رسميًا رابط نتيجة تنسيق جامعة الأزهر 2025.. طب 95.08% وهندسة 89.54% وصيدلة 92.15%    هبوط عالمي في سعر الذهب اليوم الخميس 18-9-2025 بعد قرار الفيدرالي الأمريكي الأخير    محمود محيي الدين عن تصريح «الاقتصاد المصري لم يتحرك منذ 2015»: أرقام البنك الدولي الرسمية هي المرجع    أوكرانيا تتسلم المزيد من جثامين جنودها من موسكو    فيريرا يشيد ب عبدالله السعيد.. ويؤكد: نركز حاليا على لقاء الجونة    «تواجد بابي بادجي».. قائمة سموحة لمباراة حرس الحدود في الدوري    التشكيل الرسمي لمباراة برشلونة ضد نيوكاسل في دوري أبطال أوروبا    قبل صهرها وبيعها.. كاميرا مراقبة ترصد إتلاف «الإسورة الأثرية» في الصاغة بعد سرقتها من المتحف المصري    بيان تحذيري عاجل بشأن اضطراب حالة البحر في الإسكندرية غدًا الجمعة    انطلاق فعاليات الدورة الأولى من مهرجان بورسعيد السينمائي    ندوة توعوية لمركز التنمية الشبابية بالإسماعيلية حول حقوق ومسؤوليات ذوي الهمم    لدعم الطلاب الجدد.. طفرة في الخدمات المقدمة من جامعة حلوان| تفاصيل    محافظ المنيا يتفقد قافلة لبيع السلع الغذائية الأساسية بأسعار مخفضة    رئيس «العربية للتصنيع» يبحث مع وزير دفاع جامبيا أوجه التعاون المقترحة    التمثيل العمالي بجدة يبحث مطالب 250 عاملًا مصريًا بشركة مقاولات    ننشر خطوات تجديد رخصة القيادة إلكترونيًا    محافظ المنيا: حملات مستمرة للتفتيش على الأسواق    محمد بركات يكتب: أمريكا وجرائم إسرائيل    رحاب الجمل: محمد رمضان موهوب وذكي ورفضت دور بسبب ابني وزوجي    أحلام الكلب وربيع اليمامة    افتتاح 5 مشروعات طبية جديدة خلال احتفالات البحيرة بعيدها القومى    وزير الرياضة: قطاعا الصحة والرياضة ركيزتان لبناء الإنسان المصري    بعد سرقتها وصهرها وبيعها للصاغة.. 5 معلومات عن إسورة الملك أمنمؤوبي    ما حكم تبديل سلعة بسلعة؟.. أمين الفتوى يجيب    7 أخبار رياضية لاتفوتك اليوم    الرئيس الكازاخي لوفد أزهري: تجمعني علاقات ود وصداقة بالرئيس السيسي    تأجيل نظر تجديد حبس "علياء قمرون" بتهمة خدش الحياء العام ل 20 سبتمبر    رغم الحرب والحصار.. فلسطين تطلق رؤيتها نحو المستقبل 2050    ليس صلاح.. كيليان مبابي يتوقع الفائز بجائزة الكرة الذهبية    المقاولون العرب يكشف عن هوية المدرب المؤقت بعد رحيل محمد مكي    بكين: لن نسمح باستقلال تايوان والعالم بين السلام والحرب    هدى المفتي تخطف الأنظار بإطلالة مختلفة من كواليس إعلانها الجديد    «هربانة منهم».. نساء هذه الأبراج الأكثر جنونًا    الكابينة الفردي ب850 جنيهًا.. مواعيد وأسعار قطارات النوم اليوم الخميس    استمتع بصلواتك مواقيت الصلاة اليوم الخميس 18سبتمبر2025 في المنيا    الإمام الأكبر يكرِّم الطلاب الأوائل في حفظ «الخريدة البهية»    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 18-9-2025 في بني سويف    هل تواجد امرأة في بلكونة المسجد وقت العذر الشرعي يُعتبر جلوسا داخله؟.. أمين الفتوى يوضح    جامعة أسيوط تجدد تعاونها مع الجامعة المصرية للتعلم الإلكتروني الأهلية في المجالات الأكاديمية والبحثية    البورصة المصرية تربح 15.5 مليار جنيه في ختام تعاملات الخميس    الصحة: تقليص معدل الإنجاب وتحسين الخصائص السكانية في 7 محافظات    إصابة 4 أشخاص إثر انقلاب سيارة في الوادي الجديد    سرقتها أخصائية ترميم.. الداخلية تتمكن من ضبط مرتكبى واقعة سرقة أسورة ذهبية من المتحف المصرى    هل اقترب موعد زفافها؟.. إيناس الدغيدي وعريسها المنتظر يشعلان مواقع التواصل    يوفنتوس يتحرك لضم برناردو سيلفا من مان سيتي    300 مليون جنيه لاستكمال مشروع إحلال وتجديد مساكن المغتربين في نصر النوبة بأسوان    ملك إسبانيا في الأقصر.. ننشر جدول الزيارة الكامل    سرداب دشنا.. صور جديدة من مكان التنقيب عن الآثار داخل مكتب صحة بقنا    ديستيني كوسيسو خليفة ميسي ويامال يتألق فى أكاديمية لا ماسيا    التأمين الصحي الشامل: 495 جهة حاصلة على الاعتماد متعاقدة مع المنظومة حتى أغسطس 2025    «أنتي بليوشن» تعتزم إنشاء مشروع لمعالجة المخلفات البحرية بإستثمارات 150 مليون دولار    مورينيو يرحب بالعودة لتدريب بنفيكا بعد رحيل لاجي    جبران: تحرير 3676 محضرًا خاصًا بتراخيص عمل الأجانب خلال 5 أيام فقط    مصر وروسيا تبحثان سبل التعاون بمجالات التعليم الطبي والسياحة العلاجية    الهلال الأحمر يدفع بأكثر من 80 ألف سلة غذائية للأشقاء الفلسطينيين عبر قافلة «زاد العزة» ال 40    مفوضية اللاجئين ترحب بخارطة طريق لحل أزمة السويداء وتؤكد دعم النازحين    ملك إسبانيا: المتحف الكبير أيقونة مصر السياحية والثقافية الجديدة    وزير الخارجية يتوجه إلى السعودية لإجراء لقاءات مع كبار المسؤولين في المملكة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«أن تفعل الأشياء بدون النظر..إلي العواقب» الرجل الغني
نشر في الأهالي يوم 24 - 04 - 2010

كان محمد سيد أحمد، يكره و«يتألم» من فكرة أن هناك أغنياء وفقراء، فالذي يعطيه والده مصروفا للاستمتاع في باريس قبل الدراسة في انجلترا فيتبرع به للحزب الشيوعي والذي يأخذ قسما كبيرا من ماله (3 آلاف جنيه وقتذاك) الموروث عن الأب للتبرع للمجهود الحربي بعد الثورة والذي يرحب بسياسات الدولة التي لا تترك لعائلته الغنية -كان أبوه من الباشوات ملاك الأراضي ومحافظا لبورسعيد قبل الثورة- سوي البيت الذي يعيشون فيه، لا سيارة ولا فيلا ولا مصيفاً خاصاً هو شخص يحب العدل والمساواة بحق.
«محمد سيد أحمد: لمحات من حياة غنية» بتقديم محمد حسنين هيكل وإصدار دار الشروق كتاب قد يتعرض للظلم مثل صاحبه، فالكتب التي تجمع مقالات عن راحلين وخاصة من المفكرين والمناضلين ينظر إليها ككتب تأبينية لا تضيف الجديد أو غير جذابة فمن ناحية لا تقدم جديدا «للرفاق» الذين عرفوا الراحل، ومن ناحية هي قد تكون فعلا غير شيقة وتعريفية بشكل عابر بالنسبة للأجيال اللاحقة خاصة إذا كانت غير مسيسة أو غير معنية بالسياسة ولا ننسي أن الجيل الحالي من الشباب المصري - في أكثره - له أبطال آخرون صنعتهم إرادة سياسية لا تريد للجيل المطالبة أو الوعي بحقوقه، وبالنسبة لي، استلزم الأمر شحذ بعض الحماس لأنني لا أكتب عن كتاب لمحمد سيد أحمد بل عن كتاب عن محمد سيد أحمد وفوق هذا هو مجموعة مقالات.
جاء القسم الأول زاخرا بالدفء، الكتابة تميد بالحنين تشمل الزوجة والأبناء والابنة غير البيولوجية والأقارب «أمينة رشيد ومحمد الشواربي» وجاء القسمان التاليان وأحدهما بعنوان «سنوات الصراع» والثاني «تحية لمحمد سيد أحمد» بزخم وتقييم عميقين ومعلومات مهمة شملت أسماء فاعلة في حياة وتكوين فكر الراحل أو الاشتباك الفكري معه.. ياسر علوي، كلوفيس مقصود، ألبير أرييه، أنور عبدالملك، إريك رولو، ريتشارد فولك، جميل مطر، كريم مروة، حسين عبدالرازق، وغيرهم الكثير، فيما القسم الرابع الأخير الذي عنوانه «هكذا تكلم محمد سيد أحمد» ويتماهي عنوانه مع «هكذا تكلم زراد شتة لنيتشه»، تبزغ قيمته من كونه شهادة في الحركة الشيوعية المصرية قدمها الراحل في التسعينيات من القرن الماضي أثارت جدلا كبيرا لا نستغربه عندما نقرأها ونضع أيدينا علي استقراءاتها، بينما لا يحرمنا الكتاب الذي من إعداد وتحرير مني عبدالعظيم أنيس من الصور العائلية أو التي مع شخصيات رسمية في نهاية المتن.
لطالما تساءلت حين كنت أستمع إلي حكايات من تعرضوا للاعتقال في بلدنا مصر، لماذا يتعرض الإنسان للسجن من أجل فكرة يؤمن بها، خاصة إذا كانت تنادي بالمساواة والعدل الاجتماعيين؟.
كنت لا أفهم كيف للثورة في مصر أن تأكل أبناءها وتنقلب عليهم فتفتح السجون لمن كانوا من أخلص الوطنيين وخيرة العقول، بدلا من أن توليهم المناصب التي يؤهلهم إخلاصهم وإيمانهم بالوطن والناس لها، وكانت دهشتي تشتد حين أتأمل أن أغلب من تعرضوا للسجن لسنوات من تاريخ مصر المعاصر كانوا من الشيوعيين «وإن جاء الإسلاميون في تاريخ لاحق»، كيف - كنت أتساءل - تحبس ثورة ترفع شعار مثل «حرية، اشتراكية، وحدة» وهي أمور آمن بها أبي وأمي وربيانا علي قيمتها ومعناها، أنا التي سارت جدة لها في مظاهرات مدرسة السنية تطالب بالاستقلال وهتفت جدتها الأخري لدي زيارة سعد زغلول للإسماعيلية «اهتفوا معي يحيا سعد» فسلم عليها بكلتا يديه وخرج أبوها في مظاهرات تنادي بالاستقلال والجلاء، كيف تأتي الثورة المصرية لتحبس أي مصري بتهمة الشيوعية؟.
وبقيت أسئلتي لسنوات من البراءة بلا إجابة أو ربما أحزنتني الإجابة فتظاهرت بعدم وجودها.
الجذور الأرستقراطية
فإن يقبض علي محمد سيد أحمد أيام الملكية بتهمة الشيوعية ليس بمستغرب لكن أن يقبض عليه أيام اشتراكية عبدالناصر، هذا هو غير المقبول، حتي وإن كان هو كما يعترف في شهادته كان مع غيره من الشيوعيين حتي بدايات 1955 ينظر للضباط الأحرار علي أنهم مجموعة فاشية، لذا ظلت مأساة سجن الأنقياء من المؤمنين بالفكر الاشتراكي، الذين حلموا بالمساواة وصدقوا حلمهم تستولي علي تفكيري مع كل اعتقال أقرأ عنه - كتاريخ - بالنسبة لمن كانوا من الطبقات العادية وحتي الأرستقراطية في المجتمع.
أناس اختاروا المشقة لا الراحة، الحرمان لا الدعة، التهديد لا الطمأنينة والتعذيب الجسدي لا النوم في الأسرة، وبقوا الخلص الذين لم يكفروا بالفكرة سواء بعد اعتقالهم بسببها، أو بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وبروز عالم القطب الواحد المتوحش والكريه.
تأملت أيضا الجذور الأرستقراطية لكثير ممن احتضنوا الاشتراكية: إنجي أفلاطون، نبيل الهلالي، محمد سيد أحمد وغيرهم، لم تكن الاشتراكية لدي هؤلاء فولكلورا أو موضة علي الرغم من الصدق الذي كتب به سيد أحمد بشأن تفسير إقبال الطبقة المصرية العليا علي الشيوعية في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، أفهم الآن كيف لتفسيره - علي الأقل بالنسبة لنفسه أو لحالته أن يكون محرجا لليسار المصري وهو يعلل دوافع محاولات القيادات اليهودية في التنظيمات الشيوعية بمصر تجنيد أبناء تلك الطبقة من المصريين عبر كوادر المدرسين الفرنسيين اليهود في مدارس النخبة «وهم أنفسهم متمصرون» بهدف تأمين هويتهم هم وضمان سلامتهم.. ثم إنه يقر بما نعرفه وهو أن الشيوعية بعد معركة ستالينجراد واستعادة الغرب دوره بفضل انتصار السوفييت الحاسم علي هتلر جعل للشيوعية جاذبية لا تقهر من حيث الرمز لمعارك التحرير من المستعمر، والحقيقة حتي اليوم لا نري جاذبية لدي المثقفين اليمينيين الذين يبدون كأنما يدافعون باستمرار عن فكرة أستطيع وصفها ب «طبيعية الظلم».. «طبيعية» أو «حتمية» الفقر، و«طبيعية» الاحتكار وهيمنة دولة علي أخري وقهرها وعدم المساواة.. بينما تنطوي فكرة الشيوعية ذاتها القائلة بالمساواة علي جاذبية أصلية، ولعل تحليل سيد أحمد لا ينطبع علي جميع الشيوعيين المصريين فيما يتصل بأسباب وطرق التجنيد والانضمام لكن هو نفسه قدم برهانا تلو البرهان - بشهادة من عرفوه - علي أنه كان يكره و«يتأثم» من فكرة أن هناك أغنياء وفقراء، فالذي يعطيه والده مصروفا للاستمتاع في باريس قبل الدراسة في انجلترا فيتبرع به للحزب الشيوعي والذي يأخذ قسما كبيرا من ماله (3 آلاف جنيه وقتذاك) الموروث عن الأب للتبرع للمجهود الحربي بعد الثورة والذي يرحب بسياسات الدولة التي لا تترك لعائلته الغنية «كان أبوه من الباشوات ملاك الأراضي ومحافظا لبورسعيد قبل الثورة» سوي البيت الذي يعيشون فيه، لا سيارة ولا فيلا ولا مصيفاً خاصا هو شخص يحب العدل والمساواة بحق.
حركة بدون عمال
تذكرت لدي القراءة صديقة راحلة لي من أيام المدرسة تنتمي من أحد الأجداد للعبد باشا ومن جدها لأمها للطويل باشا.. كانت - رحمها الله - تدين سياسات عبدالناصر في الإصلاح الزراعي بشدة بسبب فقدان أراضي العائلة فقاطعتها مرة «أنت لا ترين سوي خسارة عائلتك لكن ماذا عن المصلحة العامة للشعب؟» إذن محمد سيد أحمد «اختار» وظل يختار طوال حياته بأثمان ذلك، هذا ما يستحق الاحترام واللافت تشريح محمد سيد أحمد هنا - في شهادته - للمراحل الثلاث «كما يصفها» في تطور عمل الحركة الشيوعية في مصر حيث تطور الأمر من قيادات أجنبية متمصرة إلي مرحلة التمصير التي لم تتبعها مرحلة «التعميل» أو تجنيد العمال، وهو لا ينكر ابتعاد البعد القومي عن الأجندة السياسية لنشاطه الشيوعي الأول لصالح البعد الأممي كما نعلم حتي إنه يعترف أنه كان قاصرا تماما في البداية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.. إذن يري في تاريخ الحركة الشيوعية ثلاث مراحل: المرحلة اليهودية، ثم المرحلة القومية خاصة مع حرب 1948 في فلسطين ثم قيام ثورة يوليو لكن الحركة لم يقدها العمال أبدا.
ويذكرني رأيه في أن الواقع الموضوعي تختلف صورته باختلاف موقع المراقب دون أن يعني ذلك عدم وجوده فقط لتعدد صوره، ولا أنه غير قابل للمعرفة، بجزء من نقاشاتي مع بعض الأصهار وأصدقاء أخي من ناحية ومع بعض أصدقائي الماديين الجدليين من ناحية أخري، أن الأمور نسبية هذه حقيقة، أنا فقيرة بالنسبة للمليونير وخادمتنا فقيرة بالنسبة لنا، لكن أن هناك «فقر» هكذا بحروف كبيرة و«عدل» و«ظلم» علي نطاقات فاحشة دون أن أقبل ذلك علي أنه من طبائع الأمور، هذه حقيقة أيضا، وإنكار أن تلك أمور يمكن وأيضا يجب تغييرها أقل ما يوصف به أنه تدليس أخلاقي هدفه تبريري رديء، والمنهج الظاهراتي الذي ينظر «يقوم بالتنظير» للظاهرة ويظل يتعامل معها هكذا دون ربط بالأسباب الواقعية، أو حتي لتحاشي التعرض لتلك الأسباب بغية عزلها عن الواقع، وبالنتيجة غسل اليدين أحيانا من قيمة معالجتها وإبراز سبل ذلك هو منهج قد يقترب من الجريمة بل ويمكن أن نتهمه - أحيانا - إما بالخبث وإما بالجبن السياسي والأخلاقي معا.
يشير حسين عبدالرازق إلي دور الصدفة في نجاة سيد أحمد من اعتقالات السادات للمثقفين عام 1981 حيث كان خارج مصر فبدأ حملة إعلامية موسعة في باريس ولندن وروما عبر البي بي سي وقنوات التلفزة في تلك البلدان لإنقاذ المعتقلين مما شاع وقتها عن احتمال عقد محاكمات صورية لهم هدفها إصدار الأحكام المغلظة تأسيسا علي التهم التقليدية التي تتوارثها أنظمة القهر من «خيانة وتجسس».
كلما أقرأ بالكتاب - كنت أشعر - مثلما شعرت حيال بعض أبرز من ولدوا بهذا الوطن، محمود أمين العالم، عبدالوهاب المسيري، وكل معارض مخلص، أشعر بالخسارة، فهذا رجل جاء ورحل دون أن يستفيد منه البلد بل علي العكس تم تعطيل مسيرته بالسجن والملاحقة قدر الإمكان إذ سجن من 1950 - 1952 ومن 1959 - 1964.
إنسانية فريدة
ويشير أغلب من كتبوا عن سيد أحمد إلي صفة مهمة لديه عدا التواضع والإنسانية العالية: القدرة علي مراجعة النفس وتغيير الرأي إن بدا الرأي الآخر أكثر صوابا، أو ما يحمله الواقع من مراجعة حتمية للرأي والموقف الأصلي، هكذا كان إنسانا وماديا جدليا بامتياز.
وهي صفة العالم الرحيب، قد نجدها في أكثر المثقفين التقدميين الأوروبيين مثلا لكنها نادرة في المجتمع العربي حتي بين المثقفين، حيث نري أحيانا صلافة فكرية وأخلاقية تتمسك بعدم الاعتراف بالخطأ في التقدير والتحليل ومن ثم في النتائج، يبرز هذا عبر أكثر من موقف لسيد أحمد كما يتضح من تاريخه وفي الكتاب مثل نفض يديه من اتفاقية أوسلو رغم تبشيره بالسلام العادل في كتابه «بعد أن تسكت المدافع» وواقعية نظراته لنتائج السيبرنطيقا علي المجتمعات البشرية وقضية مجتمع ما بعد الرأسمالية، وهنا تسطع هذه الخصيصة الجميلة في شخصية ذلك المناضل الذي يقول عمن ينتقده فكريا «إبراهيم فتحي مثلا» «هو في صفي إذا كان منطقه سديدا، وهو في الجانب الآخر إذا كان يتحدث علي نحو غير متسق حتي لو كان يدافع عني»، لأن الباحث عن الحقيقة مثله يملك أن يكون شجاعا بما يكفي لدفع أثمانها، والاختيار يستلزم مسبقا التوفر علي الخصائص التي أملته، ويلبي احتياجه لتطوير اتساقه الذاتي عبر نقد الآخر له، مصداقيته من ناحية إذ ينطوي علي عمق إيمانه بفكرته وعدم التضحية بنصاعتها عبر أي دعاوي تكتيكية لإخفاء الحقيقة أو عدم قولها كاملة ما يعكس اعتداده بقوة الفكرة الكامنة في ذاتها التي تمكنها من الصمود في وجه النقد والتعرية، كما يلبي الولاء أو الأولوية للقيمة التي شُغف بها وهي البحث عن الحقيقة التي وجدها أوائل حياته في ماركسية طور فهمه لها، كما تطالبنا هي ذاتها بعدم الجمود، وقيمة الحقيقة يحرص عليها «الطوباوي» أكثر من السياسي، وذلك ما دفع محمد سيد أحمد لكتابة مقال في «الأهالي» منذ سنوات عدة روي أنه شكل صدمة للرفاق من اليسار المصري حين حكي بصراحة عن تجاربه في منظمة الشيوعيين المصريين كمجموعة وصفها بتنظيم التكفير والهجرة الشيوعي في الأربعينيات، وهو ما كان بالسياسي «الذي يحسبها» ليكرر دعاوي منتقديه عن دور مقاله في تغذية هجمات القوي المحافظة المعادية لليسار، فسيد أحمد اضطر أن يواجه صدمة المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي بعد طول بكاء علي ستالين.
فيما بعد حل الحركة الشيوعية المصرية لمنظماتها اختياريا وانضمام أكثر قياداتها للاتحاد الاشتراكي الذي جاء في رأيه نتاج صفقة بين عبدالناصر وخروتشوف، يعترف سيد أحمد بكاريزما الأول: «وهكذا سلب منا عبدالناصر التاريخ، فقد أصبح هو التاريخ، وذلك ما منعنا أن ننتقده».
سجون الحلفاء
أن تسجن من قبل نظام تؤيد سياساته هو أمر مذهل بطريقة عبثية.
أمام تجربة سجن الراحل المناضل د. فتحي عبدالفتاح والتي كان يحكيها لنا وأمام سجن آخرين أحببتهم في اليسار المصري كان يجب أن يوجد ما تقدمه ذاكرة هذا الوطن للتلاميذ والشباب أنصع من هذا، ربما لكي لا نلقي باللائمة كلها علي اللحظة الفارقة في تاريخنا المصري المعاصر المتمثلة في حرب 1967 باعتبارها بداية نكسة المجتمع وتعرية آليات إدارة السلطة وانهيار القيم الوطنية التي آمنا بها وخلخلة اليقين السابق في زعامتنا.
فكيف كان يفترض أن تستقبل حتي أجيال ما بعد 1967 ما اختارت الثورة أو بالأحري النظام ارتكابه بحق مواطنين مصريين من 1959 وحتي 1964؟ لأن تآكل الوجدان القومي والشعور بالاعتزاز بالذات والحرص علي الهوية ووضوح القيم والهدف القومي المشترك والثقة في علاقة المحكوم بالحاكم، وحبه، أي عدم فقدان البوصلة والمعني كلها أمور لم نصح من نومنا فجأة بعد 1967 ووجدناها.
إلي أي مدي صمدت أو نجحت التفسيرات «تفسير محمد سيد أحمد وغيره» القائلة بأن اعتقال اليسار مثلا «ليجيب عن أسئلتي المدهوشة بهذا الصدد» كان نتاج ممارسات جناح غير يساري داخل النظام الاشتراكي الناصري؟، هل يعني ذلك - لو صح - قمة الهرم؟، بالطبع لا، لكنه قد يكون الحقيقة أو جزءاً منها، ولو كانت فإن حجم الخلل المترتب علي المسافة بين اللافتة التي رفعها النظام وممارساته خاصة في طريق الحرية والديمقراطية، ربما يكون مسئولا عن إفراز الخلل اللاحق في مجتمع اندفع بأقصاه في الاتجاه المضاد سياسيا واقتصاديا مع عصر السادات حتي لو كان الرئيس دوما هو الذي يعلي - علي أبجديات التحول - وإن بضغوط خارجية - وسرعته وربما هنا نجد ترجمة شعبية لواقع ذلك التحول غير الحذر أو المدروس الذي حدث من منطلق «جربنا الروس، لنجرب الأمريكان» لكني أستطيع أن أقول «لقد جربنا الاثنين، فلماذا الآن لا نجرب المصريين - أنفسنا!».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.