الحزب الشيوعي من النشأة القوية الي الهزيمة في الحرب الثقافية تأسس الحزب الشيوعي الأمريكي في عام 1919. ومن المؤكد ان يدعو هذا كثيرين الي الاعتقاد انه تاسس تحت تأثير ثورة اكتوبر الاشتركية (1917) التي حملت الشيوعيين الي الحكم للمرة الاولي في اوروبا. ولكن الحقيقة هي ان الحزب الشيوعي الأمريكي تأثر في نشأته بتجارب الاشتراكيين الأمريكيين وبصفة خاصة تجربة الحزب الاشتراكي الأمريكي الممتدة والخصبة التي تميزت بها سنواته الاولي - العصر الذهبي للفكر الاشتراكي والتنظيم الاشتراكي في الولاياتالمتحدة، وكذلك تأثر مسار الحزب الشيوعي لاحقا بفترة إعادة احياء الحركة الاشتراكية باطلاق طاقات الحزب الاشتراكي مرة اخري بزعامة نورمان توماس. وقد بقي التأثير المتبادل بين الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي ايجابيا وسلبيا علي مدي السنوات حتي حقبة الخمسينيات. والامر المؤكد ان اكبر تأثيرات الحزب الاشتراكي التي ادت الي تأسيس الحزب الشيوعي كانت من جانب يسار الحزب الاشتراكي. وما كان يقترحه هذا اليسار من سياسات بديلة ومن تنشيط لحركات العمال الصناعيين. وليس معني هذا ان اليساريين في الحزب الاشتراكي هم فقط الذين أسسوا الحزب الشيوعي الأمريكي من البداية، بل ان الاشتراكيين لم يلعبوا وحدهم دورا اساسيا في رسم سياسات الحزب الشيوعي عند نشأته. مع ذلك كان من الاشتراكيين كثيرون شكلوا بدايات عضوية الحزب الشيوعي، فكانوا هم موجته الاولي. المهاجرون أيضا وكما حدث مع الحزب الاشتراكي حيث لعب الاوروبيون المهاجرون أدوارا بارزة في الحركة فان الحزب الشيوعي لم يكن استثناء من هذا. فقد ادي المهاجرون من اوروبا ومواليد البلاد الأمريكية أدوارا متباينة في نشأة الحزب الشيوعي علي الرغم من انها أتت متأخرة عن التنظيمات الاشتراكية التي سبقته. ولكن تأخر تأسيس الحزب كان معناه انهم اتوا في الفترة التي تلت بعد سنوات موت ماركس وانجلز بعده، فكانت التأثيرات الفكرية اقرب الي ان تكون بأفكار لينين وروزا لوكسمبورج وكذلك افكار تروتسكي، الذي حدثت بينه وبين ستالين خلافات ايديولوجية وسياسية وشخصية حادة ادت الي هجرة تروتسكي الي اوروبا ثم الي المكسيك المتاخمة للولايات المتحدة وهناك اغتيل في عام 1940. الاضطهاد والعزلة منذ تأسيسه لعب الحزب الشيوعي الأمريكي دورا في الحركات الاجتماعية الأمريكية اتصف بالاهمية وان يكن الحزب نفسه لم يستطع ان يرقي الي مستوي فائق سياسيا في الحياة العامة الأمريكية علي نحو ما فعل الحزب الاشتراكي. وقد تمكن الحزب الشيوعي في اكثر فتراته حيوية وديناميكية من توجيه العديد من التنظيمات والتحالفات غير الحزبية التي كانت تضم اعدادا من الاعضاء تفوق ما كان يضمه الحزب نفسه. لكن الحزب في اوقات اخري لجأ الي نوع من العزلة عندما وجد نفسه مضطرا لان يركز مجمل جهوده علي الافلات بحياته من الاضطهاد الحكومي. ولقد كان الاشتراكيون الذين كانوا اكثر ميلا الي اليسار وانضموا الي الحزب الشيوعي ممن عارضوا انهماك الحزب الاشتراكي في العمليات الانتخابية الأمريكية بما فيها انتخابات الرئاسة. فقد كان الشيوعيون اكثر ميلا الي "الطريق الثوري" اي الاعتماد المباشر علي حركة الجماهير الجماعية الي التغيير أو الي السلطة. وفي مرحلة لاحقة ظهر ميل الشيوعيين الأمريكيين الي فكرة تكوين "الجبهة المتحدة" للوقوف بوجه السلطة. وبسبب سياسة الاضطهاد التي انتهجتها السلطات ضد الحزب فانه تقلب بين الصعود والهبوط، بينما كان يرد عن نفسه اتهامات السلطة بانه يتلقي تعليماته مباشرة من موسكو اي من الحزب الشيوعي السوفييتي. وفي الفترة التي اعقبت نهاية الحرب العالمية الاولي(1918) ساد الاعتقاد بان الاشتراكيين يدينون بافكار وينتهجون سياسات اكثر واقعية بالمقاييس الأمريكية من تلك التي يطرحها الحزب الشيوعي. وفي ذلك الوقت كان الحزب الشيوعي يشجع تكوين تنظيمات تمجد وتشرح مباديء الثورة البلشفية، فتاسست تنظيمات مثل "اصدقاء الثورة الروسية" و "اصدقاء روسياالجديدة" و "المكتب الاعلامي البلشفي الأمريكي". وكان الهدف الاساسي لكل هذه التنظيمات توفير معلومات صحيحة للرأي العام الأمريكي عن الثورة البلشفية. ويؤكد المؤرخ الماركسي الأمريكي بول بوهلي في "موسوعة اليسار الأمريكي" ان هذه المنظمات لم تنشا استجابة لرغبة ابدتها موسكو باي حال انما نشات عن دوافع اميركية بحتة . .. وان كانت السلطات الأمريكية قد صورتها بغير ذلك. ويشير بوهلي الي ان البلاشفة في روسيا لم يكن لهم نفوذ في الولاياتالمتحدة. كما يقول بوهلي ان السنوات الثلاث التي تلت تأسيس الحزب الشيوعي الأمريكي دفعت الشيوعيين للعمل السري (تحت الارض) دون ان يحجبهم ذلك عن نشاط جواسيس السلطة. مع ذلك فقد تمكنوا من تشديد حربهم ضد بعضهم بعضا اليسار ضد اليمين واليمين ضد اليسار. وكان اهم مجالات الصراع ايهم يفوز بعضوية "الكومنتيرن" (الذي كان يضم في عضويته الاحزاب الشيوعية في العالم). الكونترن والجهة لكن الفترة نفسها شهدت جهودا قوية مخلصة من اجل توحيد كلمة الشيوعيين الأمريكيين او حتي توحيد الشيوعيين والاشتراكيين في تنظيم كبير واحد. لكن ما بدا فوق السطح من بين كل الانقسامات ومحاولات الوحدة هو ان الشيوعيين انخرطوا في صراعات مريرة حول امكانية وكيفية تطبيق النموذج الروسي للثورة في الولاياتالمتحدة. وفي هذا المسار كان الجميع ينتظرون باهتمام ما يقرره "الكومنتيرن" في هذا الشأن. وقد ظهرت في تلك الاثناء محاولات لتكوين جبهة يسارية واسعة لحركة العمال والفلاحين الأمريكيين. ولكن هذه المحاولات انتهت الي الفشل لاسباب داخلية اميركية ولاسباب خارجية تتعلق بما كان يوصي به "الكومنتيرن". وادي هذا الفشل الي مزيد من العزلة للحزب الشيوعي الأمريكي الذي كان قد بدأ نوعا من التحالف او التنسيق مع "الحزب التقدمي" بزعامة لا فوليت في حملته لانتخابات الرئاسة عام 1924. وزاد من عزلة الحزب انه انهمك في حملة "بلشفة" كان القصد منها الابتعاد عن ما وصفه الحزب بأنه مؤامرات بلقنة الحزب اي اخضاعه لتقسيمات قومية او عرقية، وكانت هذه المحاولات ترمي الي تقسيمات لغوية داخل التنظيمات التي ساعد الحزب علي تاسيسها، وربما داخل الحزب نفسه. وتوصف هذه الحملة من جانب المؤرخين الأمريكيين وغير الأمريكيين بانها "الحرب الثقافية" التي سيطرت علي أجواء اليسار الأمريكي في عقد العشرينيات من القرن العشرين. وقد كانت لهذه الحرب الثقافية انعكاساتها علي النشاطات الادبية والصحفية والمسرحية في الحياة الأمريكية، بل كانت لها تأثيراتها علي الحياة التربوية، خاصة في مدارس اللغات التي كانت تعلم لغات اوروبا الشرقية لابناء المهاجرين من دول تلك المنطقة. وقد بذل الحزب الشيوعي آنذاك جهودا كبيرة من اجل خلق مؤسسات عرقية ذات توجه راديكالي لتكون لها تأثيراتها علي الحركة العمالية بوجه عام. الا ان هذه الجهود ادت الي اضعاف دور الحزب وكلمته داخل صفوف الطبقة العاملة. فلقد بدا الحزب الشيوعي الأمريكي في هذا المضمار مرتبكا يعاني من غموض في مواقفه وقراراته. فكان من الطبيعي ان يتضاءل نفوذ الحزب داخل الطبقة العاملة الأمريكية. لهذا كان من الطبيعي بالمثل ان توصف نتيجة هذه الحرب الثقافية بانها كانت هزيمة للحزب الشيوعي.