في ذلك ما يتصل منها بمقولة التقدم ذاته. يقول محمد في محاولة تحديده لمفهوم اليسار اليوم: ".. لذلك أصبح مطروحاً اكتشاف- بل وربما ابتداع- معنى لكلمة اليسار يلائم تجارب عصرنا وما جرى فيه من تحولات. وهذا مدعاة لطرح أسئلة غير مألوفة. منها، على سبيل المثال: هل الانتساب إلى اليسارقضية أيديولوجية في المقام الأول؟ هل هو انتساب إلى نظام؟ إلى دولة؟ إلى مجموعة دول؟ إلى كتلة دولية؟ إلى قطب دولي؟ .. مؤكد أن هناك حاجة إلى تجاوز المفهوم التقليدي لليسار. والسؤال المطروح هو معنى هذا التجاوز وإطاره".
لكن محمد يجيب عن السؤال عن مستقبل اليسار بالإقرار بأن ثمة ميزة خاصة لمعنى التمسك بفكرة أن لليسار مستقبلاً. ذلك أن هذا التمسك يشكل رداً على المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما صاحب نظرية "نهاية التاريخ"، بمعنى، كما يقول محمد سيد أحمد مفسراً فكرة فوكوياما، "أن الصراع الأيديولوجي قد انتهى بسقوط الشيوعية (إثر سقوط الفاشية)، وأن الفكر الليبرالي بركيزتيه الديمقراطية واقتصاد السوق أصبح الفكر الوحيد السائد والمرجعية الوحيدة.." ويعلّق محمد سيد أحمد قائلاً: " إن لمفهوم اليسار قدراً من المرونة يجيز إكسابه مدلولات جديدة أكثر تكيفاً مع عصر جديد، مدلولات تلبي متطلبات إجراء مراجعات شاملة، دون الالتزام بمرجعيات طبقية صارمة التحديد تتهددنا بالوقوع فريسة الجمود، وأسرى قوالب مصبوبة عفا عليها الزمن، وتقف عقبة في وجه الإجتهادات التي يقتضيها عصر مختلف".. يشير هذا البحث القيّم الحافل بالكثير من الأفكار إلى عمق رؤية محمد سيد أحمد للعالم ولكيفية مواجهة التحولات الجارية فيه، بإيجابياتها وبسلبياتها، في شكل صحيح ليسهم في تحقيق ما يتصل بأهداف اليسار المعاصر. ذلك أنه لا بد من أن تستمر وتتطور وتتعمق الحركة التي تحمل اسم اليسار بالمعنى المعاصر للمفهوم، حاملة معها طموحات البشرية بإحداث تغيير، يخفف من الآلام والمآسي والحروب وأشكال التمييز والظلم والقهر والاستغلال، وبالوقوف في وجه توحش العنصريات على اختلافها، بما فيها التي يستند أصحابها إلى " التقدم" الذي حققته البلدان الرأسمالية، أم تلك التي تستند إلى الغرائز المستنفرة، وإلى البدع والخرافات، باسم الأديان ضد قيمها الروحية. وكلا هذين النوعين من العنصريات يكملان الواحدة منهما الأخرى، في عملية التدمير المتواصلة لحياة الإنسان وللكوكب الأرضي.
غادر محمد سيد أحمد الحياة في لحظة تاريخية فائقة الصعوبة في مصر وفي العالم العربي. وإني لأشهد، في آخر حديث جرى بيني وبينه في طريق عودتنا من الإسكندرية إلى القاهرة في القطار، بعد انتهاء أعمال مؤتمر مكتبة الإسكندرية في عام 2004، أشهد أنه كان قلقاً على المستقبل. كان يعبّر لي بصدق ومرارة عما يشبه اليأس من إمكان إحداث تغيير قريب، في عالمنا العربي وفي العالم. لكننا أنهينا حديثنا بالاتفاق على البقاء في التفاؤل، حتى لو كان هذا التفاؤل يحمل بعض السذاجة ونوعاً من الحلم الطوباوي.
لمزيد من مقالات كريم مروَّة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.